بقلم: إسماعيل بلاوعلي
فتح اعتلاء محمد السادس العرش أفقا أوسع لكشف مصير المهدي بن بركة. ما كان مستحيلا على عهد الحسن الثاني، صار ممكن منذ 18 غشت 2000، تاريخ تفعيل السلطات المغربية للإنابة القضائية الفرنسية. كانت تلك أول مرة يحصل فيها تقدم فعلي في هذا الملف المفتوح - قضائيا- منذ أكتوبر 1975، حين تقدمت عائلة المهدي أمام القضاء الفرنسي بشكاية ثانية، بعدما طويت المحاكمة الأولى دون كشف حقيقة اختطافه. كما أن عبد الرحمن اليوسفي وجه، غداة توليه الوزارة الأولى في حكومة التناوب، تعليمات لعمر عزيمان، وزيره في العدل، لتفعيل تلك الإنابة القضائية، لكن تنفيذ هذه التوجيه لم يتحقق إلا بعد وفاة الحسن الثاني.
في ذلك السياق المفعم بآمال الانفتاح، أكد محمد السادس حرصه على كشف حقيقة مصير بنبركة. "أنا على استعداد للمساهمة في كل ما من شأنه المساعدة على معرفة الحقيقة"، كما ورد في الحديث الذي خص به جريدة "لوفيغارو" الفرنسية بتاريخ 4 شتنبر 2001. اعتبر طي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من أبرز الأوراش التي فتحت في العهد الجديد، فظهر وكأن هيئة الإنصاف والمصالحة ستكون الممر الأخير نحو كشف مصير المهدي بنبركة، والعديد من المختفين مجهولي المصير، خاصة وأن الصيغة التي أسسب بها الهيئة جعلتها توفر ضمانات قوية بعدم التعرض لأي مسؤوليات فردية عن تلك الانتهاكات، وبالتالي تجنب أية متابعة قضائية، مقابل كشف الحقيقة من أجل الإنصاف وتحقيق المصالحة. في حالة بنبركة تكتسي المصالحة مضمونا عميقا. اختطافه لم يستهدف شخصه فقط، وإنما أيضا المشروع السياسي الذي حاول المهدي صياغتع وتنفيذه بعد الاستقلال. مشروع كان عمقه استكمال التحرر الترابي والاقتصادي عن فرنسا. ما جعل التيار الذي كان ينتمي إليه بنبركة يدخل في مواجهة عنيفة مع الكثير من الفئات الأجنبية والمحلية التي كانت ترى في هذا التوجه تهديدا لمصالحها.
ماذا قال الشهود؟
لا ينفي التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة، الصعوبات الموضوعية التي اعترضت سبيلها في الكشف عن حقيقة مصير 66 حالة "تمت دراستها، تجتمع فيها العناصر المؤسسة للاختفاء القسري، وتعتبر الهيئة من واجب الدولة متابعة البحث بغية الكشف عن مصيرها". بيد أن وثيقة اخرى من وثائق الهيئة تظهر أن إمكانيات التوصل لتفاصيل أوفى حول قضية بنبركة كانت متوفرة فعلا. يتعلق الأمر هنا بالتقرير الذي أعده عبد العزيز بناني عضو هئية الإنصاف والمصالحة، حول الأبحاث المنجزة في قضية بنبركة والمؤرخ في 28 نونبر 2005. عند نهاية مهمتها أوكلت الهيئة للمجلس الاستشاري "الوطني حاليا" لحقوق الإنسان، متابعة البحث في الملف، والحالات الغامضة الأخرى.
يظهر التقرير الوحيد الصادر عن هذا المجلس سنة 2010 أن استجلاء حقيقة مصير بنبركة لم يمض بعيدا، شأنه في ذلك شأن 8 حالات أخرى لمختفي مجهولي المصير.
تمكنت الهيئة من عقد جلسات عمل منتظمة مع المديرية العامة للدراسات والمستندات (DGED) والمديرية العامة للأمن الوطني (DGSN). هذه الجلسات "ساهمت في فتح سبل جديدة للتحري بخصوص عدد من الحالات من تسهيلها لعميلة الاستماع لبعض المسؤولين السابقين، ولزيارة بعض المراكز و"النقط الثابتة" التي استعملت في الستينات والسبعينات لأغراض الاحتجاز التحكمي. غير أن هذا المستوى من التعاون لم يشمل كافة الأجهزة، حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما يوضح التقرير الختامي.
كان التعاون مع جهازي الداخلية والمديرية العامة للدراسات والمستندات يكتسي أهمية بالغة في قضية بنبركة. محمد أوفقير، المتهم الرئيسي في الملف. أما أحمد الدليمي فكان حينئذ، مديرا عاما للأمن الوطني، ومسؤولا عن جهاز الأمن السري "الكاب1". عندما حل الأخير مطلع السبعينبات من القرن الماضي ورث جهاز "المديرية العامة للدراسات والمستندات". لذلك سعى أعضاء فريق التحريات في هيئة الإنصاف والمصالحة إلى البحث عن "حقيقة" اختطاف المهدي بنبركة لدى هذه المؤسسة. طلبت الهيئة الاطلاع على الأرشيف الخاص بالقضية، والاستماع إلى الأحياء من ضمن الأعضاء السابقين في "الكاب1"، المتهمين بالمشاركة في اختطاف المهدي. يكشف عبد العزيز بناني، عضو الهيئة، في حديث خص به "زمان"، أن رئيس الهيئة وعضوين من فريق التحريات استمعوا فعلا لشهادة ميلود التونزي، أحد اهم أولئك المتهمين، بيد أنها لم تكن مقنعة. جرى الاستماع لإفادات التونزي، الذي كان ضابطا في جهاز "الكاب1" واشتهر باسم المستعار "العربي الشتوكي"، بحضور محمد ياسين المنصوري، مدير الإدارة العامة للدراسات والمستندات. كان حضور المنصوري الذي ظل صامتا طيلة الجلسة، يمثل ضمانة إضافة للتونزي، فضلا عن الضمانات التي يوفرها له القانون المحدث للهيئة بعدم تعريضه لأية مساءلة شخصية. فماذا كان إفادة التونزي. "أخبرنا أنها كان حاضرا فعلا في باريس عندما وقع اختطاف المهدي بنبركة، وذلك في مهمة رسمية كلف بها جهاز "الكاب1". بالموازاة مع مهمة أوفقير، وأن هذه المهمة لم تكن أكثر من تتبع الاتصال المفترض بين أوفقير وبنبركة لإقناعه بالعودة إلى المغرب. هذا كل ما أفادنا به التونزي. مع الأسف لم يكشف عن الحقيقة، ولم يشرح لنا مثلا لماذا كان يتعقب المهدي في مصر وسويسرا، أو لماذا حصلت محاولة اغتياله قبل ذلك هنا في المغرب سنة 1962". بوضح عبد العزيز بناني متحدثا لـ "زمان".
في تقرير حول ضية بنبركة، المؤرخ في 28 نونبر 2005، يوضح بناني أيضا أن الهيئة "أخبرت بان المديرية العامة للدراسات والمستندات، سوف تقوم بالأبحاث المتعلقة بالجهاز السري المسمى كاب 1". بيد أن شيئا لم يظهر من هذه الأبحاث، كما يؤكد بناني. مع العلم أن سرية الأرشيف المتعلق بقضية بنبركة ليس خصوصية مغربية، فبعد محاولات متعددة لم يتمكن دفاع عائلته من الاطلاع سوى على أجزاء محدودة من أرشيف المخابرات الفرنسية، وما تزال أجزاء كثيرة من ذلك الأرشيف مطبوعة بطابع السرية. نفس الشيء بالنسبة لأرشيف (CIA) جهاز المخابرات الأمريكي الذي لم يستجب لأي من مناشدات عائلة المهدي بنبركة، للاطلاع على ما يخص قضيته، رغم أن القوانين الأمريكية تتيح لهم ذلك نظريا.
بغض النظر عن مضمون شهادة التونزي، لاشك أنها كانت على الأقل مصدرا من المصادر التي لربما أمكن لهيئة الإنصاف والمصالحة استغلالها لعرض ما توصلت إليه من أبحاث في قضية بنبركة، فشهادة التونزي للهيئة محاطة بضمانات عدم المتابعة، خلافا لما يمكن أن يترتب عن الاستماع للشهود أو المتهمين في نطاق بحث قضائي. كما أن البحث القضائي نفسه، في هذه الحالة، يظل محدودا لاعتبارات لا تجد أي تبرير مسطري. يبقى عبد الحق العشعاشي المتهم الوحيد الذي تم الاستماع إليه قضائيا في سنة 2003. كان العشعاشي عنصرا في جهاز "الكاب 1" يتهم بكونه على صلة بتنظيم اختطاف بنبركة. يؤكد موريس بوتان، محامي عائلة بنبركة، في حديث مع "زمان"، أن"محضر الاستماع لعبد الحق الشعشاعي، من طرف قاضي التحقيق الشنتوف، في إطار الإنابة القضائية الدولية، ظل محتجزا على مستوى وزارة الخارجية المغربية، لم يبلغ أبدا إلى القضاء الفرنسي"، إذ تقتضي مسطرة الإنابة القضائية تدخل وزارة الخارجية في البلدين لتنظيم العمل، وهذا المقتضى التنظيمي كان دائما يستغل من طرف الدولتين الفرنسية والمغربية لتجميد الأبحاث القضائية.
لماذا لم ينبش "PF3"؟
توفرت هيئة الإنصاف والمصالحة، إلى جانب الاستماع للشهود، على وسيلة فعالة في التحري. لأول مرة صار ممكنا تحديد و"نبش" مراكز اعتقال سرية اشتهرت في سنوات الرصاص بإيوائها معتقلين سياسيين، وربما جثامين المتوفين منهم أثناء الاحتجاز. في قضية المهدي بنبركة تركزت الأنظار على معتقل "النقطة الثابتة 3" أو "ب ف 3"، كما اشتهر إعلاميا. تتجلى اهمية هذا الموقع في كونه ورد في شهادات علنية لبعض الناجين من نزلائه السابقين أن فيه بعض أسرار مصير بنبركة. في الشهادة التي قدمها علي بوريكات، سنة 1993، ثم شقيقه مدحت سنة 2000، تفاصيل حول احتجاز أفراد العصابة الفرنسيين الأربعة الذين شاركوا في اختطاف بنبركة في هذا المركز السري.
حل أفراد تلك العصابة في المغرب بعد الاختطاف وظل مصيرهم مجهولا منذ تلك الفترة. حتى قاضي التحقيق الفرنسي اقتفى أثرهم في "ب ف 3". كان المعتقل يمثل، إذن إمكانية هامة لكشف مصير بنبركة، فضلا عن أن روايات أخرى تذهب إلى أن جثمان المختطف نفسه ربما يكون دفن هناك سرا. يبدو أنه إلى غاية 28 نونبر 2005، تاريخ إعداد عبد العزيز بناني تقريره حول القضية، كان الأمل فائما في استغلال الأسرار التي قد تكشف عنها أنقاض "ب ف 3".
في هذا الصدد يوضح عبد العزيز بناني، في حديثه لـ "زمان"، أن "فريق الأبحاث والتحريات، الذي كنت عضوا فيه، كان مبدئيا ملزما بتنظيم زيارة لموقع المعتقل "03-70 PF3" المعروف أيضا باسم "ب ف 3"، قبل مساءلة أجهزة السلطة المختصة، في هذا الشأن. إلا أنني فوجئت أثناء لقاء عفوي برئيس الهيئة يخبرني أنه زار الموقع المذكور، وأنه لم يعثر على شيء. كنت أكن للراحل العطف والتقدير، نظرا لما قاساه خلال احتجازه التحكمي الطويل الأمد، وما تعرض له من تعذيب حسب شهادة رفاقه، ونظرا أيضا لعملنا المشترك في المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وقد كان نائبا لي في رئاستها لفترة".
يضيف بناني مؤكدا أن "عملنا داخل الهيئة يستوجب التقييم. موازاة للظهير المؤسس لها، أعد مشروع نظام داخلي يحدد طريقة عملها وعمل فريق الأبحاث والتحريات بالخصوص، بيد أنه لم يعرض على أعضاء الهيئة، وبقي حبرا على ورق. لا شك أن هذا أثر سلبيا على عملها. بخصوص القضية التي نحن بصددها، مثلا، أكدت استنتاجات الهيئة، عن حق، مسؤولية الدولة الفرنسية في الجريمة التي وقعت فوق أراضيها، لكنها لم تؤكد مسؤولية الدولة المغربية المترتبة عن الدور الذي لعبه جهازها الأمني "الكاب 1"، علما أن هذه المسؤولية هي التي أتاحت للهيئة التصدي لهذه القضية".
بين المسعدي وبنبركة
يشير بناني إلى حادثة أخرى جعلته يشكل هذه القناعة. "لم أشارك في صياغة التقرير الختامي الصادر عن الهيئة، وعمليا تم تهميشي أثناء صياغته. بعد اطلاعي عليه سجلت أنه لا يتضمن شيئا عن قضية بنبركة. رد أحد أعضاء الهيئة، أثناء اجتماع رسمي، على ملاحظتي بالتقليل من شأن القضية. قيل لي ما معناه "ماتنساش المسعدي"! اندهشت حين سمعت هذا الجواب. ما علاقة الكشف عن مصير المهدي بنبركة باغتيال عباس المسعدي؟ نعلم أن هناك من يحمل المهدي بنبركة مسؤولية اغتيال المسعدي سنة 1956، لكن لم يثبت شيء من ذلك. ثم حتى لو افترضنا معهم، جدلا، أن للمهدي فعلا علاقة اغتيال المسعدي، فهل يسقط ذلك حف عائلته الصغيرة والكبيرة، في معرفة قبره، وحق المغاربة في كشف مصيره؟ الخلاصة أن رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة -إدريس بنزكري- خضع، مع كامل الأسف، لمنطق أسرار الدولة، فضاعت فرصة الكشف عن الحقيقة، رغم أن الإطار القانوني للهيئة كان واضحا في عدم تحميل أية مسؤوليات فردية للمسؤولين عن الانتهاكات موضوع البحث". مع ذلك يدعو عبد العزيز بناني، وهو نفسه أحد ضحايا سنوات الرصاص وكان من مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان وأحد رؤسائها السابقين، أن هيئة الإنصاف والمصالحة حققت مكاسب هامة، منوها بتضمين دستور 2011 لتوصياتها. يذكر بناني بأن "الفصل 23 من الدستور يعرض مقترفي جريمة الاختفاء القسري لأقصى أنواع العقوبات. إذا كان تأسيس الهيئة وطبيعة مهامها جعلها تستبعد المتابعة والعقوبات القضائية الفردية، فإن عائلة المهدي الصغيرة وفئات واسعة من المجتمع المغربي والدولي تتشبث بتحقيق المطلب الأساسي الذي كان منوطا بالهيئة ألا وهو كشف مكان جثمانه، الموجود حسب عدد من الشهود قرب المعتقل السري "ب ف 3". لاشك أن هذه المهمة تقع على عاتق الدولة، الممثلة في رئيس الحكومة، وسيكون الأنسب إنجازها من خلال لجنة وزارية تضم وزرات الداخلية والعدل والصحة، وذلك بحضور ممثلي المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي كلفته توصيات الهيئة بمتابعة هذا الملف". ثمة عنصر آخر متصل بقضية أفراد العصابة الفرنسيين المختفين يظهر في وثيقة أخرى من وثائق الهيئة. في الشهادة التي قدمها محمد الحبابي، أحد قادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، معلومات جديدة حول مصير لوني أحد هؤلاء الأربعة. "أعتقد جازما أن لوني كان يعيش في مدينة الرباط، حيث يقيم جوار مسكني هذا الذي أقيم به منذ سنة 1974. كان بيتي هذا في طور البناء خلال سنوات 1971، 1972، 1972، وكنت اتابع عملية البناء وأحاول أن أتعرف على الجيران. في هذا الإطار أخبرت بأن البيت الكائن في زنقة (...) يسكنه شخص له علاقة بقضية المهدي. وبالفعل فقد كان هذا الشخص يقف أمام ورشة بناء وكان يبادلني التحية أحيانا. رجعت إلى الصور التي أتوفر عليها والمنشورة إثر حادث الاختطاف وأجريت بعض المقارنات فتأكدت من أن جاري هذا ليس سوى لوني. كان عريض المنكب، متوسط الطول ولم يكن كبير السن. وكان حراس الحي يتداولون في ما بينهم ومع الغير أنه من مختطفي المهدي بنبركة. رحلت إلى منزلي بعد اكتمال الأشغال خلال سنة 1974، وكان لوني متواجدا ما يزال في ذلك البيت، وإنني لعلى يقين أنه بقي موجودا فيه إلى حدود سنة 1976 على الأقل، كما أنني متأكد أنه لم يعد موجودا به سنة 1983 حيث حل محله شخص آخر (...) وهو أحد مساعدي الدليمي. وقد لبث هذا الشخص في البيت المذكور حتى عهد قريب. كنت أشاهد لوني باستمرار، كان شديد الحذر لا يخرج إلا مصحوبا بأحد الأشخاص. كما كانت تتردد عليه سيارة ذات نوافذ سوداء تحجب الرؤية من الخارج. وكنت بحكم الجوار أبادل زوجته التحية، وأذكر أنها قالت لي ذات مرة "إنني جد خائفة عليه". وأتذكر واقعة هامة وهي أن لوني كان يتردد عليه أحد الأطباء (...) والذي كان طبيبا خاصا للسفارة الفرنسية كما كان صديقا حميما لمحمد العشعاشي (مدير ديوان الدليمي لما كان مديرا عاما للأمن الوطني)". بضيف الحبابي أنه سبق أن "أخبر عبد الرحيم بوعبيد بهذا الأمر، ثم تداولنا بشأنه مع حسن الأعرج. كما أنني عبرت لمحامي أسرة بنبركة الأستاذ بيتان عن استعدادي للإدلاء بشهادتي بهذا الخصوص أمام القضاء".
أين اختفى أفراد العصابة؟
لا يوضح الحبابي الأسباب التي جعلته لا يدلي بهذه المعطيات للقضاء الفرنسي، بيد أن ما أدلى به للهيئة يؤكد فعلا مسؤولية السلطات المغربية في استضافة أحد عناصر العصابة الفرنسية، في حين ظل الملك الراحل الحسن الثاني ينكر أي صلة للمغرب بهذه الجريمة التي حصلت "فوق التراب الفرنسي". في نطاق المهمة الأساسية لهيئة الإنصاف والمصالحة، أي كشف الحقيقة، كان تتبع مثل هذه المعطيات كفيلا بالتقدم أكثر في هذا السبيل. خاصة وأن التحقيق القضائي لم يتمكن من تحقيق الشيء بالكثير في ما يخص مصير الفرنسيين الأربعة، ولا ما يهم معتقل "ب ف 3".
كل ما بلغه التحقيق القضائي بخصوص مصير الفرنسيين الأربعة، كان اكتشاف سجل تجاري يحمل اسم زوجة بوشيس، زعيم العصابة، بصفتها مسيرة فندق "كران أوطيل" بالدار البيضاء 1965. تأتي ذلك بفضل تعاون القاضي الفرنسي باولو مع قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء الزعنوني، والذي كان "ِشجاعا ونزيها". على حد تعبير موريس بوتان، محامي عائلة بنبركة. لكن هذا التعاون سرعان ما توقف عند هذا الحد. فعندما عاد القاضي الفرنسي في غشت 2002 إلى المغرب ليطلب عناوين 11 شرطيا كانوا حراسا في معقتل "ب ف 3"، جاء الجواب سلبيا من لدنة الشرطة القضائية المغربية، والتي نفت علمها بوجود هذا المعتقل أساسا، وذلك استنادا لما يشرحه موريس بوتان في مؤلفه "الحسن الثاني، دغول، بنبركة، ما أعرف عنهم". في هذا المؤلف الذي يقدم توثيقا دقيقا لأهم محطات القضية، يسجل بوتان أن الإدارة السياسية في فرنسا والمغرب، طالما وقفت حاجزا أمام البحث القضائي عن الحقيقة.
يبدو أن غياب هذه الإرادة ما يزال مستمرا، في المغرب، حتى بعد وفاة الحسن الثاني، فلم تحقق هيئة الإنصاف والمصالحة أي تقدم في كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة.
المقال مقتبس من مجلة زمان المغربية، العدد:25 نونبر 2015.
إرسال تعليق