بقلم: غيورغ سورنسن
الديمقراطية شكل من أشكال الحكم يكون فيها الحكم للشعب. وقد حظيت الطريقة العملية التي ينبغي أن تنظم بها الديمقراطية، والأحوال والشروط المسبقة التي تتطلبها، بنقاشات مكثفة على مدى قرون. وبالفعل، ترجع الإسهامات المبكرة في هذا النقاش إلى اليونان القديمة. ونزعم بأن على كل من أراد أن يفهم الديمقراطية ووضعها الحالي في العالم أن يكون ملما بأهم النقاشات التي دارت حول معنى الديمقراطية، وأن يمتلك تصورا عن الخصائص الأساسية للديمقراطية ذات الصلة بعالم اليوم، وأن يتمتع بفهم للكيفية التي تؤثر بها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في نوعية الديمقراطية.
يرجع مصطلح الديمقراطية إلى الكلمتين اليونانيتين demos وتعني الشعب، وkratos وتعني الحكم. وقد يبدو التعريف "حكم الشعب" واضحا ومباشرا، لكنه يثير عددا من القضايا المعقدة التي نوجز أهمها في ما يلي:
- من هو الذي يعد "ِشعبا"؟ أو كيف نعرف الشعب؟
- ما نوع المشاركة المتصورة للشعب؟
- ما الظروف التي يعتقد بأنها مواتية للمشاركة؟ هل يمكن لمثبطات المشاركة ومحفزاتها، أو تكلفتها وفوائدها، أن تكون متساوية؟
- إلى أي مدى يمكننا أن نوسع تأويلنا لنطاق الحكم أو نضيقه؟ وما المجال الملائم للنشاط الديمقراطي؟
- إذا كان من شأن "الحكم" أن يغطي "الجانب السياسي"، فما الذي نعنيه بهذا؟ هل يشمل "1" القانون والنظام العام؟ "2" العلاقات بين الدول؟ "3" الاقتصاد؟ "4" الفضاء الداخلي أو الخاص؟
- أمن الواجب طاعة قواعد "الشعب"؟ وما موقع الالتزام بها والخروج عليها؟
- ما الأدوار المسموح بها لمن يصرحون علنا وبجرأة أنهم غير مشاركين؟
- في ظل أي الأحوال، إن جاز أصلا، يحق للديمقراطيات بأن تلجأ إلى القسر ضد شعوبها أو ضد من يقعون خارج فضاء الحكم الشرعي؟
- من الواضع أن أي نقاش للديمقراطية لابد وأن ينطوي، لا على نظرية حول السبل التي يمكن أن يسلكها الشعب لتنظيم الحكم فحسب، بل كذلك على فلسفة حول ما ينبغي أن تكون عليها الحال أيضا "أي أفضل السبل لتأليف الحكومة"، فضلا عن فهم التجارب العملية في طرائق تنظيم الحكم في مجتمعات وأزمات مختلفة.
إن هذه الاعتبارات غالبا ما يتشابك بعضها مع بعضها الآخر، غير أننا نجد، في الوقت نفسه، عنصرا واحدا مشتركا في أكثر الإسهامات أهمية في النقاشات المتعلقة بالديمقراطية: يتمحور جميعها حول سياق المجتمع المعاصر كما يتصوره اولئك الذين قدموا هذه الإسهامات. وعليه، فإن للسجال حول الديمقراطية دينامية داخلية - ذاتية، بمعنى أن يتطور وينمو آخذ بعين الاعتبار جوانب وأبعادا جديدة تتغير كلما تغير السياق المجتمعي، أو كلما تغير تصور المحلل له.
من ثم فإن نقد أفلاطون (Plato) للديمقراطية في أثينا كان متأثرا بما رآه هو انحطاطا للمدينة، وهزيمة لها في الحرب مع إسبارطة، وانحلالا في الأخلاق والقيادة. وكانت الديمقراطية في أثينا تعني حكم الأغلبية الفقيرة، وكان للناس أن يفعلوا، بكل بساطة، ما يحلو لهم؛ فلم يكن للسلطة احترام في العائلة ولا في المدارس ولا في أي مكان آخر. وفي نهاية المطاف، خلص أفلاطون إلى أن القوانين لن تكون محترمة بل سينظر إليها على أنها اعتداء على حرية الشعب. وسيقود هذا الوضع إلى الفوضى (anarchy) (بمعنى غياب السلطة السياسية) والانفلات، وسيمهد هذا بدوره الطريق أمام الطغيان (حكم دكتاتور منفرد) (tyranny). وقد كان الحل الذي ارتآه أفلاطون هو التوصية بحكم العقلاء المدربين والمتعلمين؛ أي الفلاسفة.
وجد أرسطو (Aristotle) نقدا مماثلا للديمقراطية التي رآها هو أيضا تشبه أحد أشكال الحكومة المكرسة حصرا لخدمة مصالح الفقراء. وأيد أرسطو فكرة إفساح المجال أمام النفوذ الشعبي في سن القوانين، مثلا، وهو موقف تبناه أفلاطون في كتاباته الأخيرة، وعمل أرسطو على تطويره لاحقا.وفي ظل اعتبارات من هذا النوع، برز توجه نحو مزيج من الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، أو "دولة خليط" (mixed state) يضمن فيها الفصل بين السلطات توازن القوى بين الجماعات الرئيسة في المجتمع.
مع انحطاط روما، انحسر الجدال حول الديمقراطية. ففي ظل نظام إقطاع العصور الوسطي، لم تكن السلطة منوطة بهيئات منتخبة، إذ إنها كانت معتمدة على المرتبة (rank) التي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الوراثة أو القوة. و"لم تفكر أي حركة شعبية، مهما احتدم غضبها، بأن أهدافها يمكن أن تتحقق عن طريق الحصول على حق الاقتراع. ولم تسع الأمم والدول المدن (city-states) المستقلة في الفترة المتأخرة من العصور الوسطى أيضا وراء السلطة بتلك الطريقة".
بزغ تيار فكري جديد يدور حول الديمقراطية في عصر النهضة، وخصوصا مع كتابات نيكولو مكيافيلي (Niccolo Machiavelli) (1469- 1527) ، على الرغم من أن هذا التيار لم يحقق حضورا تاما إلا في القرن التاسع عشر. وتبلورت خلال هذه الحقبة الأفكار المرتبطة بالديمقراطية في سياق تطور المجتمع الرأسمالي الصناعي الحديث. وعندما بدأت الديمقراطية الليبرالية بالظهور في هذه البلدان، فتحت مجالات لحوارات جديدة حول المحتوى الحقيقي للحرية (Liberty)، خصوصا وأن القيم الليبرالية تنزع إلى التنافس. على سبيل المثال، قد تنافس قيم المساواة والتضامن قيم الحرية الفردية والاستقلالية، وبحسب مقولة أشعيا برلين (Isaiah Berlin) الشهيرة: "الحرية المطلقة للذئاب لا تعني سوى موت الحملان، فالحرية المطلقة للأقوياء والموهوبين لا تتوفق مع حقوق الضعفاء والأقل موهبة في العيش الكريم... وقد تتطلب المساواة تقييد حرية أولئك الراغبين في الهيمنة". بعبارة أخرى: ما الذي يعنيه التوازن الديمقراطي الليبرالي الملائم بين القيم المتنافسة؟ وهل توازن من هذا القبيل ممكن أصلا؟
تجلت في الآونة الأخيرة سيرورة التحول الديمقراطي في أماكن مختلفة من بقاع العالم، حتى في الوقت الذي تقرب فيه العولمة وغيرها من القوى، البدان بعضها من بعض. وقد حركت هذه التطورات سجالا جديدا حول الأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي يمكن أن تتطور الديمقراطية في ظلها، وحول آثار العولمة على الديمقراطية.
نص مقتبس من كتاب: الديمقراطية والتحول الديمقراطي، لغيورغ سورنسن، أستاذ في السياسات الدولية وعلم الاقتصاد في جامعة آرهوس في الدنمارك، ترجمة: عفاف البطاينة، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيرون، 2015، ص: 17-20.
إرسال تعليق