بقلم: هشام العلوي
أنا سليل أسرتين وبلدين عريقين: والدتي، لمياء الصلح، هي كريمة رياض الصلح، أحد مؤسسي الدولة اللبنانية المتعددة الطوائف، وأحد مهندسي الاستقلال اللبناني. للتأكيد على أهمية الأدوار التي لعبها رياض الصلح، أضاف الصحافي البريطاني باتريك سيل - مؤلف كتاب النضال من أجل الاستقلال العربي، الذي نشر عام 2010- عنوانا فرعيا لهذا الكتاب "رياض الصلح وولادة الشرق الأوسط. جدي لأمي، هو صاحب فكرة الميثاق الوطني، الذي نظم توزيع السلطات بين مختلف الطوائف، في لبنان؛ هذا الميثاق برأيه، برعم من براعم عالم عربي متحرر من كل هيمنة أجنبية.
ولد جدي، رياض الصلح، عام 1894. درس القانون، وشارك في النضالات القومية، حيث ناضل أولا في سبيل الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية، ثم في سبيل رفع الاستعمار الفرنسي. في الثامنة عشرة من عمره، سجنه الأتراك. لاحقا حكم الفرنسيون عليه بالإعدام غيابيا حين اعتبروه محرضا عنيفا، أو كما سماه الجنرال غورو "مدبر المؤامرة الساعية إلى تحويل لبنان إلى نواة لامبراطورية عربية". في نهاية الحرب العالمية الثانية، استقل لبنان واختير رياض الصلح رئيسا للوزراء، فشارك في إرساء الهيكلية السياسية للبلاد، وساهم في صياغة وتفعيل الدستور اللبناني الذي ينص على تقاسم السلطة بين المسلمين والمسيحيين، كما سماهم جدي رياض الصلح، مع شريكه في الاستقلال والحكم، أول رئيسا للجمهورية اللبنانية، بشارة الخوري، في بلورة الميثاق الوطني الذي يعتبر التفاهم غير المكتوب بين اللبنانيين والناظم لمشاركة جميع اللبنانيين في الحياة السياسية، وكان جزاؤه على ما قدمه لبلده أن يموت اغتيالا في عمان، في السابع عشر من شهر تموز/يوليو من عام 1951، بتحريض من المستعمر البريطاني، أو بحسب رواية أخرى، من طرف أحد القوميين السوريين. كانت وِلادتي بعد خمسة عشر عاما من اغتيال جدي رياض الصلح.
تعود أصول عائلة الصلح - ومعنى الصلح معروف باللغة العربية- إلى البرجوازية العثمانية الشرق أوسطية، يوم لم تكن هذه الطبقة معروفة في العديد من بلدان المنطقة. كانت عائلة الصلح من العائلات النافذة. ذات الجذور المتينة في لبنان، حيث شغل خمسة من أفرادها منصب رئاسة الوزراء، ولها تشعبات في منطقة الخليج، لا سيما ما كان من صلات بينها وبين آل الصلح، ولا غرو، فصلات النسب هذه ثمرة من ثمرات تحالف العائلات الحاكمة والقوية. وهكذا فإن إحدى خالاتي كانت زوجة لأحد أبناء الملك عبد العزيز آل سعود.
أنجب رياض الصلح خمس بنات. علياء البكر، الصحفية الملتزمة، المعروفة بمقالاتها النارية حول القضايا العربية، المخاصمة لموقف سوريا من لبنان، والمدافعة عن حقوق المرأة. تزوجت علياء المناضل والكاتب الفلسطيني اللامع ناصر الدين النشاشيبي وكانت وفاتها عام 2007. بعد علياء، تحل في الترتيب لمياء، والدتي، ومن بعدها منى زوجة الأمير طلال بن عبد العزيز المعروف بمواقفه السياسية الليبرالية غير المألوفة في السياق السعودي. ومنى هي والدة الوليد بن طلال، الأشهر من أن يعرف بين رجال المال والأعمال في العالم. أما بهيجة، الرابعة في الترتيب، فتزوجت من سعيد الأسعد وهو لبناني شيعي من جنوب لبنان، في حين تزوجت ليلى، صغرى الخمسة، من الوزير اللبناني الراحل، ماجد حمادة، نجل رئيس مجلس النواب اللبناني مرات عدة صبري حمادة.
جدتي، زوجة رياض الصلح، وأم البنات الخمس، من أصول سورية، وتحديدا من آل الجابري العائلة الحلبية المعروفة، وهذا ما يفسر لربما زواج إحدى بنات خالة أمي باللواء مصطفى طلاس الذي شغل لمدة طويلة، منصب وزير الدفاع السوري، فكان أحد أعمدة نظام الرئيس حافظ الأسد.
ترعرعت والدتي وأخواتها في ظل والدهن، رجل العائلة الوحيد، بعد وفاة شقيق له في سن مبكرة. لقد طبع غياب الوجوه الذكرية، عائلة أمي، ولعل الرجل الوحيد الذي يستحق الذِكر هو تقي الدين الصلح، ابن عم والدهنّ، الذي حدب عليهن حدب العم. يذكر أن تقي الدين الصلح كان قريبا جدا من أبيهن رياض، وعمل مستشارا له حتى اغتياله، ثم انتخب نائبا في البرلمان اللبناني وعين وزيرا وأخيرا رئيسا للحكومة اللبنانية عام 1973و 1974.
الطربوش التركي المائل ذات اليمين علامة تميزت بها أسرة الصلح، ولكن هذه التقليدية في الملبس لم تحل دون أن تتلقى أمي وشقيقتها تربية على الطريقة اللبنانية، أي تربية حرة ومنفتحة، وكان من علامات ذلك أنهن أتممن دراستهن حتى أعلى الدرجات. فعلياء درست في كلية سانت أنتوني في أوكسفورد، أما والدتي، فتخرجت من جامعة السوربون الفرنسية. كانت الأخوات فخورات بهويتهن اللبنانية، وأعتبرن أنفسهن سليلات جمهورية عربية منفتحة. رعت جدتي، بعد وفاة زوجها، بناتها ما استطاعت، فتحولت، حماية لحقهن في إرثه، إلى المذهب الشيعي، باعتبار أن المذاهب السنية توزع إرث الوالد على البنات والأعمام عند غياب الشقيق الذكر.
في عام 1957، التقى والدي ووالدتي خلال حفلة بباريس. كان والدي مولاي عبد الله، شقيق ولي العهد المولى الحسن، يعد لاجتياز امتحان الباكلوريا في مدرسة خاصة بالعاصمة الفرنسية، أما أمي، فكانت طالبة في جامعة السوربون. بعد التعارف الأول تكررت لقاءاتهما. أما الخطوبة، فتأخرت حتى رافق مولاي عبد الله والده الملك محمد الخامس في زيارة رسمية إلى لبنان. يومها وافق الملك رسميا على فكرة زواج ابنه لمياء، اللبنانية، الخارجة عن تقاليد الأسرة المالكة.
فزواج أحد أفراد الأسرة المالكة من خارج الأعراف مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن محمد الخامس لم يرفض طلب ابنه، فحسن أمره ووافق.
ولد مولاي عبد الله، أبي، في شهر أيار "مايو"1935. صغيرا، كان يناديه والده بسيد العزيز بينما كان يناديه ابنه مولاي الحسن ولي عهده بسيد الصغير. يروى أن والدي كان لطيفا وذكيا ومرحا، ولكنه في السابعة من عمره أصيب بمرض السل، فضعفت بنيته وأرسل للعلاج بمدينة فاس، حيث أقام أشهرا عدة. أما مولاي الحسن، فكان أكثير خشونة وأقوى بنية. ومما يتوارد في أحاديث العائلة أن محمد الخامس كان يدلل مولاي عبد الله كثيرا لعلمه أنه لن يجلس على كرسي العرش، ولقد ترتب على هذا ما كان من خلل عاطفي في العلاقة بين الشقيقين. مع مرور الأيام، تعمق الشرخ بينهما حد أن ترجم عن نفسه بما نما بينهما من مشاعر سلبية: كان مولاي عبدالله الابن المحبوب للملك، ومولاي الحسن خليفته ومساعده. والدي يستمتع بالتزلج وبرياضة كرة القدم، بينما الحسن يتمرن على الحكم وممارسته. ومع ذلك، وإلى جانب ذلك، كان هناك تواطؤ كبير بين الأميرين الشابين وكان والدي يكن لأخيه الأكبر الكثير من المودة والإعجاب.
تريد الرواية التي يتداولها عامة الناس عن اللقاء بين أبي وأمي أن ارتباطهما كان نتيجة قصة حب انتصر فيه الوله على كل الاعتبارات الأخرى. فمولاي عبد الله شاب وسيم وسليل أسرة ملكية عريقة ضاربة في التاريخ. أما محبوبته، ففتاة من عائلة جمهورية، تلقت تعليمها في الغرب، وسبقت بنات عصرها إلى ارتداء الفستان بدل الحجاب التقليدي " ولو أن الأمير للا عائشة، إحدى بنات محمد الخامس، سفرت عن وجهها وتخلت في الفترة نفسها أيضا عن الحجاب في الأماكن العامة لتكون نموذجا للمرأة المغربية". لا تخلو هذه الرواية التي تصور حبهما كقصة لقاء رائع بين المشرق والمغرب، من شيء من المبالغة. واقع الحال أن والدي كان بحاجة إلى فضاء جديد يتنشق فيه هواء الحرية، وينفلت من قيود النظام المغربي الصارم وتقاليده. كان لا يطيق ثقل ذلك المناخ النفسي. عله أحس بقرب رحيل والده، فخشي أن تصبح حياته في المخزن مستحيلة. كيفما كان الأمر فقد سعى، على بينة مما يفعل،أو عفوا، إلى أن يوسع شبكة علاقاته الخارجية، لتكون له ملجأ وملاذا يهرع إليه إذا ما اشتد الضغط عليه. في نهاية المطاف، وهنا المفارقة، صبت هذه العلاقات في صالح الحسن الثاني، لأنه خلال فترة حكمه استفاد من الصلات ومن العلاقات التي حاكها أبي.
في أوئل السبعينيات من القرن الماضي، عين والدي ممثلا شخصيا للملك الحسن الثاني، فوضع كل تلك العلاقات والصلات في لبنان والخليج، بتصرف الملك. عندما تعرف أي على أمي، كانت علاقته مع شقيقه الأكبر لا تزال جيدة، ولكنه روى لي، في بعض لحظات يأسه كيف شهد عاجزا تدهور العلاقة بين محمد الخامس ومولاي الحسن، ولاسيما أن هذا الأخير كان صاحب مزاج حاد لا يتورع معه عن مخاشنة الآخرين ساعيا باستمرار إلى توسيع سلطاته. فكان محمد الخامس يشتكي من أن ولي عهد يتفرد بالرأي في أحيان كثيرة ويحرق المراحل، ولو أن مبادرات ولي العهد، في الأغلب، خدمت النظام وصبت في مصلحة الملكية. لم تخل العلاقة بين الأب وابنه من نقاشات صاخبة. استشعر والدي الأزمات المقبلة وتوجس شرا من القسوة التي أبداها الحسن الثاني حيال الحركة الوطنية التي قادت البلاد إلى الاستقلال، ومن التقارب المفرط مع المغرب- فرنسا وأمريكا- دون مراعاة أن المغرب جزء من حركة عدم الانحياز، ومن العالم الثالث...
لقد كانت هذه المسائل في صلب العقد بين الشعب والعرش، أي ميثاق السلطة. في الحقيقة، لم يقتصر الأمر على ميثاق واحد، بل هناك ميثاقان في تلك الفترة: كان الأول مع الحركة الوطنية، بينما الثاني وهو أوسع نطاقا يشمل الأول ويتجاوزه إلى المجتمع المغربي ككل. بموجب هذا الميثاق الثاني، تكرس الملك رمزا لوحدة الأمة، وأميرا للمؤمنين يجسد التحام المواطنين كجسد مقدس واحد. في المقابل، كان على الملك الحرص على ما نسميه اليوم الحكم الرشيد، الذي يعني، في السياق المغربي آنذاك، عدم الاصطدام مع تعاليم الإسلام.
النص مقتبس من كتاب سيرة أمير مبعد، ترجمة أحمد بن الصديق، دار الجديد، الطبعة الأولى، ص:31-38.
إرسال تعليق