U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

زيجمونت باومان يكتب: ما الفرق بين الطائرات بدون طيار والفايس بوك؟

 




بقلم: زيجمونت باومان


قارنت بين خبرين يبدوان منفصلين، وقد نُشر الخبران في يوم واحد، في التاسع عشر يونيو من عام 2011، وإن لم يكن أي منهما ضمن العناوين الرئيسة، وكان للقراء عذرهم إذا لم ينتبهوا إلى أحدهما أو كليهما. فمثل كل الأخبار، أتى بهذين الخبرين "تسونامي المعلومات" اليومي، فكانا قطرتين صغيرتين في فيضان الأخبار التي كان يرجى منها أن تحقق التنوير والتوضيح، بينما تساعد على حجب الرؤية وإرباك الناظرين...


فأما الخبر الأول: فيتحدث عن الزيادة الكبيرة في أعداد طائرات لا يتجاوز حجمها حشرة دقيقة أو طائر طنان يحط بخفة على أعتاب النوافذ، وكان التصميم في الحالتين يهدف إلى "الاختفاء في قلب ما يسهل رؤيته وملاحظته". 


وأما الخبر الثاني فيعلن أن الإنترنت هو "المكان الذي ينتهي عنده اختفاء الهوية".


إن الخبرين متناغمان، فكلاهما يبشر/ ينذر بنهاية الاختفاء والاستقلال، وهما السمتان الرئيستان للخصوصية - حتى وإن كان الخبران مستقلين، ولا يعي أحدهما وجود الآخر.


إن تلك الطائرات تقوم بعمليات تجسس وقصف تشتهر بها الطائرات المفترسة "إذ قتلت تلك الطائرات الأمريكية ما يزيد على ألف وتسعمائة مسلح في مناطق قبلية في باكستان منذ عام 2006". ومن المتوقع أن يتضاءل حجم تلك الطائرات إلى حجم الطيور، بل إلى حجم الحشرات " فمن الواضح أن خفقان أجنحة الحشرات أسهل تقليدا من الناحية التكنولوجية من حركات أجنحة الطيور. ويؤكد ميجور ميخائيل أندرسون، وهو طالب دكتوراه في تكنولوجيا الملاحة المتقدمة، أن رفرفة الفراشات الصقرية، وهي فصيلة من الحشرات المعروفة بمهارات التحليق، تم اختيارها مثالا لإعداد التصميم الجديد -الذي لم يتحقق بعد، ولكن من المؤكد أنه سيتحقق قريبا- بسبب مقدرتها على تجاوز عيوب طائراتنا العرجاء".


وسيبقى الجيل الجديد من تلك الطائرات الخفية بينما يظهر كل شيء خفي، وستبقى تلك الطائرات منيعة بينما تجرد كل شيء آخر من الحضانة ويقول بيتر بيكر، أستاذ فلسفة الأخلاق في الأكاديمية البحرية بالولايا المتحدة، إن تلك الطائرات تدخل الحروب "عصر ما بعد البطولة"؛ ولكنها من منظور "فلاسفة الأخلاق العسكريين"، توسع من الانفصال بين الأمريكيين وحربهم"، إنها ستقفز قفزة جديدة "الثانية بعد أن حل الجيش المحترف محل التجنيد الإلزامي" نحو إخفاء الحرب نفسها عن الأمة التي تشن الحرب باسمها "فلا خطر على أية روح من أرواح أبناء الأمة"، وهكذا يصبح من السهل - بل ومن الأكثر إغراء- شن هذه الحرب، بفضل الغياب شبه الكامل للأضراب التابعة والتكاليف السياسية.


والجيل الثاني من تلك الطائرات سيرى كل شيء بينما يظل هو خفيا في خفة وارتياح - على الحقيقة والمجاز. ولن يكون لنا من هذه الطائرات من واق يحمينا من التجسس- ولن ينجو منها أحد. بل إن الفنيين الذي يشغلون تلك الطائرات سيستنكرون التحكم في حركاتها، وسيعجزون، مهما كان الضغط قويا، عن استثناء أي هدف من المراقبة. فتلك الطائرات "الجديدة المعدلة"، سيتم برمجتها على الطيران بنفسها، وستطير في مسارات من اختبارها في أوقات اختيارها. والسماء التي تطير فيها هي السقف الذي يغطي المعلومات التي ستوفرها ما أن تعمل بالأعداد المطلوبة.


هذه هي سمة تكنولوجيا التجسس والمراقبة الجديدة، فهي مسلحة بالقدرة على الفعل المستقل عن بعد، وهذا أكثر ما يزعج مصمميها، ويبعث على قلقهم من "تسونامي البيانات" الذي يذهل بالفعل العاملين بمراكز قيادة القوات الجوية ويهدد بأن يتجاوز قدرتهم وقدرة أي أحد على التحكم.


فمنذ أحداث 11 من شتنبر، نجد أن عدد الساعات التي يحتاجها العاملون بالقوات الجوية من أجل إعادة تدوير المعلومات الاستخباراتية التي توفرها تلك الطائرات زاد بنسبة ثلاثة آلاف ومئة بالمئة - وكل يوم يضاف ما يقرب من ألف وخمسمائة ساعة من تسجيلات الفيديو إلى حجم المعلومات التي لا بد من معالجتها. فإذا ما انقضى عهد تلك الطائرات باعتبارها أجهزة استشعار مثل "ماكينة سحب الهواء"، وحل محلها "النظر المحدقة التي يمثلها الوجه المرعب المخيف" القادر على مد بصره ليشمل مدينة بأسرها في نظرة واحدة "وهو تطور وشيك"، فسيكون هنالك احتياج إلى ألفي محلل للتعامل مع البيانات التي توفرها طائرة واحدة، بدلا من تسعة عشر محللا يقومون بتلك الوظفية في الوقت الراهن. ولكن ذلك يعني أن التقاء هدف "مثير" و"مهم" من الوعاء العميق للمعلومات سيتطلب جهدا مضنيا وكلفة باهظة، فما من أهداف مثيرة يمكن أن تفلت من الدفع بها إلى ذلم الوعاء، وما من أحد يستطيع أن يتأكد من احتمالية أن تحط طائرة كهذه على عتبة نافذته، ولن يستطيع أن يتأكد من توقيت ذلك.


وأما "موت الخصوصية" في عالم الإنترنت، فإن القصة مختلفة إلى حد ما، فنحن هنا في عالم الإنترنت نقود حقوق خصوصيتنا إلى المذبح بإرداتنا، أو ربما نقبل فقدان الخصوصية باعتباره ثمنا معقولا للعجائب المعروضة في مقابلها، أو ربما يكون الضغط بتسليم استقلالنا الشخصي للمذبح كبيرا جدا، وقريبا جدا من حال قطيع أغنام، فلا نجد سوى قلة من إرادات شديدة التمرد والجرأة والتحدي والعزم تبدي استعدادا للصمود الجاد أمام هذا الضغط. ولكن على الأقل صوريا يعرض علينا الاختيار، وعلى الأقل هناك عقد صوري بين طرفين، وعلى الأقل هناك حق صوري في الاعتراض والمقاضاة حال الإخلال به، وهذا أمر لا نتمتع به قط في حالة الطائرات من دون طيار.


فما أن ندخل عالم الإنترنت، فإننا نبقى رهائن للقدر. وهنا يقول بريان ستلتر: "إن المراقبة الجمعية لاثنين بليون مستخدم للانترنت، وبصمات اليد الرقمية التي يتركها كثير من المستخدمين على مواقع الشبكة العنكبوتية، تسهم جميعها في زيادة الاحتمالية بأن كل فيديو محرج، وكل صورة حميمة، وكل رسالة إلكترزنية غير لطيفة، تنسب إلى مصدرها، سواء أراد ذلك المصدر أن تنسب له أم لا". فها هو المصورة الفتوغرافي "ريتش لام" يلتقط صورا لأعمال شغب شهدتها شوارع فانكوفر، وقد قضى يوما في محاولة لتحديد هوية رجل وامرأة التقطتهما عدسة كاميرته في أثناء أحداث الشغب "بالمصادفة" وكل منهما يمطر الآخر بقبلات حارة. فكل ما هو خاص يمكن أن يجري فعله فيما هو عام - ومن الممكن أن يكون متاحا للاستهلام العام، وأن يبقى متاحا على الدوام، إلى نهاية الزمن، لأن الانترنيت "لا يمكن إرغامه على نسيان أي شيء ما أن تم تسجيله على هذه الشبكة العالمية". إن تآكل الخصوصية هو نتاج الخدمات المنتشرة للتواصل الاجتماعي، وكاميرات الهواتف النقالة الرخيصة، مواقع استضافة الصور والفيديوهات المجانية. وربما الأهم من ذلك كله، هو أن تآكل الخصوصية هو نتاج التغير الذي حدث في رؤية الناس لما يجب أن يكون عاما وما يجب أن يكون خاصا" فالناس يقال لها إن كل هذه الأدوات التقنية "ًصديقة للمستخدم" أو "سهل الاستخدام والتعلم"- وإن كانت تلك العبارة التجارية، إذا دققنا فيها، تشير إلى منتج ناقص في غياب المستخدم واجتهاده، كما يحدث في محلات الأثاث ومستلزمات المنزل المعروفية باسم "إيكيا". بل إنها تشير إلى منتج ناقص في غياب المستخدم واجتهاده وتفانية الحماسي واستحسانه الصاخب، ولو كان الكاتب آتيان دي لا بويسيه بيننا، لرما أغراه هذا بالحديث لا عن العبودية الطوعية، بل عن فكرة "استعبد نفسك بنفسك".


صورة ريتش لام


فما النتيجة التي يمكن أن تستشفها من المقابلة بين المشغلين للطائرات من دون طيار والمشغلين لحسابات الفيس بوك؟ ويبدو أن الفريقين يعملان من أجل أهداف متعارضة، ويدفعان بدوافع متعارضة، لكنهما يتعاونان تعاونا إراديا وثيقا وفعالا للغاية من أجل تحقيق، دعم، توسيع ما قد تسميه "الفرز الاجتماعي". وأنا أعتقد بأن أبرز سمة للمراقبة المعاصرة هي أنها تمكنت إلى حد ما من إجبار المتعارضات على العمل في تناغم وانسجام في خدمة الواقع نفسه. فمن جهة، ثمة استراتيجية بانوبتيكية قديمة " وفيها لا يعلم أحد زمن مراقبته بشحمه ولحمه، ومن ثم لن يفلت أبدا من مراقبة ما يدور في خلده". وهذه الاستراتيجية جرى تطبيقها بصورة تدريجية - لكنها دائمة من دون انقطاع فيما يبدو - بحيث اقتربت من التطبيق العالمي العام. ومن جهة أخرى، يتحول الكابوس البانوبتيكي القديم "أنا لست أبدا وحدي" إلى الأمل القائل "لن أكون وحيدا أبدا مرة أخرى"، وذلك في حالة من الإغفال والتجاهل والإهمال والرفض والإقصاء، فالخوف من الانكشاف أمام الناس قد تغلب عليه ابتهاج المرء بملاحظة الناس له.


النص مقتبس من كتاب المراقبة السائلة، زيجمونت باومان وديفيد ليون، ترجمة: حجاج أبو جبر، وتقديم: هبة رؤوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2017، ص:41.

 




تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة