بقلم: مولود السريري
المتمسك به في هذا الشأن والمعول عليه هو ما كان متعلقه المعنى – فهم مراد المتكلم- لأنه المعتبر في نظرنا، وهو السبيل الصحيح، لأنه الذي به قوام الحياة، ونظام السلوك البشري، وحصول الغاية من وضع اللغة، وهو التواصل، وتبليغ ما في النفوس من معان، وإقامة مصالح الخلق على ذلك.
وكل ما سوى هذا السبيل مما شغل به الغربيون وأتباعهم أنفسهم، في هذا الموضوع لا يعنينا شأنه، بل لا نراه إلا إقرارا لحالتهم العقدية والفلسفية المضطربة.
إذ من المعلوم أن أمر التأويل هذا عند الغربيين قد تسلسلت في ضبطه وتحديد مفهومه وحقيقته مذاهب، فقد كان التأويل عندهم في أول الأمر كغيرهم من الناس، هو بيان ما قصده المتكلم بكلامه، فكان السؤال المسوق في ذلك هو: ما معنى النص؟
ثم تبين لهم أن هذا المسلك ليس بشيء، لأن المعرفة ليست إلا نسبية، فطلب المعنى الحقيقي للنص مع هذا المبدأ مما لا سبيل إليه، فانحصر الطلب في الفهم، وهو بطبعه أمر نسبي لا مفر من اختلاف الناس فيه، باعتبار أنه مما يقوم على درجات المعرفة والأحوال النفسية والاجتماعية وغيرها في نظرهم.
لكن هذا فيه انسلال من الضوابط، وإحالة التصرف فيه على عماية، وخاصة في تأويل النصوص التي قدمت، فسحب التاريخ عليها أغطية الإخفاء، فانتقل الاشتغال إلى البحث عما يضبط هذا الفهم، ويضبط به، ويصير به علميا، وكان الذي عني بهذا الأمر هو "شلايرماخر" الألماني، فاستبدل السؤال الأول وهو: ما معنى النص؟ بسؤال: ما الفهم؟، وقد تبع "شلايرماخر" في هذا السبيل "فيلهلهم دلتاي".
وصورة هذا المذهب الشلايري يتأتى إدراكها بالرجوع إلى ما كتب في هذا الموضوع، فلسنا هنا بصدد الخوض في ذلك لعدم سوق الكلام له، إذ مرادنا هو الإشارة المقتضبة لهذا الأمر فقط.
ثم أتى من بعد هذا "غادامير"، فرأى أن هذا الذي عليه هذا التأويل الشلايري ليس بشيء، وهو إذ فيه التركيز كثيرا على اعتبار الأحوال النفسية لمؤلف النص، وهو ما يقضي بكون النص تعبيرا عن مقاصد المؤلف وتجربته (...) وفيه تقرير أن القراءة علاقة بين القارئ والمؤلف، وهذا كله خطأ، فأنشأن مذهبه في هذا الشأن مبتنى على سؤال: كيف يكون الفهم ممكنا؟
فانتهى فيه إلى أن القراءة علاقة جدلية بين القارئ والنص، وأنه لا بد من دمج آفاق المتلقي والنص –التحيز المسبق الإيجابي- ومن الفصل بين النص ومقاصد المؤلف، ونزع العلاقة الضيقة بين النص والمتلقي (...) وجعل النص سيرورة حوار (...) إلى نهاية ما قرره في هذا الشأن. وذو الرغبة في الاطلاع عل ذلك يرجع إلى ما كتب في هذا الشأن وهو كثير، وفي هذا المقام آراء أخرى، كرأي "هيرش" الأمريكي وغيره.
وكل هذا لا يعنينا أمره، لأنه ثمرات الفلسفة الغربية، إذ من المعلوم أن هذا كله –الذي اكتسبت به مسائل التأويل هذه- ما هو إلا ارتدادات عن الهزة التي أحدثها "هيوم" بتشكيكه في المعرفة المبنية، على مذهبه الحسي التجريبي، وما تلا ذلك من محاولات "كانط"، للتوفيق بين هذا المذهب والمذهب العقلي الديكارتي، مما انتهى إلى ظهور النسبية حلا وسطا بين المذهبين، والملخصة في أن الشيء في ذاته حقيقة لا يمكن إدراكها، فالناس إنما يدركون من ذلك بقدر معارفهم وأحوالهم النفسية والاجتماعية (...) فكل يدرك ما أدركه على وفق ذلك.
ثم انتهى أمر التأويل هذا إلى التفكيكية بعد البنيوية، فصار أمرا عبثيا عدميا، ونحن معاشر المسلمين لا قيمة عندنا لهذا الكلام كله لأنه باطل، إذ تقرر الأحكام بلا قواعد مطلقة رابع المستحيلات، فقول كانط: "الحقيقة في ذاتها" يقتضي أنه أدركها، إذ لا حكم على الشيء بالحكم المطلق والعام إلا بعد إدراكه حقيقة، وإلا فمن أين علم أن الحقيقة الموضوعية يجري عليها هذا الحكم إذا كان لم يتصورها، ولم يدركها؟ !
وقد يبطل هذا بوجوه أخرى نظرية، لا حاجة بنا هنا إلى إيرادها، لأن هذا ليس مقام ذكرها، والجميع يقر بهذا البطلان حتى الذين يلوكون هذا المبدأ – الحقيقة لا تدرك- لأن نظام حياتهم مقام على نقضها، فما رأينا أحدا بنى حياته العادية على أنه يحيى خارج الواقع والحقيقة، وأن كل شيء حق وصواب كيفما كان.
وكل ما لا يقام نظام الحياة عليه، ولا يتأتى انتظام أمور الناس عليه فإنه باطل، والقائلون به إما مرضى بالباطنية الوهمية، وإما أنهم يريدون به محاربة الأمور الدينية فقط، وإن كان ملفوظا في الواقع.
وهذا أمر عجيب يقع في أعلى درجات المكر والتضليل، إذ كيف تبني الحياة على أمر أنت تنكره، وتدعي الحق في أمر أنت تعلم أنه مفض إلى المآسي والعبث والعدمية، والوقوع في الباطنية التي ليس لها مرجه أو ضابط سوى الأهواء والخيالات الوهمية.
مرجع النص:أصول نقد القول العلماني في المعرفة الدينية، مولود السريري:37.
إرسال تعليق