U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

وائل حلاق يكتب: الاستعمار فكك نظام الشريعة

 



بقلم: وائل حلاق


حتى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة اثني عشر قرنا قبل ذلك، كان قانون الإسلامي الأخلاقي، المعروف باسم الشريعة، ناجحا في التفاعل مع القانون المتعارف عليه والأعراف المحلية السائدة وغدا القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون كل من الدولة والمجتمع. وكان هذا "القانون" نموذجيا (Paradigmatic)، بمعنى أن المجتمعات والسلالات التي حكمها قد قبلته كنظام مركزي للقواعد العامة والعليا. وإذا استعرنا تعبيير جون رولز (John Rawls) النافذ، فإن الشريعة كانت قانونا أخلاقيا أنشأ "مجتمعا جيد التنظيم" وساعد على استمراره. ولكن مع بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد الاستعمار الأوروبي، تفكك النظام الاقتصادي -الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، أي إن الشريعة نفسها أفرغت من مضمونها واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الحديثة بالمادة الخام (1). 


وحتى في هذا النطاق الضيق، فقدت الشريعة استقلالها ودروها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة، وأضحت الحاجة إليها مقتصرة على إضفاء الشرعية على مشاريع الدولة التشريعية من خلال اشتقاق مبادئ معينة من الشريعة، وهي مبادئ أعيد تشكيلها وأعيد خلقها لمواءمة ظروف العصر الحديث.


تظل الشريعة مصدراً للسلطة الدينية والأخلاقية عند الغالبية العظمى من المسلمين اليوم. فينما اتبعت أنظمة "إسلامية" سياسة انتقاء بعض العقوبات من الشريعة، كبتر الأعضاء والرجم، متجاهلة قواعدها الإجرائية وسياقها المجتمعي بطريقة صارخة، فإن المسلم العادي لا يزال يرى فيها ينبوعا روحيا وصلة مع الله وسبيلا إلى ترويض النفس، وهو ما سنناقشة لاحقا تحت عنوان تقنيات النفس (technologies of the self). وسيوافق أي شخص، على معرفة ولو بسيطة بشؤون العالم، فورا على القول إن الغالبية العظمة من مسلمي العصر الحديث تتمنى عودة الشريعة بشكل أو بآخر. وسوف تتناول الفصول التالية بصورة موسعة الإجابة عن سبب هذه الرغبة عند المسلمين، مع أن ذلك ليس هدفا مقصودا لهذا الكتاب. 


ونظرا إلى وجود رغبة المسلمين هذه في سياق حديث، فإنها تنطوي على معضلة. فقد قبل المسلمون اليوم بمن فيهم كبار مفكريهم، بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه وكحقيقة طبيعية. وافترضوا في أغلب الأحيان أن هذه الدولة لم تكن قائمة على مر تاريخهم الطويل فحسب، بل ساندتها أيضا سلطة القرآن نفسه. ذلك أن هؤلاء يرون أن القومية، وهي ظاهرة غير مسبوقة وفريدة كعنصر تكويني من مكونات الدولة الحديثة، "قددشنت وأطلقت في (2) العالم عبر الدستور الإسلامي المقدس"، الذي وضع في المدينة المنورة منذ أربعة عشر قرنا. كما اعتبرت مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحق الاقتراع من إنجازات المجتمعات الإسلامية الباكرة. وبخلاف بعض منظري العولمة وعلماء السياسة الذين يشككون في مقدرة الدولة على الاستمرار في مستقبل، فإن المفكرين والعلماء الإسلاميين في العصر الحديث يقبلون الدولة كأمر مفروغ منه ويعتبرونها، في الحقيقة، ظاهرة تصلح لكل زمان، ويمثل ذلك (3)، في جانب معه انعكاسا للواقع القائم الذي يواجهون فيه يوميا ما يبدو لهم آلة جبارة لا تمحق (4).

(1)- ص:19.

(2)- ص:20.

(3)- ص:21.

(4)- ص:22.


نص مقتبس من كتاب الدولة المستحيلة، لوائل حلاق، ترجمة: عمرو عثمان، الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014.



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة