U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

طه عبد الرحمن يكتب: جورج باطاي مُنظِّر تعدي الحدود




بقلم: طه عبد الرحمن 


يعد "باطاي" أول من حاول التنظير لمفهوم "التعدي" (أي تعدي الحدود) في كتابه المعنون: الشبق؛ إذ أخذ هذا المفهوم يترسخ، في مجال التحليل النفسي ومجال البحث الإناسي والدرس الاجتماعي، كمفهوم مفتاحي يجدد الرؤية ويخصب المنهجية؛ والإنسان، بحسب منظور "باطاي"، لا يصل إلى رتبة "الإنسان السيد" أو قل باختصار، "السيد" إلا بممارسة فعل التعدي، حتى إن "السيد" يُعتَبر "المتعدي بامتياز"؛ ذلك لأن لهذا التعدي خصائص لا توجد في مجرد "الانتهاك"، إذ لا يشترك معه إلا في الظهور بمظهر العنف باعتباره عنفَ كائن عاقل، لا عنف حيوان؛ ويختص من دونه بكون العلاقة التي تجمع بين التعدي وبين الحد ليست علاقة كيانية ثابتة تكتفي بنفي الحد، وإنما علاقة جدلية متغيرة تتميز بالخصائص التالية:


الخاصية الأولى: أن وجود التعدي شرط في وجود الحد.


 فحيثما يوجد الحد، يوجد التعدي، فلا حد بغير إمكان التعدي، كأن الحد يغري من ذاته بالتعدي، أو يرغب فيه؛ فيقول:


"ليس ثمة محرم لا يمكن تعدّيه، وغالبا ما يسمح بالتعدّي، بل غالبا ما يكون مأمورا به (...)، إذ لا يوجد المحرم إلا لكي ينتهك".


بل يذهب إلى أن الدين الذي هو مصدر الحدود يأمر بتعديها ولو أن هذا التعدي فيه يبقى منضبطا بقواعد مخصوصة؛ فالقتل، مثلا، محرم، ولكن الحرب، على كثرة القتل فيها، مباحة، بل قد تصير واجبة، واضح أن تصور "باطاي" الذي يجعل الحد يحمل فيه طيه أسباب تعديه يصادم التصور المقرر للحد، وإن كان يصادف أقوالا تجري مجرى الأمثال نحو "كل ممنوع مرغوب فيه" أو الأشياء كامنة في أضدادها".


الخاصية الثانية: أن التعدي حافظ للحد.


لا يسعى المتعدي، كما يرى "باطاي"، إلى أن يتخلص من الحد أو يهدمه، لان معنى وجوده إنما هو في بقاء الحد، لا في فقده، لذلك، فهو يظل حافظا له من حيث ينتهكه  كما لو كان التحدي يحمل الحد في طيه، حتى إذا عاد إلى انتهاكه، وجده، ولا يخفى ما في هذا الادعاء من صرف للفظ "التعدي" عن مدلوله الاصطلاحي الذي يقرر أن وظيفته تقوم في إلغاء الحد، ويبدو أن "باطاي" طبق على هذا المفهوم مسلكه الجدلي الذي تأثر فيه بفكر "هيغل" ولو أنه لا يتبعه في تركيب النقيضين، بل يجمع بينهما على حالهما، ومن هنا، جمعه في عملية التعدي بين جانب إلغاء الحد وجانب اعتباره.


الخاصية الثالثة: التعدي متصل بالتقديس.


يسلم "باطاي" بأن السيد لا يقصر حياته على عالم العامة العملي الذي ينضبط بحدود النظام والشغل والإنتاج، بل يريد أن يتخطى هذا العالم المحدود إلى العالم غير المحدود الذي وراءه، والذي يصفه "باطاي" بكونه عالما قدسيا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يتعدى هذه الحدود العامية تعاديا يحفظها بقدر ما يخرقها، بحيث يصبح التعدي فعلا مقدسا لما يقع عليه، إذ يلج السيد بفضله إلى عالم القُدُس، بل يصير التعدي بذاته فعلا مقدسا؛ وبهذا، يغدو ما تحرمه الحدود في أصلها هو عين ما يقدسه التعدي عليها.


ف"المجتمع الإنساني هو، كما يقول "باطاي" بين عالم الحدود العامي والعالم القدسي الذي ينفتح لتعديات محددة، أي عالم الاحتفال والسادة والآلهة". ذلك لأن الاحتفال يشكل أفضل مناسبة لمجاوزة حدود عامة العامة، إذ أن الفوضى تسببها هذه المجاوزة تبعث في الأفراد، حسب "باطاي"، حياة قدسية تقوي الصلات بينهم وتجدد نظام عالمهم، وتبلغ هذه المجاوزة ذروتها في التقرب بقربان بشري كما في غابر الأزمنة أو قربان حيواني كما في حاضرها، لأن، في هذا التقرب، يتحقق للمحتفلين الجمع بين حالة الوجد ووحدة الشعور، فضلا عن تجاوز قلقهم على الحياة وإقرارهم بقيمة الموت.


لكن يبقى أن ما ينسبه "باطاي" إلى العالم الذي ينشئه التعدي للحدود من قدسية لا يمكن التسليم به إلا أن يصرف لفظ "القدسية" إلى مدلول يضاده، لأن الأحداث التي تقع في عالمه المقدس.


الخاصية الرابعة: التعدي متصل بالإعجاز.


لا يكتفي "باطاي" بأن يقرر بأن التعدي يوصل السيد إلى عالم القُدُس، بل يدعي أنه يورثه أيضا الشعور بالإعجاز، فالسيد يتجاوز عالم المنفعة والتبعية - أي العالم الذي يحصر فيه الفرد استهلاكه في الضروريات، حتى يقيم أوده ويواصل عمله- ويندفع بكليته في إتلاف الفائض من الإنتاج، مبذرا للثروة ومتجردا من العمل، فيكون مجال السيادة، بحسب عبارة "باطاي"، هو، بالذات، "ما وراء المنفعة"، ومن كان تصرفه بثروته الفائضة على هذا النحو، لا بد وأن يجد متعة لا تعدلها متعة، بحيث تستحق أن توصف بكونها "معجزة"، ولا يخفى أن "ما من شيء معجز إلا ويكون، بوجه ما، إلهيا"؛ كما أن "ما من شيء معجز إلا ويكون، بوجه ما، إلهيا"، كما أن "ما من معجزة هي متعلق شهوة السيد، لذلك، تراه يجد هذا الشعور في تبذير الثروة وفي غيرها من الأشياء، جملية كانت أو كريمة في كل شيء يهجم عليه فجأة، قاطعا فكره، أو يقع له في الآن، مستوقفا ومنه، كالضحك أو دموع السعادة.


بيد أننا رجعنا إلى الأمثلة التي ساقها "باطاي" لتوضيح هذا الشعور بالإعجاز، ألفينا أن أول مثال يضربه عليه، مطنبا في وصفه، ليس إلا مثال "العامل" الذي يحتسي كأسا من الخمر، إذ يقوم بصدده:


"يدخل في الخمر الذي احتساه الذي احتساه عنصر خارق الطعم هو، بحق، أساس السيادة (...)، لأنه يعطيه الإحساس بأنه يتصرف على هواه في العالم (...)، وما أن يحتسي خمره، حتى ينساه، لكن يبقى (أن الأصل في ذلك) هو مبدأ الإسكار الذي لا يمكن لأحد أن ينازع في قيمته الإعجازية".


وحتى بعد أن ذكر، على إثره، مثال "ألق الشمس في فصل الربيع"، عاد إلى الحديث عن احتساء الخمر، ثم انتقل إلى أمثلة غيره كالجمال والثروة، وحتى العنف والحزن والمجد، كل ذلك يدعو إلى التشكيك في انطباق وصف "الإعجاز" على هذه الحالات التي تجعل السيد يخرج عن طور العقل، لا إلى ما فوقه، متفكر في عالم الآيات، وإنما إلى ما دونه، ساقطا في لا معقول الشهوات، ولولا أن باطاي يرى في احتساء الخمر أفضل مثال على ما يدعيه، ما ابتدأ به ولا فصل فيه قبل غيره، فدل ذلك على أن هذه الحالات المذكورة أشبه بحالات الإسكار منها بغيرها، فضلا عن أن لفظ "الإسكار" أو نعت "المسكر" يتكرر ذكرهما في كتاباته، تأثرا بفلسفة "نيتشه" التي تتخذ من عربدة "ديونيزوس" - إله الخمر والسكر- أصلا من أصولها.


وفوق هذا وذاك، يدعي "باطاي" أن السيد يتعدى حد الموت، ذلك أنه لا يمكن أن يموت ميتة إنسانية، لأن الذي يموت هذه الميتة يعيش في قلق يستعبده، منشغلا بتصور الموت والعمل للمستقبل، طالبا للهروب من حتفه، في حين أن السيد لا قلق ينتابه ولا عمل يشغله، بل يبقى مستغرفا في الآن لا يبرحه، وعلى هذا، فإنه، كما يقول باطاي، يعيش ويموت كما يعيش ويموت الحيوان، ولكن، مع ذلك، فإنه إنسان"، لهذا، كان حد الموت في عالمه ملغى، فيقول:


"فهو يوجود كما لو كان الموت غير موجود، بل إنه الذي لا يموت، لأنه لا يموت إلا لكي يولد من جديد، ذلك لأن الذي يموت هو الفرد الذي تحدده هوية خاصة، وتجعل منه شيئا متميزا عن غيره، بينما هو ليس، على حد تعبير "باطاي"، إنسانا بالمعنى الذي تدل به هذه الكلمة على الفرد، لكنه إله".


ويضرب لنا مثالا بفرعون، ملكا، ثم يضيف باطاي قائلا:


"إن هذا الملك لا يمكن أن يموت، لأن الموت لا معنى له في حقه، إذ أن مقام حضرته ينكر الموت، بل إن هذه الحضرة تمحو موته، بل إن موته نفسه محو للموت".


إلا أن الملاحظ في هذا التعدي لحد الموت هو أن باطاي يجعل السيد يجمع بين صفتين متناقضتين هما: الحيوانية والألوهية، فهو يموت كالحيوان ويبعث كالإله، ولا شك أن مرد ذلك إلى أمرين: أحدهما تأثير نيتشه فيه، إذ جعل هذا الأخير استغراق الإنسان في الغرائز الحيوانية طريقا يوصله إلى رتبة الألوهية، متشبها بالإله الأسطوري: "ديونيزوس" والثاني، تأثير فكرة التجسيد، إذ أنها ترفع التنزيه عن الذات الإلهية، وتجعلها تقبل التأنيس كما تبث في الذات الإنسانية الروح القدس، وتجعلها تقبل التأليه، يلزم من هذين التأثيرين إمكان اجتماع الصفتين المذكورتين، فيصير الفصل بين الرتب الثلاث: "الحيوان" و"الإنسان" و"الإله" فصلا نسبيل غير مطلق يجعل الوجود كله عبارة عن كيان واحد متصل بعضه ببعض، وتحول بعضه إلى بعض.


نص مقتبس، من كتاب شرود ما بعد الدهرانية: النقد الائتماني للخروج من الأخلاق، ص:57.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة