بقلم: بيار كونيسا
في اللفياثان (Leviathan)، وضع هوبز (Hobbes) مقارنة بين الحالة الفطرية (Etat de nature) قبل المجتمع البشري، والمجتمع البشري، حيث تشكل الحرب فيه النظام الطبيعي (Ordre naturel). ويفترض هوببز أن الناس يتصرفون بصورة عنيفة، وأن التنظيم المشترك وحده يكبحهم، كما ينتقد النظرية الأرسطية التي تقول إن الإنسان كائن سياسي، فالإنسان قد يكون اجتماعيا قسرا، وليس بطبعه. والعدو بالنسبة إليه، إذا، هو معطى طبيعي. وتلخص هذه النظرية سريعا العبارة الشهيرة: "الإنسان ذئب الإنسان". ويبدو صنع العدو بنيويا؛ إذ إن الحالة البدائية هي حالة "حرب الجميع ضد الجميع". ففي هذه الحالة، تقود غريزة البقاء الإنسان فحسب. الناس متساوون أصلا ولديهم الحقوق ذاتها على الأشياء، والوسائل ذاتها للحصول عليها، بالدهاء أوالعنف. ويكون كل شخص هو الحكم الوحيد على الطرائق التي يمكن استخدامها لبلوغ ذلك. ومن بين هذه الطرائق الحرب. يعمد الإنسان إلى المهاجمة قبل أن يكون عرضة للمهاجمة، وذلك بغية استباق الخطر. وليس العنف سوى استباق للخوف في مواجهة التهديد الحقيقي أو المفترض. ولا يتساءل هوبز عما يتعلق بعملية اختيار العدو طالما أن الحرب وضع طبيعي.
ينتقد روسو (Rousseau) في كتابه حالة الحرب (L Etat de guerre) "منهج هوبز الفظيع"الذي يجعل من الحرب النظام الطبيعي للمجتمع البشري. وعلى العكس، فإن عملية إنشاء الحالة الاجتماعية التي أنهت الحالة الطبيعية، بررت الحرب وجعلتها شبه دائمة. ويضع روسو نفسه، كونه ابن زمنه، في إطار العلاقات بين دولة أخرى، ويتخذ حرب السنوات السبع مرجعا له. فالناس لا يكونون أعداء إلا في الوضع الظرفي للحروب بين الدول التي يشاركون فيها جنودا وليس في الحالة البدائية!
تنطلق هذه النظريات المؤسسة الكبرى من فكرة مفترضة عن "الطبيعة البشرية" التي يمكن أن تكون طيبة أو شريرة. ويفترض استمرار الحروب، بأشكالها الأكثر تنوعا، البحث في تصنيفات نطرية أخرى.
تتطرق الكتب التعليمية المؤسسة للاستراتيجيا، إلى الحرب وليس إلى العدو. ومهما بدا ذلك مذهلا، فإن التفكير الاستراتيجي الكلاسيكي لا يعنى كثيرا بالعدو قبل الحرب. ويبدو أن الجميع يتبع ألبيريكو جنتيليس (Alberico Gentilis) الذي يعرف الحرب في القرن السابع عشر في كتابه قانون الحرب (De jure bellis) بأنها نزاع "مسلح، عادم وعادل". ونحن هنا لا نناقش موضوع العدو؛ إذ إن الحرب "عادلة"، وبالتالي لا يمكن تفاديها، بل نعيش اليوم في حقبة تاريخية من دون خطر استراتيجي جسيم، لكن ليس من دون حروب. فماذا في ذلك؟
يهتم الفكر العسكري بالطريقة التي تتيح ربح الحرب. وينطلق جاك أنطوان هيبوليت دو غيبير (Jacques Antoine Hippolyte de Guiberte) في كتابه دراسة عامة في التكتيك (1770) (Essai general de tactique) من مسلمة تقول إن الحرب معطى. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البروسي كلاوزفيتز (Clausewitz) والسويسري أنطوان هنري جوميني (Antoine Henri Jomini) اللذين اعتبرا أن موضوع أصل النزاعات هو موضوع ذو أهمية ضئيلة؛ إذ إن العدو المحدد هو عدو بنيوي، إنه نابليون. فضلا عن ذلك، حارب هذان الاستراتيجيان الإمبراطور في صفوف الجيش الروسي، قبل عودة كل منهما إلى وطنه.
في القرن العشرين، كرس ليدل هارت (Liddell Hart) ذكاءه كله للطريقة الجيدة التي تتيح الانتصار في الحرب الكبرى، جراء تأثره الشديد بأهوال حرب الخنادق. أسس غاستون بوتول (Gaston Bouthoul) الذي روعته الحرب العالمية الثانية، عام 1945 "علم الحرب" كمادة من مواد علم الاجتماع. وبوصفه ابنا لعصره شهد حربين عالميتين، والحرب الباردة جزئيا، فقد بدت حالة الحرب لبوتول حالة مستمرة في مجتمعات البشر، إذ إن صرخة "لن يتكرر ذلك!" (Jamais plus) التي أطلقت بين الحربين العالميتين لم تمنع نشوب الحروب. ويبني تحليله على ما يبدو له أنه الدوافع الحقيقية للعنف الحربي في الجسم الاجتماعي. ويسعى بوتول إلى تنسيق أسباب الحرب وفق نظام معين. ويتجاوزه الأسباب السياسية المباشرة الخاصة بكل نزاع، يحاول تقديم مقاربة متعددة المجالات (pluridisciplinaire) للظاهرة، في كتابه بحث علم الحرب (Tralte de polemologie)، حيث يهتم المحارب الذي يسميه الإنسان الساخط (Homo Furiosis). وفي رأيه، فإن ما يحشد ويبعئ للنزاع ليس الدول أو الأفراد بل القناعات والمعتقدات. وتنشأ الحرب على الأغلب من إرادات جماعية وقيم اجتماعية معترف بها وهي الامتيازات الاجتماعية والرمزية للمحارب الناتجة عن الحرب، "الشرط الحربي"، "الشعور بالتفوق"، تأليه الحرب، "معنى التاريخ"، أو ضبط النمو السكاني...وعلى خلاف المؤرخ الذي يفسر الحرب وفق دوافع خاصة، يريد يوتول أن يجد أسبابا بنيوية لها. ويلاحظ أن أسباب النزاعات مرتبطة بسيطرة "الأهواء الحربية"؛ لأن المجابهة لن تحصل إلا إذا انخرطت فيها الشعوب المعنية. هنا أيضا كانت المسؤولية النازية، وستكون الحال في ما بعد مسؤولية الشيوعية، في نشوب النزاعات، واضحتين. لكن تحليل بوتول في ما يتعلق بالدولة على وجه الخصوص، والمتمركز حول أوروبا، لا يتوقع حروب إنهاء الاستعمار، ولا الحروب التمردية، ولا الثورات ضد الظلم، ولا الحروب الأهلية.
أما الفكر الماركسي فهو يبسط السيناريوهات كثيرا، بوضعه مبدأ الحرب الأهلية الكونية، ويحدد البرجوازية عدوا مطلقا، أي "عدو الطبقة". ويظهر إنغلز (Engels) في كتابه دور العنف في التاريخ (Le Role de la violence dans l histoire) (1888) الصفة الحتمية بل الضرورية للحرب حتى للبرجوازية بالنسبة إلى دكتاتورية البروليتاريا المهيمة. ونجد مع لينين (Lenine) في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية (l Imperialisme stade supreme du capitalisme) (1916)، تفسيرا بسيطا وشاملا (systemique) للحرب العالمية،أي المنافسات الإمبريالية العدائية بنيويا، وهي الامتداد المسلح للمنافسة التجارية. وقد دفعت البرجوازية الصناعية والمالية التي بررت الغزو الاستعماري، ببلادها إلى محاربة الخصم الأخطر. وكان يمكن أن تشن فرنسا هذه الحرب على إنكلترا لكنها كانت ضد ألمانيا! إنها الحرب التي يشرحها تجار السلاح. وكان من الصعوبة بمكان بالنسبة إلى الشيوعيين أن يتخيلوا حروب إنهاء الاستعمار، والتعاطف مع العالم الثالث (le tiers-mondisme) ودول عدم الانحياز التي لا تدخل بسهولة ضمن معايير التحليل هذه. ولقد أربكهم أكثر من ذلك النزاع الصيني - السوفياتي، واحتلال فيتنام لكمبوديا، ثم حرب الحدود بين هانوي (Hanoi) وبيجين (Pekin). وكان لا يمكن لبلاد شيوعية أن تتحارب! لكن الاستراتيجي الشيوعي الكبير الأخير، تلميذ سون تسو (Sun Zu)، وهو ماو تسي تونغ (Mao tse-Toung) غير علاقات الحرب، وعبر عن اهتمامه بعدوه، لكن بصفته ماركسيا متمرسا. وأبرز، في سياق الثورة الصينية، تحالفا أسطوريا بين الطبقات الاربع الثورية ضد البرجوازية الصينية والمعسكر الإمبريالي الياباني والغربي. وحين أصبح ماو رئيس دولة، غير النموذج الدولي حيث غدا الاتحاد السوفياتي، الحليف المخلص للمعسكر الشيوعي والقوة المضادة للامبريالية في البدايات، ومع النزاع الأيدلوجي ثم النزاع الحدودي (حوادث أوسوري (Oussouri) في عام 1967)، صار هو العدو الأساس المضاهي لواشنطن. حدث هذا قبل أن يصبح العدو الرئيس في أثناء الثورة الثقافية ويندد به كقوة مراجعة تحريفية (revisionniste)؛ ما اعتبر خيانة عظمى في ما يتعلق بالنزاع الأيديولوجي. وأخيرا وابتداء من عام 1971، نظر ماو إلى جبهة متحدة عالمية ضد الاتحاد السوفياتي وضد الرأسمالية، وقد تعريفا لـ "نظرية العوالم الثلاثة"، سيقف العالم الثالث بقيادة بيجين في وجه القوتين العظيميين.
أعطى ريمون آرون (Raymond Aron)، المفتون بالخطر النووي الحتمي، السلم أهمية أكبر مما أعطى للحرب، ذلك أن العدو الشيوعي لا يشكل معضلة في ما يتعلق بتحديده كعدو. لكنه لم يقع في فخ آلية العالم الثنائي القطب، مقترحا أنموذجا لجميع أنواع السلام، وفق القدرات التي تملكها القوى للتفاعل في ما بينها. وفي "سلم التوازن" تكون القوى متساوية، وفي "سلم الهيمنة" تسيطر دولة على الدول الأخرى، وفي "سلم الامبراطورية" تضع دولة قوية حدودا للحكم الذاتي للأمم الخاضعة لها. و"سلم العجز" هو سلام الرعب أو الترويع المتبادل الناتج عن التهديد النووي. غير أنه يقبل أن يحل "سلام الرضى"، وهو مثالي، وينشأ فيه غياب الحرب من غياب المطالب. ومع ذلك فإن الاتحاد الأوروبي كان يبنى تحت ناظريه، لكن كان يبدو أن فظاظة النزاع بين الشرق والغرب حرمته من الميزة الاستثنائية لمعاهدة روما.
لم يسع مفكرو الاسترتيجيا كثيرا لمعرفة كيف يحدد مجتمع ما أعداءه، واكتفوا بأن يستعيدوا على نحو منتظم عبارة كلاوزفيتز التي أصبحت شهيرة: "الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى". والحال أن العبارة صحيحة لكنها ذات حدين، هي صحيحة طالما نهتم بالنزاعات بين دول كانت بينها علاقات سياسية ودبلوماسية، لكن يتعذر تطبيقها على الحروب الأهلية، وعلى المجازر الكبرى، والأعمال الإرهابية، أو على النزاعات الدينية. ثانيا، لا تدخل الحرب النووية ضمن هذا المنطق؛ إذ كما قال سخاروف (Sakharov) بمرارة: "ستكون الحرب النووية الحرارية شيئا مختلفا عن مواصلة بسيطة للسياسة بوسائل أخرى، ستكون وسيلة للانتحار الجماعي".
لا يقدم التأمل الاستراتيجي الحالي أجوبة كثيرة. فالفكر العسكري يهتم بالملامح البنيوية والاستراتيجية للعدو، بعد أن يتم تحديد هذا الأخير. وهكذا فالموازين العسكرية (Military Balances)، وهي المراجع الدولية للتفكير الاستراتيجي التي يصدرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، تحصي حالة القوات المسلحة في العالم، التي تفهم بوصفها مصدر تهديد وتنافس كامنين، وفق كمية العتاد وقوة النظم العسكرية. وقد بلغت الميزانية الأمريكية عام 2010، 708 مليارات دولار، أي ما يعادل تقريبا ثلاثة أضعاف مجموع ميزانيات الصين، وروسيا، وكوبا، وكوريا الشمالية وإيران، بحسب وينسلو ويلر (Winslow Wheeler). ويبقى العدو إذا مضمرا، وإلا لاعتبرت القوة العظمى العسكرية الأميركية تهديدا كونيا، وهي المهيمنة بشكل واسع منذ عام 1991 وتمثل نصف الإنفاقات العسكرية على كوكبنا. غير أنها ليست كذلك، على كل حال، بالنسبة إلى معظم القراء الغربيين. أما بالنسبة إلى الآخرين، فنعتقد أننا نعرف الجواب...
تصف مؤلفات مراكز التفكير (think tanks) الأكثر شهرة، مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) البريطاني، والمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، الوضع الدولي تبعا للتقديرات الإيديولوجية الآنية. وقد تم إعداد عدد مجلة رمسيس (Ramses) للعام 2002، وهو مؤلف تخطيط استراتيجي سنوي للمستقبل يصدر عن IFRI، تم إعداده في أواسط 2001 قبل اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، ولم يكرس أي مقالة حول الظاهرة الإسلامية. وكان للإرهاب أو لأفغانستان تاثيرات شبيهة "بالموضة" حسبما قررنا أن نجعل من الأول تهديدا أساسيا، على الرغم من أنه ليس سوى وسيلة، ومن الثاني أسطورة، أو ملحمة أو تهديدا..
العدو خيار، وليس معطى من المعطيات.
لقد أتت القطيعة الحقيقية من المدرسة الأمريكية، أو بالأحرى الألمانية، بين كارل شميت (Carl Schmitt) "أن الملك السيد هو من يحسم الحالة الاسثنائية".وعليه فإن طبيعة السياسي بذاتها تنحو إلى التمييز بين الصديق والعدو: "يفترض أن نصل إلى السياسي، ونحاربه، ونعارضه، وندحضه". وتحدد الجماعة مقاربة بما هو نقيضها. وعليه، تمثل الحرب العمل السياسي المثالي، فلكي يحقق المرء وجوده بالذات يجب، حسب شميت، أن يحدد عدوه ويحاربه. وتمثل الدولة الشكل الأكثر اكتمالا للسياسي، لأنها وحدها تستطيع تحديد العدو وتسميته. وتفقد الدولة التي تعتمد سياسة سلمية صفتها ككيان سياسي. وفي رأي كارل شميت الذي ينتمي إلى جمهورية فايمار (Weimar)، كان الدستور الديمقراطي للرايخ الثاني، على غرار التوازن التام بين السلطات، مشلولا كليا. وكان يأمل أن يكون هنالك دعم السلطة التنفيذية بهدف إعادة النظر في إملاءات فرساي (Diktat de Versailles)، وهو رأي شاكره فيه كل أبناء وطنه تقريبا. ومنح دعمه لهتلر (Hitler) الذي كان أعلن هذه الأهداف.
وعليه، ترسخت مقاربة كارل شميت ومن أتى بعده في النظرية الألمانية للحق الذي يتصور الدولة. لكن أبعد من ضرورة تحديد العدو بالنسبة إلى السياسي، لا يتساءل شميت بوصفه رجلا ينتمي إلى عصره، عن الآليات التي تسهم في اختيار العدو.
وبإعادة إحياء نظريات الحق الطبيعي والحرب العادلة، أعاد ليو شتراوس (Leo Strauss) إحياء الخصام بين القدماء والمحدثين. ويؤمن شتراوس بوجود قيم كونية وحقائق بديهية. وبدأ، ربما من غير وجه حق، كأنه أحد مؤسسي ثوابت المحافظين الجدد، لأن كريستول (Krystol) وولفوفيتز (Wolfowitz) استفادا من مقاربته الفلسفية، كما استفاد منها ملهمون آخرون لدبلوماسية جورج بوش الابن الذي ادعى تجسيد قيم كونية في العمل الدولي. ويستعيد هؤلاء تقليدا أمريكيا للحق الطبيعي، وهو مزيج من التفاؤل والعمل. ولقد وجدوا مع ليو شتراوس مبررا فلسفيا وأخلاقيا لمفهوم الحرب الاستباقية (guerre preemptive) على سبيل المثال، التي استخدمت بلؤم ضد العراق. وقادتهم القناعة بأنهم بلد القيم إلى تبرير القوة والسلطة. ووفقا لكتابهم المقدس مشروع لقرن أمريكي جديد (PNAC) (Project for a New American Century) الذي كتب منذ العام 1997 ويعرض المبدأ المزدوج القائل بأن ما هو صالح لأمريكا فهو صالح للعالم أيضا، وعليه يجب منع ظهور الخصم المتعادل (peer competitor). وتبرهن حملة الشجب العنيفة التي سببتها معارضة فرنسا وألمانيا وروسيا للحرب على العراق أن بعض مفكري واشنطن يعتبرون هذه البلدان، ومن بينهما حليفان "أعداء". وهكذا تتداخل التسميات بين الخصم أو المنافس أو العدو.
إن كانت النظرية السياسية لا تقدم جوابا محددا عن آليات اختيار العدو، فلنر ما يقول القانون الدولي الذي يمكن لانتهاكه أن يكون سببا للحرب، وبالتالي بوسعه أن يحدد العدو.
النص مقتبس، من كتاب: صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح، لبيار كونيسا، باحث وأكاديمي ودبلوماسي فرنسي، شغل منصب مساعد مدير لجنة الشؤون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية، وهو أستاذ ف في معهد العلوم السياسية، ترجمة: نبيل عجان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2015، ص:23 - 30.
إرسال تعليق