بقلم: الطيب بوعزة
القرآن إعجاز، وتميز، واستمرار...
إعجاز في تركيبه اللغوي، تحدى به أرباب البلاغة والقول في عهده.
وتميز في إضاءاته العقائدية والتاريخية، صححت الكثير من المعتقدات الخاطئة التي كانت سائدة في مفهوم اليهودية والنصرانية والوثنية...
واستمرار أكدته الكشوفات الفكرية والنفسية والعلمية حديثا.
ولقد جعل الله سبحانه لهذا الكتاب المعجز مهمة عالمية تتحقق بنقل المجتمع البشري من دجى التصورات والرؤى الأرضية الضيقة إلى نور الحقيقة الدينية الآفاقية فبين به الصراط المستقيم الذي على النوع الإنساني أن يترسمه في مسيرته الحضارية، فوضع بترسمه القواعد الصلبة لكل إنشاء ثقافي واجتماعي ناهض متين.
وحين نقول بعالمية هذا المنهاج الديني، فإن هذا ليس تجاهلا منا بتمايز الإطارات الثقافية والمدنية، واختلافهما من بيئة اجتماعية لأخرى، إنما وعيا منا بوجود منطق متغلغل داخل مختلف الأنسقة الثقافية والحضارية، وعينا بهذا المنطق يجعلنا نرى في الاختلاف تنوعنا، وفي التناقد تعددا. فإذا كانت المجتمعات الإنسانية تفترق في أنماطها الحياتية، ورؤاها التنظيمية، فإنها تلتقي عند وحدة الإنسان، صانع تلك الأنماط ومبدع تلك الرؤى، وحدة الإنسان ووحدة فطرته التي تنحدر منها مختلف مسارات النظر وتشعبات الفكر والعمل، وهذا القرآن خطاب لهذه الفطرة، وأحكامه وتوجيهاته صيغت تماشيا مع طبيعتها، فهو إذن كتاب لكل الثقافات ولكل المجتمعات.
ثم إن هذا لا يعني غض الطرف عن مقتضيات ذلك التنوع والتمايز، اللذين قلنا بوجودهما بين المجتمعات، ودون أن يفيد أن إخضاع حياة الشعوب والأمم لمنهج القرآن سقوط في النميط والرتابة، بل إننا نرى أن تنوع المجتمعات في إطاراتها التنظيمية وتميزها في إطارتها الروحية، ينتج عنه بالضرورة، تنوع وتميز في الفهم، وتفاوت في الاستعداد النفسي والفكري أثناء لقائها بالقرآن. وليس نشازا أن تنظر هذه المجتمعات إلى هذا الكتاب الكريم، من مواقعها المتعددة، فتستمد منه القوام الروحي والتنظيمي الذي يناغم ظروفها الفكرية والمادية.
تنوع المجتمعات في إطاراتها التنظيمية وتميزها في إطارتها الروحية، ينتج عنه بالضرورة، تنوع وتميز في الفهم، وتفاوت في الاستعداد النفسي والفكري أثناء لقائها بالقرآن
وهذا ما حدث تاريخيا، حيث امتد الفتح القرآني على مساحات جغرافية شاسعة، ودخلت مجتمعات عديدة في الإسلام واعتنقت الحقيقة القرآنية. وبرمجتها عمليا في اجتماعها الفكري والمادي، دون أن تفقد الصالح من عاداتها وأعرافها، ودون أفتقاد تنوعها وتميزها.
فالقرآن مداد لا ينضب، وكل مجتمع يغترف منه بقدر يماشي شكل الأداة التي يغترف بها، ونعني بتلك الأداة مجمل الأفكار والنظم التي تسوده، فإذا خرج هذا المتمع بفهم أعظم وأوسع من هذا فهم ذاك المجتمع، فما هذا سوى نتاج للقدرات الفكرية والمعرفية والمدنية التي عظمت واتسعت في هذا وقلت ونضبت في ذاك.
إن القرآن ليس سطورا جامدة بين دفات الكتب بل سطور فاعلة بين دفات الحياة والواقع. وواقعية القرآن تجلت منذ البداية، حيث كان نزوله منجما يتابع تجدد الظروف والحاجات واطراد المشاغل اليومية ومفاجآتها، فكان يضيء ما حلك من المسالك والدروب ويبين ما التبس واختلط من الرؤى والمفاهيم، بل قال بالنسخ والتجاوز لبعض السابق مما قرره. كل هذا يفرض علينا راعنا، النظر إلى القرآن برؤية واعية تضع نصب عينيها واقعية النص القرآني، وتنشط في مساءلته تجاه كل مستجد ثقافي واجتماعي، وبذلك ترتقي وريتنا القرآنية، فنفهم الإسلا فهما إسلاميا. وإنه لا وقف للاجتهاد والفهم من القرآن، لأنه بكل بساطة لا وقف لتجدد الحياة وتطورها.
وصدق الرسول (ص) حين قال عن هذا الكتاب المعجز أنه "تنقضي عجائبه".
مصدر المقال: جريدة الإصلاح، العدد 5، 1 يونيو 1987.
إرسال تعليق