بقلم: أبو القاسم حاج حمد
بتطور العلم، وبمنعكساته على الفلسفة، بدأ الإنسان يستشعر حرية أكبر في تعامله مع الكون وسيطرته التدريجية على موضوعاته ومجهولاته. وبدأت تتقلص تدريجيا في وعي الإنسان تلك التطلعات إلى القوى ما فوق الطبيعية التي تتحكم بالقدر والتصريف في كل شيء. لم تعد مسؤولة عن الكوراث والزلازل والأعاصير والجفاف والحروب والزرع والضرع. أصبح الإنسان يشعر تدريجيا أنه سيد مصيره ومالك قدره. وأصبحت مراكز البحث والتخطيط ومختبرات العلم هي دور العبادة الجديدة. أما الكهنة فقد أفسحوا المجال للعلماء المتخصصين.
هذا ما يسمى بـ "ثورة العصر العلمية" التي تكونت أوروبا ضمنها منذ بداية القرن السابع عشر. إنها تتضمن تصورا كونيا جديدا بدأت صياغته منذ نيوتن ثم مضى في دروب التطور مستكملا باقي الحلقات في فروع المعرفة العلمية الأساسية، وصولا إلى "الصياغة" الماركسية التي هي النتاج المعاصر والخلاصة الأكثر تركيزا - لدى إحالة التطور العلمي الأوروبي إلى فلسفة متكاملة- بمعنى آخر: إن الصياغة الماركسية هي النتاج الطبيعي للتطور العلمي الأوروبي الذي اتخذ سياقا عنيفا في تحقيق الاتحاد المادي بين الإنسان والكون.
فالصياغة الماركسية -في عموميتها- هي دراسة الحركة الاجتماعية في إطارها الجدلي، المادي الواقعي، ضمن أبعادها التاريخية، اهتداء بخلاصات تطورية ومبادئ شبه محددة. هي فلسفة للتغيير عبر قدرات النفي الباطنة في تركيب المجتمع والآخذة بسياقه التاريخي إلى رؤى معينة ذات سمات إيديولوجية وكوامن تطورية. فجوهر المفهوم الماركسي في التطبيق العلمي هو التطور الجذري عبر مراحل نوعية من خلال النفي الثوري وبواسطة رؤى استباقية. وموقف الماركسية - كخلاصة للتطور الفلسفي الأوروبي المعاصر- من الغيبيات واللازمة الأيديولوجية لها- أو تصوراتها الكونية المنبنية عليها- ليس موقفا "ذاتيا من تعاليم الكنيسة المسيحية، أو خطرة انتقائية ملحدة سيطرت على عقل ماركس أو إنجلز فصبغا بها خلاصتهما الأوروبية طوال ثلاثة قرون خلت. فالماركسية وإن أخذت عن غيرها- مفهوم الجدلية "الهيغلي" والتطويرية "الدارويني" والمادية "الوضعية". إلا أنها في النهاية لا تنحل عناصرها إلى ما سبقها، ولكن تندمج فيها تلك العناصر بأكثر مما هو اقتباس وتركيب لتستوي كتعبير مفهومي جديد عن الإنجاز العلمي الأوروبي بأسره.
النص مقتبس من كتاب العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1416، 1996، المجلد الأول، الصفحة: 193، 194.
إرسال تعليق