U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

جون واتربوري يكتب: بنية المخزن مستقرة في الجوهر



بقلم: جون واتربوري


لقد أثرت البنيات التقليدية للمجتمع المغربي بصفة محسوسة في سلوك النخبة السياسية الحالية. وورثت بذلك الدولة المستقلة الحديثة عن العهد السلطاني إدارة بدائية "المخزن"، وأسلوبا في الحكم؛ لم يكن هناك في سنة 1912  فارق بين التنظيم السياسي للدولة العلوية والنظام الذي بناه السلطان الكبير مولاي إسماعيل في القرن السابع عشر. ولم يطرأ أي تغيير على النظام، لأن المشاكل الداخلية ظلت على حالها، تتلخص في جباية الضرائب، وتنظيم الجيش، وقمع القبائل


وعملت الحماية على تحويل دور المخزن، وحافظت على نوع من الاستمرارية إزاء تقاليد الماضي، وذلك خلال أربعين سنة من التسيير الإداري. ولايزال الكثير من المغاربة يرون في المخزن واقعا حيا ماثلا أمامهم. ويجب أن لا ننسى أن محمد بن يوسف، الملك الأول لمغرب الاستقلال، لم يكن إلا حفيد الحسن الأول، آخر أقوى سلطان في ما مغرب ما قبل الاستعمار توفي سنة 1894، وابن مولاي يوسف توفي سنة 1927، أخ مولاي عبد العزيز، ومولاي عبد الحفيظ، وهما اللذان حكما المغرب قبيل الحماية.


وإذا كان ينبغي التأكيد على استمرارية هذه البنية، فإنه يجب كذلك الإشارة إلى أن علاقات الإمبراطورية الشريفة مع القوى الأجنبية قد شهدت تحولات هامة خلال القرن التاسع عشر. لقد أدى نمو التجارة البحرية، واحتلال فرنسا للجزائر، إلى اضمحلال المحاور التقليدية. 


كما أن بعض البلدان الأوروبية بذلت جهودا كبيرة لفتح السوق المغربية من أجل تصريف منتجاتها الصناعية، وجلب خيراته الطبيعية وإنتاجه الفلاحي، وانتعشت حركة بعض الموانئ "الدار البيضاء، آسفي، الجديدة، الصويرة"، وبسبب سرعة نموها، استقطبت أعدادا من سكان المناطق الداخلية. وتغيرت باستيراد المنتوجات الجديدة، عادات الاستهلاك، وتوسع نطاق المبادلات التجارية. وطبع التدخل الاقتصادي الأوروبي التشكيلة الاجتماعية المغربية، حيث بدأ التماير الاجتماعي يأخذ صبغة طبقية.


لقد اعتمد الاقتصاد الأوروبي على حضوره العسكري: فقد انهزم جيش السلطان أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي 1844م، واحتل الإسبان مدينة تطوان سنة 1860، فشعر المخزن بضعفه العسكري، واتضحت له ضرورة إصلاح الجيش، لكن في المقابل، أصبح في استطاعة القبائل أن تتزود بالسلاح بفضل تساهل المهربين الأوروبيين، مما زاد في مقاومتها لحملات السلطان الجبائية. 


لقد كان خلاص المخزن مرهونا بالتجديد الشامل، ورغم وعيه بذلك، لم يتخذ سوى تدابير هزيلة، لا تمس جوهر النظام، ولا تعيد النظر في قواعد اللعبة. فقد انحصرت إجراءات الإصلاح في ارتداء بعض الآلاف من المغاربة للبذلة العسكرية التركية، واستيراد مجموعة من المدربين العسكريين الأجانب، والإعلان عن إنشاء قوة عصرية من المشاة.


لقد اختارت الأسرة الحاكمة المتتالية مدن فاس ومراكش ومكناس والرباط عواصم لها، لكونها تشكل المراكز العسكرية والاقتصادية والإدارية للإمبراطورية. وكانت القوات المسلحة والحاميات، تتكون من قبائل معفاة من الضرائب. ونجد على رأس القبائل الموالية للسلطان أعيانا يسيرونها باسمه، إلا أنهم يعينون من ضمن القبائل نفسها. 


وظلت القبائل المتمردة أو شبه المتمردة، تعترف للسلطان بنفوذه الديني، وترفض تأدية الضرائب التي يفرضها عليها. وكان على كل سلطان أن يعيد إقامة التحالفات نفسها التي اعتمدها أسلافه، على أن حظوظ نجاح هذه التحالفات كانت متفاوتة؛  إذ كان السلطان يحتاج إلى إرساء سلطة، والتوسيع من دائرتها، والحفاظ على مستوى مداخله، وهذا ما يدفع به إلى محاربة القبائل ومفاوضتها،  فتارة يلجأ إلى الإغراء المادي للحصول على السلم، وتارة يهب الأرض للبعض الآخر، وأحيانا أخرى يضطر إلى إعادة الصلح بين القبائل المتناحرة، إلخ... 


لقد قام ابن خلدون بتحليل واف لهذا النظام، حيث شخص في شكل دوري: تنضم قبائل معينة لزعيم ينحدر من الجبل، أو من الصحراء، حيث يستهدف تخليص البلاد من نظام حكم منهار، وينجح في القضاء على منافسيه، وبذلك تتوطد من جديد سلطة المخزن على مجموع التراب الوطني، ويمر جيل أو جيلان، فينحل تضامن القبائل "العصبية"، وتصاب بدورها بالاضمحلال والتدهور العسكري.


تعد نظرية ابن خلدون بالأساس نظرية نخب، لا تتكون وحداتها المتحركة من أفراد أو طبقات، بل من قبائل تتعاقب داخل بنية مستقرة في الجوهر. وهذه الصيرورة حولت القبائل المتضامنة والقوية إلى قبائل مستقرة تعاني من التفسخ والضعف.


نص مقتبش من كتاب: أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية بالمغرب، جون واتربوري، ترجمة: عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق، الناشر: مؤسسة الغني، دار أبي رقراق، الرباط، الطبعة الثالثة، 2013، ص:55.




تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة