بقلم: فاطمة المرنيسي
يعاني المسلمون من "سأم الزمان" مثلما عانى الشباب الرومانسي "الأوربي" من "سأم القرن" "القرن التاسع عشر". والفرق الوحيد بين هؤلاء وأولئك أن الشباب الرومانسي الأوربي كان يعاني صعوبة في العيش شبيهة بالتقزز من الحياة، بينما نعاني، نحن المسلمين، مما يشبه رغبة في الموت؛ رغبة في أن نكون غائبين، وفي مكان آخر. والفرار نحو الماضي هو شكل من أشكال الغياب: الغياب الانتحاري.
يكمن أحد أسباب نجاح مفكرين مغاربة، أمثال محمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي في إيقافهم للنحيب الجنائزي الذي غاص فيه المشهد الفكري للعالم العربي منذ هزيمة 1967، وفي مساعدتنا على الكلام عن الزمن- الجرح، ليس للبكاء على أنفسنا، ونحن نحدق في الآخر، وعلى التفوق العسكري للغرب العدو، واتخاذ ذلك ذريعة للتلاشي في الماضي، بل للتفكير في أنفسنا، من حيث نحن طاقة تبحث عن إطار لكي تبذل: كتب عبد الكبير الخطيبي "إن الذاكرة في صيرورة. تراكم ضروب التقدم التي تهبها إياها الحضارة العالمية موضوعات للتفكير. تتعلم، وهي تستكشف أفكارا وممارسات جديدة، كيف تدبر المكان والزمان تدبيرا أفضل. فالموقف الأحسن والأكثر تواضعا ونجاعة إنما هو موقف التعلم". لكن تقديم النصح بالتواضع لعالم عربي مهادن، يعول فيه السياسة على أحلام العظمة، وقوة أساطير أمجاد الماضي، يعني إحداث إزعاج شديد. من ثم نفهم التنافر التام بين خطة الوعظ لدى السلطة، وبين التحليلات البراغماتية لدى من يختارون من بين المفكرين أن يتكلموا، بدلا من أن يكونوا أبواقا مكبرة لهذيان الرؤساء. لا يغري الجابري كثيرا وهو يبين ببرودة أن أولئك الذين يقرأون العظمة في النصوص القديمة يكونون، بكل بساطة، في حالة هلوسة.
يعود القارئ العربي في رأيه إلى الماضي لينهل منه القوة التي يحرمه منها الحاضر: إنه، كما يشرح الجابري ذلك في كتابه نحن والتراث، "يقرأ فيه مآله ورغباته". إنه يريد "أن يجد فيه العلن والعقلانية والتقدم (...) أي كل ما يفتقده في حاضره، سواء على صعيد الحلم أو صعيد الواقع (...) إنه يعود إلى الماضي ليجد فيه كل ما ينقصه في الحاضر". يبين الجابري بأناقة لاذعة، في مقالاته الأخيرة، حول سيرورة تكوين العقل العربي، أن التراث الأهم الذي تركه لنا أجدادنا، هو منظومة من الرقابة الحاضرة حضورا طاغيا والناجعة جدا، يتعاون فيها السياسي والديني تعاونا وثيقا، إلى درجة أننا صرنا نخلط العقل مع هذه الرقابة نفسها؟ ينيرنا الجابري حول أحد الأسرار الغامضة في المشهد الإسلامي المعاصر: الحضور الهائل لرجال الدين والأئمة في ميدان إنتاج الفكر. ولنا، بالفعل، أن نتساءل لماذا؟ أليس العلماء هم الذين يهيمنون، ويتخذون مراجع من قبل "الساسة"، ما دامت مشكلتنا التي لا تحتمل الانتظار هي التحكم في هذه التكنولوجيا التي تفرض نفسها علينا حتى الآن، وكأنها حاجة محتومة للاستهلام في سلبية تامة. يقدم الجابري، من بداية كتابه إلى نهايته، مراجع تاريخية واسعة، تثبت أن السياسيين في الإسلام سرعان ما أدركوا أنهم لا يستطيعون تدبير الحاضر تدبيرا تسلطيا إلا بفرض الجَدِّ، والماضي، مرجعا مقدسا: فقد كان عصر التدوين، في رأيه، منطلقا لإكساب الرقابة صيغة مؤسسية. أطلق التدوين هذه العملية سنة 134 هجرية "القرن السامن الميلادي"، لما بدأ العلماء المسلمون في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير "بإشراف الدولة ابتداء من عهد المنصور العباسي". كان ذلك في عهد الخليفة المنصور الذي دام من سنة 136 إلى سنة 158 هجرية. بقراءة كتاب الجابري ينبثق الحاضر الإسلامي في ضوء غير مألوف. صار افتتان السياسيين الحديثين بالأجداد، ضمن تقليد عربي ارتبط فيه تقديس الأجداد بإضفاء الصبغة المؤسسية على التسلطية، مثيرا لريبة قصوى، في لحظة نحن فيها أحوج من أي وقت مضى للتحكم الوثيق في استثمار طاقاتنا الراهنة. لماذا هذه الرغبة في توجيهنا نحو الزمن الميت، في اللحظة التي صارت فيها المعركة المهمة الوحيدة هي معركة المستقبل؟ إن المجتمعات التي تهددنا في هويتنا يتركز اهتمامهما بأكمله في المستقبل، وتجعل منه علما، بل سلاحا للهيمة والتحكم.
النص مقتبس من: الحريم السياسي: النبي والنساء، فاطمة المرنيسي، ترجمة الحسين سحبان، نشر دار الفنك، الطبعة الأولى/ مايو 2022، ص:45، 46، 47، 48.
إرسال تعليق