U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

عبد الله كنون يكتب: رئيس الحكومة الساخر

 


تكلم الناس عن لسان الدين ابن الخطيب وزير غرناطة، وأديب الأندلس الكبير بما لا مزيد عليه، فمنهم من خص ناحية من نواحي شخصيته المتعددة، ومنهم من عم كالحافظ المقري صاحب نفح الطيب الذي هو من أكبر الكتب المعروفة التي وضعت في ترجمة شخص معين، وعلى كثرة ما تناول الباحثون هذه الشخصية الفذة وأدبها الخصب بالدرس والتحليل، فإن عنصرا أصيلا في أدب لسان الدين لم يفلت نظر أحد من الباحثين وكان حريا أن يحظى باهتمامهم هو عنصر السخرية في كتاباته.


1- فن السخرية في الأدب العربي



والأدب العربي إن كان يحفل بصور ونماذج بديعة جدا من السخرية في هذا الشعر الذي نسميه شعر الهجاء من لدن العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. فإنه في النثر يقل أن يتخذ أسلوب الفكاهة وسيلة للتعبير وهو أدنى مراتب الأدب الساخر ولذلك بقيت رسالة التربيع والتدوير للجاحظ والرسالة الهزلية لابن زيدون علمين في هذا الباب في الأدب العربي كله.


2- السخرية في الأدب الحديث



وقد ظهر في العصر الحديث كتاب نزعوا في اعمالهم الأدبية إلى الطريقة الهزلية كالمويلحي والبشري والمازني ولكن الإنصاف يقتضينا أن نحكم بأن الجاحظ ما يزال إمام هذه الطريقة، وبذلك نعلم أن أدبنا العربي فقير من هذا الفن وأن سمته الغالبة عليه هي الجدية التي تبلغ أحيانا إلى الحد التزمت ولا أدل على ذلك من أن آثار لسان الدين ابن الخطيب التي تكتسي صبغة الهزل لم تكن من الآثار التي عنى بها المترجمون له والتي ظفرت بتنويههم، مجاراة للتيار العام الذي ابتعد بالأعمال الأدبية عن معاني اللهو والتسلية.


الجاحظ ما يزال إمام هذه الطريقة


3- الحياة ذات وجهين: حزين وضاحك



إن الحياة ذات وجهين، وجه متجهم عابس باسر، ووجه طلق ضاحك مستبشر، ولتصويرها وحكايتها على الأقل يجب أن يكون الأدب معبرا عن الحالتين ومتلمحا لكلا الوجهين، كيف وأن تطالعنا به يوميا من مآس، وما تغرقنا فيه من أحزان، يدعونا إلى أن نقاوم جدها بالهزل وأن نغمر أفراحها وأتراحها بأسباب المرح والحبور؟ ولقد أدرك اليونان ثم الرومان هذه الحقيقة فمثلوا الحياة بمآسيها ومهازلها في أدب حي لم يفتأ الغربيون في نهضتهم الحديثة أن نسجوا على منواله فبلغوا به قمة الإبداع الفني ولم يغفلوا قط عن أن يراوحوا فيه بين الجد والهزل والمأساة والملهاة ويعادلوا بين الكفتين إن لم يرجحوا الثانية على الأولى. وذلك ما يشعر به تقسيمهم الرواية التمثيلية إلى الدراما والميلودراما والكوميدي.


أدرك اليونان ثم الرومان هذه الحقيقة فمثلوا الحياة بمآسيها ومهازلها في أدب حي


4- رئيس حكومة ساخر



ولسان الدين، الذي يقلب بذي الوزارتين، هو كما نعلم رجل الحكم والسياسة والإدارة في دولة الأندلس المتداعية. كان بمثابة الوزير الأول أو رئيس الحكومة في الدولة العصرية بل كان أكثر من ذلك، الشخص الوحيد الذي يشرف على تصريف شؤون الدولة المدنية والعسكرية في مملكة غرناطة في القرن الثامن الهجري "الرابع عشر الميلادي"، أي في الوقت الذي كانت دولة العرب في الأندلس تترنح للسقوط. فكيف تأتى له أمام مشاغلة العديدة والمشاكل المعقدة التي تواجهه كل يوم، أن يفرغ للأدب، وللأدب الساخر على الخصوص؟


كان بمثابة الوزير الأول أو رئيس الحكومة في الدولة العصرية بل كان أكثر من ذلك



والجواب أن لسان الدين هو إحدى معجزات الدهر، فإن أعماله الأدبية بلغت من الكثرة والجودة ما لو قسم على أيام حياته لزاد عليها، والسر في ذلك أنه كان مبتلى بالأرق، فيعد أن يطوى صفحة النهار في تدبير أمور الدولة ينشر صفحة الليل للإنتاج الأدبي، ومن ثم لقب بذي العمرين أيضا. ولكن هذا إن فسر سبب إقباله على الأدب ووفرة تصانيفه، فإنه لا يفسر علة نزوعه إلى السخرية وأخذه بها نفسه في بعض كتاباته الأدبية، بل هو حري أن يكون يكون صارفا له كل ما هو من عبث الحياة ولهوها بسبيل. فإن الأرق داء ولا تسلية مع الداء. غير أن من عرف طبيعة الحياة اللاهية في الأندلس، وما لأهلها من قدرة على إغراق أحزانهم في بحر من المرح والسرور، ولايستغرب أن يقابل لسان الدين حياة البلاط الجادة بوجه متهلل بشوش وأن يمزح والبساط أبعد ما يكون عن المزاح. ويضحك في حين أنه حق بالبكاء. إنها في الحقيقة فسلفة من اكتنه باطن الحياة واستكشف سرها فاستوى عنده البؤس والنعيم والوجد والفقد والإقبال والإدبار فلم يحزن؟ وعلام ييأس؟ أليس خيرا له أن يهزل ويسخر؟.


إنها في الحقيقة فسلفة من اكتنه باطن الحياة واستكشف سرها فاستوى عنده البؤس والنعيم


وهناك جانب آخر من هذا الأدب غلبت عليه صفة الهزء والهمز واللمز، فتجسمت فيه السخرية بمعناها الكامل، ولم يقف عند حد من التنقيص والتحقير. فبأدنى تأمل، يحكم الناقد أنه صادر عن روح التشفي والانتقام وحالة الغضب التي سيطرت على الكاتب فلم يملك معها زمام نفسه حتى قال ما قال.


5- دوافع السخرية السياسية



ذلك أن الدوافع إليه كانت كثيرة، فالرجل في منصبه وجاهه وفضائله، مني بحسد الحاسدين ودس الدساسين، وحينما كان في إقبال من دولته، كان الناس يتهافتون على القرب منه والتودد إليه، فلما تنكر له الدهر واعرضوا عنه وائتمروا به، وكان أشدهم سعيا في ذلك من يعدون من صنائعه وغرس نعمته، ثم رمت به الأقدار إلى حيث جهل قدره وعومل معاملة سيئة. فكان ذلك ما آثار ثائرته واستعل نار غيظه فجرى فلمه بما ذب به عن عرضه وانتقم لنفسه من خصوم لم يكونوا شرفاء.



وهكذا نجد له في هذا الصدد تآليف قائمة بذاتها مثل كتاب خلع الرسن في التعريف بأحوال ابن الحسن وكتاب مثل الطريقة في ذوم الوثيقة، ورسائل المفاضلة بيم مقالة وسلا، فضلا عن ترجمة القاضي ابن الحسن في الكتيبة الكاملة وترجمة ابن زرمك فيها ايضا وغير ذلك، في حين إننا لا نجد له إلا موضوعات قليلة نحى فيها منحى اللهو البريء والمزاح الخفيف، على أن من تآليفه ما يجمع بين الخطتين الاختيار بين المعاهد والدبار، فإن يجرح وياسو، ويليم ويقسو، بحسب المقامات وما تمليه عليه نزعاته النفسية.


6- تصانيفه في السخرية



وابن الحسن الذي ألف فيه كتاب "خلع الرسن" هو القاضي أبو الحسن عبد الله النباهي المالقي، قاضي غرناطة الذي أبدأ وأعاد في التحريض على لسان الدين وإقامة الحجج والبينات على كفره وزندقته توصلا لاستحلال دمه وإزهاق روحه لما خانته دولته ولجأ إلى المغرب من خاصة أودائه وخلاصة أصدقائه، ولقد هم بالقدوم إلى المغرب لإقامة دعوى الإلحاد عليه لولا أن الدولة في المغرب حمت نزيلها وردت كيد أعدائه في نحورهم قائلة لماذا لم تقوموا بهذه الحملة عليه لما كان بين ظهرانيكم فخسئوا وذلوا. وكان من النتائج الطبيعية لهذا الموقف المخزي من القاضي ابن الحسن أن يؤلف لسان الدين كتابه خلع الرسن في بيان مساوئ هذا القاضي ويرفعه للسلطان أبي فارس المريني ملك المغرب الذي حماه ودافع عنه.


قاضي غرناطة الذي أبدأ وأعاد في التحريض على لسان الدين وإقامة الحجج والبينات على كفره وزندقته



أما كتاب مثلى الطريقة فكان الذي دعاه لوضعه هو سوء تفاهم وقع له مع بعض الافاضل المتعاطين لصناعة التوثيق، وكان هو بحالة من الغربة وإدبار الدولة جعلته يتوجس من كل قول وعمل يواجه به، إهانة له واستخافا بقدره، فكتب هذه الرسالة في ذم الوثيقة والموثقين والتشهير بهم والتشنيع عليهم، وما كان ذنب صاحبه إلا أنه لم يجب دعوة له مع الاعتذار عن ذلك.


ومن هذا الباب أيضا مقامته في المفاضلة بين مدينتي مالقة وسلا. أن سلا كانت مهوى فؤاد لسان الدين في هجرته إلى المغرب ومحل إقامته في تلك المدة معززا مكرما من أهلها ومن السلطان. فما حدا به إلى الزراية عليها بذلك الشكل الذي ضمنه تلك المقامة الأهاجس من هواجس الحالة النفسية القلقة التي كان عليه كاتبنا إذ ذاك.


فكتب هذه الرسالة في ذم الوثيقة والموثقين والتشهير بهم والتشنيع عليهم



والقول في ابن زمرك وما ترجم له في الكتيبة الكاملة هو مثل القول في القاضي ابن الحسن. فقد كان هذا الأديب من تلامذة لسان الدين وممن درج بين يديه في مناصب الدولة، وهو يعتبر في الحقيقة ربيب نعمته، لكنه لم يحفظ له عهدا ولا ودا ولا راعى فيه إلا ولا ذمة. وكان هو العامل الأساسي في نكبته وقدم بنفسه إلى فاس لما خلا الجو لخصوم ابن الخطيب فلم يقصر في انتقاصه وامتحانه ولم يرجع إلى الأندلس حتى قتل رحمه الله. فلسان الدين إنما كان ينفس عن موجدته بما كتب في حق خلفه على وزارة غرناطة الذي يقنع بأن يرثه في مجده ومنصبه بل سعى في إتلاف نفسه ومضايقته في منفاه البعيد.

أعده للنشر مصطفى بوكرن، مقتبس من كتاب العصف والريحان، لعبد الله كنون، تطوان 1969، ص: 85.




تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة