إعداد: مصطفى بوكرن
لقد أورد البعض أن لـ "تفسير" القرآن "مؤهلات" لا بد من توافرها في "المفسر" وأولها الإحاطة بخمسين علما من علوم القرآن. وهذه كلها علوم من "وضع البشر"، ولها ظروفها الخاصة بها، تاريخيا واجتماعيا وفكريا، ولها أساليبها في التدقيق والتحقيق والتوليد.
إن نزعة التحول بالبحث في قضايا الدين إلى وظيفة تخصصية ذات ضوابط مهنية -إضافة إلى رفضها- ستؤدي إلى سلبيات خطيرة جدا.
أولا: إن البحث الديني إيمانا وكفرا مسألة مصيرية خاصة بكل البشر، فهو مثار اهتمام الجميع، وليس كنوع البحوث التخصصية "الكيمياء، الهندسة، الطب" التي يقتصر الاهتمام بها على من تستهويه وتقوده إلى التخصص فيها وفهم قواعدها وأسسها العلمية.
فالبحث في أمور الدين ضرورة طبيعية عفوية، ومحاورة الآراء الواردة في الدين حتمية تفرض نفسها على الجميع، لأن من هذه الآراء ما يحدد طريقة نومي وأكلي وشربي وحتى علاقتي مع زوجتي، إذا فالعلاقة بالبحث الديني تمتد إلى جزئيات تفاصيل الحياة الذاتية للإنسان خلافا للهندسة والطب. إن التخصصية في الدين - إضافة إلى كونها تفصم ما بين الدين والناس، وتبقي المجتمع رهن فتاوى متخصصين حيثما شاؤوا، وكيفما شاؤوا- ترتد بذاتها على المتخصصين، فتزيدهم تجهيلا للواقع الثقافي العالمي، وتزيدهم بعدا وابتعادا عن المجتمع.
فالبحث في أمور الدين ضرورة طبيعية عفوية
ثانيا: احتماء المتخصصين بقدسية المهنة وحرمتها سيضعهم في مواجهة مع المجتمع من ناحية ومع تطور الثقافة العالمية من ناحية أخرى، وهي ثقافة لا يستطيعون بناء سور صيني يحول بينها وبين شعوبهم، خصوصا أن هذه الثقافات، إضافة إلى قيمتها العلمية المتقدمة، لا مناهجها المعرفية، تدخل مجتمعاتنا محدثة في داخلها قواعد جديدة في البناء الاجتماعي والمفاهيم السياسية.
ما ألاحظه حتى الآن هو أن أفواج "المتخصصين" تتعامل مع هذا التطور العالمي وتاثيراته في مجتمعنا بمنطق انفاعلي سطحي، فإذا استحسن هؤلاء فكرة كورية الأرض، قالوا إنها موجودة في القرآن: "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات:30. ولكن فاتهم أن النشاط الأوروبي قد أتى البيوت من ابوابها "تطوير العلم التطبيقي" ولم يأت البيوت من ظهورها كالذين سألوا الرسول عن "الأهلة". ثم إذا استحسنوا الاشتراكية قالوا: إن ما يماثلها موجود في القرآن، فكتبوا عن العدالة الاجتماعية. "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" الحشر:07. ولكن فاتهم أن الاشتراكية بالمنطق الجدلي التطوري المادي هي فلسفة الصراع وتنابذ المتضادات الطبقية، وعدالة الإسلام، هي منع واحد، ضد الصراع بتفتيت القرآن للتركز الطبقي ونسف تراكم فائض القيمة عبر تشريعات منع الربا والزكاة وتفتيت الإرث؛ فعدالة الإسلام ليست مجرد عدالة أخلاقية بالأخذ من الأغنياء ورد ذلك إلى الفقراء فقط، بل هي نسف الأسس المادي للتكون الطبقي نفسه.
كذلك إذا استحسنوا فكرة الديمقراطية، سرعان ما نسبوها إلى الشورى غير مدركين التناقض الكبير بين الديمقراطية الليبرالية التي توازن سياسيا ما بين المتضادات الاجتماعية، والشورى التي تقوم على نفي التضاد في التكون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فقاعدة الحكم في الإرادة السياسية الإسلامية تعتمد على جماعية القرار "ادخلوا في السلم كافة" البقرة:208. وليس على صراع الأغلبية ضد الأقلية.
ثالثا: إن الإخلاد إلى عقدة المهنة والتخصص تدفعهم - إضافة إلى عزلتهم عن المجتمع وتطوراته ومظاهره الثقافية- إلى بناء خطوط دفاعية يسيجون بها المهنة. إن هذا الموقف الدفاعي المهني قد أدى بالمثقفين إلى مفاهيم خطيرة جدا حول الدين ومتخصصيه، إذا يلجأ المتخصصون في مواجهة تحليلات المثقفين وأبحاثهم الدينية إلى الاحتماء بقواعد ونصوصص العلوم التي تكونت وتفرعت على مدة أريعة عشر قرنا في إطار البحث الديني. هنا يعزل المثقف عن التفاعل مع رصيد غني وثري أبدعت فيه مراحل التاريخ الإسلامي، وتميز فيه أئمة المذاهب والفقهاء والمفسرين بعطاء كثير كبير مستع عميق، يحتاجه الباحث فعلا.
رابعا: إن موقف المثقف الأكثر وعيا بالمتغيرات الحضارية وأشكال وعيها يجب ألا ينفعل برد الفعل الذي يعكس عليه الماضويون، فيظن أنهم يعبرون عن السلف، فشتان بين الماضوية والسلفية، إذ إن الأئمة المتقين الأعلام، في سالف "ماضينا نحن"، وحاضر واقعهم هم، لم يكونوا أبدا سلفيين، بل كانوا رجال جهاد واجتهاد.
مرجع المقال بتصرف: تشريعات العائلة في الإسلام، محمد أبو القاسم حاج حمد، تعليق وتقديم: محمد العاني، مراجعة وتدقيق: صابر محمد، دار الساقي، الطبعة 1، 2011.

إرسال تعليق