U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

عبد الجليل الكور يكتب: أخطاء لغوية ومعرفية ومنهجية في نقد العروي لطه عبد الرحمن




بقلم الكاتب والمترجم: عبد الجليل الكور


 - كتب الأستاذ "عبد اللـه العروي" خاطرة صباحيّة في 10 مارس من عام 1995 (أيْ تقريبا بعد سنة من صدور كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» [1994] لـ"طه عبد الرحمن"). ونصّ هذه الخاطرة هو ٱلذي أغرى بعض من ٱبْتُلوا بـالتّشْنيع على "طه عبد الرحمن" فظنُّوا أنهم وَجدوا فيه، أخيرًا، ضالّتهم ٱلتي قد تُمكِّنهم من الإمعان في تبخيس فكره ولو رمزيًّا. وهذه ملاحظاتٌ نقديّةٌ لبيان ما في كلام "العروي" من أخطاء لُغويّة ومعرفيّة ومنهجيّة:



1- يبتدئ "العروي" خاطرته (خواطر الصباح: حجرة في العنق. يوميات 1982- 1999، ج 3، المركز الثقافي العربي، 2005، ص. 222) قائلًا: «يتحسّر المرء وهو يقرأ كتاب طه عبد الرحمن حول تجديد تقييم التراث إذ يتحقق أن مرّ السنين لا يزيد المثقفين العرب إلّا تقهقراً رغم ما يطالعونه من مؤلفات أجنبية وما يتلقفون من أفكار ينعتونها بالمستوردة. لا يزيدهم الاطلاع إلّا انكفاءً وانغلاقاً.»؛


1.1- أوّل ما يُلاحظه القارئُ النّبيهُ هو أنّ "العروي" يَذكُر كتاب "طه" بعنوان مبتور («تجديد تقييم التراث»)، بل إنه يَعْمِـد إلى تحريفه حتّى يتأتّى له إرسال الكلام حوله، فهو يُغيِّب لفظ "المنهج" المُضاف إلى لفظ "تجديد" («تجديد المنهج») كأنّ الكتاب يتناول موضوع "التّجديد" بشكل عامّ وليس موضوعًا مُحدَّدا هو «تجديد المنهج» في «تقويم التُّراث» (وسيُلاحَظ فيما بعد كيف أن كلام "العروي" ينصبّ على الكتاب كما لو كان فقط «خطابًا حول التُّراث»، ممّا يُشير إلى أنّ تغييب المقصد الأساسيّ للمُؤلِّف ليس فقط خطأً منهجيّا، وإنما هو أيضا حيلةٌ من القارئ "العروي" حتّى يتفادى فحص أدلّة "طه" على دعاويه!)؛ ثُمّ إنه يستعمل لفظ "تقييم" بدلًا من اللّفظ الوارد في عُنوان الكتاب "تقويم"، كأنّه مُرادف له، بل كأنه أفصح منه. والحال أنّ بين اللّفظَيْن من الفُروق ما لا أَظُنّ أنّ كثيرين يستحضرونها: فلفظ "تقويم" مُشتقّ من فعل «قام/يَقُوم»، مما يُفيد أنه مبنيّ على الأصل الواويّ فيه ("قَوَمَ")؛ في حين أنّ لفظ "تقييم" مُشتقٌّ من مُشْتقّ آخر هو لفظ "قيمة" ٱلذي يُنسى أنّ أصلَه "قِوْمَة" (فغلبَ صامتُ «القاف المكسورة» صائتَ «الواو السّاكن» فقَلَبه إلى «ياء ساكنة» مُجانسة لصائت «الكسرة» قبلها)؛ وإذَا كان لفظ "التّقويم" يدلّ على معنى أصليّ هو «التّعْديل/التّصويب»، فإنّه يدلّ أيضا على معنى فرعيّ هو "التّقْدير" أو "التّثْمين" (أيْ «بيان القيمة»)؛ وما يَمنع من ٱعتبار لفظيْ "تقويم" و"تقييم" مُترادفين هو أنّ اللُّغات الأجنبيّة (الإنجليزيّة والفرنسيّة مثلا) تُميِّز بين معنيَيْن بلفظَيْن مُتباينَيْن: إِذْ هناكـ «evaluation/évaluation» (بمعنى «إصدار حُكْم يُبيِّن أو يُحدِّد قيمة الشيء») و«valorization/valorisation» (بمعنى «جعل الشيء ذا قيمة بـﭑلمعنى الحسابيّ والاقتصاديّ»)؛ وأَيّ حرص على ضبط المفاهيم يُوجب وضع لفظ "تقويم" في مُقابل «evaluation/évaluation»، ووَضْع لفظ "تقييم" في مُقابل «valorization/valorisation»؛


2.1- يُلاحَظ أنّ "العروي" لم يضع قبل "إذْ" أَيّ علامة للوقف. لكنّ كون القول بعدها يأتي تعليلًا للقول السّابق يقتضي أن تُوضع قبلها "نُقطة" أو "فاصلة" («يتحسّر المرء وهو يقرأ كتاب طه عبد الرحمن حول تجديد تقييم التراث[./،] إذ يتحقق أن مرّ السنين لا يزيد المثقفين العرب إلّا تقهقراً [...]»)؛


3.1- قول "العروي" «يتحقّق [المرءُ] أن مرّ السّنين لا يزيد المثقفين العرب إلّا تقهقراً رغم ما يُطالعونه من مؤلفات أجنبية وما يَتلقّفونـ[ــه] من أفكار ينعتونها بالمستوردة. لا يزيدهم الاطلاع إلّا انكفاءً وانغلاقاً.» قد يُقبَل على إجماله فيصير شاملًا لمجموع المثقفين العرب بمن فيهم "العروي" نفسه. وهناكـ أكثر من شاهد يُثبت أنّ "العروي" يقع تحت طائلة ذلكــ الحُكم: فهو لا يزال يعتبر نفسه "تاريخانيّا" على الرّغم من أن "التاريخانيّة" قد باتتْ مُتجاوزةً معرفيّا ومنهجيّا حتى في عُقر دارها؛ ثمّ إنه حينما أراد أن يُجدّد أو، بـﭑلأحرى، أن يُعْلِن تَصوُّره للدِّين رجع إلى "رُوسو" (ويا لها من مُفارقة تاريخيّة يَأْتيها شيخ "التاريخانيّة"!) فترجم نصَّه «التّصريح بعقيدة قسّ ساڤـوا» مُقدِّمًا له ومُعلّـقًا عليه من دون أن يُبالي بكونه نصًّا ينتمي إلى فكر «عصر الأنوار» ٱلذي يفصلنا عنه قرنان من الزّمان، بل أبى إِلّا أن يجعل «الدِّين الطّبيعيّ» («natural relgion/la religion naturelle») هو عيْنه «دين الفِطْرة» كأنّ «إرادة تعطيل الدِّين» من قِبَل "الرُّبوبيِّين" وّالدَّهرانيِّين" لا تختلف في شيء عن «إرادة إعمال الدِّين» لدى المُؤمنين بأن اللّـه ربّ العالمين وإلهُهم الخالق والآمر! أَليس كل هذا انكفاءً وانغلاقًا من قِبَله من حيث إنه يُصرّ على مُواصلة التفكير في إطار ما هو مُتجاوَز؟! ولماذا يرجع "العروي" قرنين إلى الوراء في الوقت ٱلذي كان عليه أن يَسْتحضر أهمّ الانقلابات في الفكر المُعاصر ٱلذي راجع فكر "التنويريِّين" مرّات عدّة وٱنتهى إلى بناء فلسفاتٍ في الدِّين والسِّياسة تُسفِّه ما ذهب إليه أمثال "رُوسو" و"كنط"؟!


2- يقول الأستاذ "عبد اللـه العروي" في الفقرة الثالثة من خاطرته: «سقط المؤلف ضحية عدّة عوامل: ضحية التأليف الفرنسي المعاصر وانحصاره في الإبستمولوجيا.. ضحية التخصص في المنطق.. ضحية وضعية الفلسفة في النظام الجامعي المغربي.» (خواطر الصباح: حجرة في العنق. يوميات 1982- 1999، ج 3، المركز الثقافي العربي، 2005، ص. 222)؛


1.2- يُلاحظ، أوّلا، أنّ هذه الفقرة القصيرة تخلّلتها «علامة الوقف» العجيبة، أقصد «النقطتَيْن المُتتابعَتَيْن» [..] اللَّتَيْن وُضعتا مرّتَيْن واللَّتَيْن تتخلّلان نُصوص "العروي" العربيّة وتغيب عن نصوصه الفرنسيّة. ولا يَتعلّق الأمرُ بسهو عارض كان من المُمْكن تجاوزُه بعد إعادة نشر النّص (لا تزال هاتان النُّقطتان حاضرتَيْن في نصوص "العروي" ٱلتي أُعيد نشرُها من قِبَل "المركز الثقافي للكتاب"، 2018). وهاتان «النُّقطتان المُتتابعتان»، اللَّتان يَشيعُ وَضعُهما في الكتابة العربيّة (خصوصا في الشعر)، لا وُجود لهما في نظام «علامات الوقف» المُسْتعمَلة في أهمّ الألسن الأجنبيّة (الإنجليزيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة، الإسبانيّة، إلخ.)، بل لا يُعلَّل شيوعُ ٱستعمالهما إلّا على أساس الجهل بكيفيّة وَضْع «علامات الوقف» أو بـﭑلاستخفاف بهذا الوضع؛


2.2- يفهم القارئ أنّ "العروي" يُحدِّد ثلاثة عوامل (التأليف الفرنسيّ المُعاصر المُنْحصر في الإبستمولوجيا، التّخصص في المنطق، وضع الفلسفة في النّظام الجامعيّ المغربيّ) كان "طه عبد الرحمن" ضحيةً لها في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث»؛


3.2- عبارة «سقط المؤلف ضحية عدّة عوامل» تُشير إلى أنّ "طه"، بحسب ظنّ "العروي"، إما خَضَع لتأثير تلكـ العوامل من دون وعي منه وإما أنه كان مُضْطرّا للوُقوع تحت تأثيرها وإما أنه ٱختار الاستجابة لها لقُصورٍ في قُدراته أو نقص في جُهوده. وقد يَصحّ الجمع بين هذه الاحتمالات الثلاثة في تأكيد أنّ "طه" كان موضوعًا لفعل عوامل خارجيّة مُحدَّدة بما يُفيد أنه ليس ذاتًا واعيةً وإرادةً فاعلةً كما يَزْعُم. ويَفهم القارئ، ضمنيّا، أن "العروي" لا يَنسُب "طه" إلى وضع "الضحية" إلّا ليُشير إلى أنه – بخلافه تماما– مُتحرِّرٌ من هذا الوضع، فكأنّه الوحيد ٱلذي لا تَعمل فيه أسبابُ الواقع الاجتماعيّ والتاريخيّ لأنّ حرصه الفرديّ – كـ«تاريخانيّ عتيد»– على الوعي بها يَجعلُه يَنْفكّـ عن تأثيرها!


4.2- لـكن، لو سَلَّمنا للأستاذ "العرويّ" بأنّ هناكـ عوامل مُعيَّنة تحكّمت في فكر "طه"، فهل نُسلِّم له بكوْن تلكـ الثلاثة المذكورة من قِبَله هي ٱلتي أثّرت فيه؟ وما حقيقة كل عامل منها؟


5.2- يتحدّث "العروي" عن العامل الأوّل مُحدِّدًا إيّاه في «ضحية التأليف الفرنسيّ المُعاصر وٱنحصاره في الإبستمولوجيا.». ومُقتضى عبارته هذه يُمْكن تقديره بثلاثة أُمُور: أَوّلها، أن ٱطّلاع "طه" – بالخصوص في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث»– مُرتبط أساسا بالتّأليف الفرنسيّ المُعاصر؛ وثانيها، أنّ هذا التّأليف مُنْحصرٌ في "الإبستمولوجيا"؛ وثالثها، أن ٱطّلاع "طه" مُنْحصرٌ في القسم المتعلق بالإبستمولوجيا من التأليف الفرنسيّ المعاصر. وتَعْداد هذه الأمور في فهم عبارة "العروي" يدلُّ على أنها عبارةٌ مُلْتبسةٌ بشكل يَجعلُها قابلةً لتلكـ التقديرات الثلاثة. ولا بُدّ للقارئ من أن يَقُوم بمزيدِ بحثٍ وتأمُّلٍ حتى ينتهي إلى تَبيُّن قصد "العروي" منها. وهكذا، فالتّقدير الأوّل باطلٌ بدليلَيْن: أوّلُهما، أن مُتصفِّح كتاب "طه" (بل كل كُتُبه) يُدْرِكـ أن مَراجعه تتعدّى التأليف الفرنسيّ المُعاصر (من بين قرابة 130 مرجع مذكور في «تجديد المنهج في تقويم التُّراث»، ليس هناكـ من المَراجع الأجنبيّة إلّا ثمانية، ثلاثة منها مُترجمة إلى العربيّة، وواحد بالإنجليزيّة، وواحد لأرسطو مترجم إلى الفرنسيّة، وواحد لمُؤلِّف فرنسيّ [هو "رُوبير بلانشي"]، وٱثنَيْن لمُؤلِّفِيْن بلجيكيَِّيْن يَكتُبان بالفرنسية!)؛ وثانيهما، أنّ المعروف عن "طه" أنه – منذ رسالته لدكتوراه السلكـ الثالث («اللغة والفلسفة»، بالفرنسية، [1972، 1979])- يقرأ بلُغات عديدة منها "الفرنسيّة" و"الإنجليزيّة" و"الألمانيّة" (يستطيع القارئ أن يرجع، على الأقلّ، إلى تلكـ الرسالة المذكورة ليتأكّد من الأمر مَتْنًا وهامشًا ومَراجع). وأمّا التّقدير الثاني (التأليف الفرنسيّ المُعاصر مُنْحصرٌ في "الإبستمولوجيا")، فلا يَليق بنا أن نَنسُبه إلى "العروي" لأنه يقتضي إثبات جهله الفاضح بتعدُّد توجُّهات ومَشارب التأليف الفرنسيّ المُعاصر الذي يتعدّى "الإبستمولوجيا" إلى مُختلف مجالات الفكر والفلسفة (فلسفة اللغة، الفلسفة السياسية، الفلسفة الأخلاقية، فلسفة الدين، فلسفة الذِّهن، إلخ.). وبالتالي، فلا يبقى إلّا التّقدير الثالث الذي يُفيد أنّ ٱطّلاع "طه" ٱنحصر في قسم "الابستمولوجيا" من التأليف الفرنسيّ المُعاصر. وبما أنّ هذا هو قصد "العروي" في عبارته، فلقد كان عليه أن يَقُول: «ضحية ٱنحصار ٱطّلاعه في التأليف الفرنسيّ المُعاصر المُتعلِّق بالإبستمولوجيا.». فهل حقًّـا كان "طه" ضحيةَ هذا العامل كما يَظُنّ "العروي"؟


6.2- يبدو أنّ كون "العروي" غيَّب الموضوع الأساسيّ في كتاب "طه"، قد جعله ضحيةَ سُوء فهمٍ لا يَجدُر بمُفكِّر مثله. فما دام موضوع كتاب "طه" هو «تجديد المنهج»، فكيف يُؤاخَذ بحصر ٱطّلاعه في "الإبستمولوجيا"؟ أليس موضوع "المناهج" قسمًا من أقسام «نظريّة المعرفة» و«فلسفة العلوم»؟ وهل هناكـ ما يُثْبت ٱنحصار ٱطّلاع "طه" في الإبستمولوجيا الفرنسية؟ ألمْ يَكُن "طه" هو ٱلَّذي يُؤاخِـذ المُشتغلين المغاربة بمثل ذلكــ الانحصار؟ وكيف يُعَدّ مُنْحصرًا في "الابستمولوجيا" الفرنسيّة وهو ٱلذي أَبان - منذ رسالته للدكتوراه في السلكـ الثالث (1972) ورسالته لدكتوراه الدّوْلة (1985) عن واسع ٱطّلاعه في مَجالات "المنطق" و"فلسفة اللُّغة" و"اللسانيّات" لدى الفرنسيِّين والأنجلوساكسون والجرمان؟! أليست إرادةُ حصر ٱطّلاع "طه عبد الرحمن" فقط في التأليف الفرنسيّ المُعاصر المُتعلِّق بالإبستمولوجيا تعبيرًا عن حيلةٍ لتَسْهيل تنقُّصه وتبخيسه؟!


7.2- وأما العامل الثاني، ٱلذي كان "طه" ضحيةً له – بحسب ظنّ "العروي"–، فهو «التّخصص في المنطق». ومن البَيِّن أنّ صاحب "التاريخانيّة" لا يُمْكنه إِلّا أن يعتبر «التّخصص في المنطق» مَنْقصةً وعيبًا يجعلان المرء ضحيةً، لأنّ موضوع "المنطق" يتمثل في «صورة الفكر» كعَلاقات تركيبيّة مُجرَّدة، وليس "الأحداث" كما هي في «الواقع العينيّ الحيّ». وموقف "العروي"، هنا، لا يختلف عن كثير من المتفلسفة العرب ٱلَّذِين تجدهم يُعادون "المنطق". ويَدُلّ هذا الموقف على مدى جهل أصحابه بأهميّة "المنطق" بالنِّسبة إلى كلّ مجالات الفكر قديما وحديثا: أوّلًا، لأنّ "المنطق" لم يخترق فقط كل مجالات المعرفة الإسلامية العربيّة، بل يُعدّ أساسيّا في التكوين لدى المُعاصرين إلى الحد ٱلَّذي من النادر أن تجد بينهم مُفكّرًا أو باحثا لا يملكـ تكوينًا منطقيّا مَتينًا، وذلكـ بخلاف ما عليه الحال لدينا؛ وثانيا، لأنّ أهمّ ما أُنجز في الفكر المعاصر يجد أصلَه في "المنطق" بـﭑعتبار أنّ كل من «الفلسفة التحليليّة» و«الظاهريّات» و«فلسفة اللُّغة العاديّة» ترجع أُصولها إلى بُحوث بعض كبار المناطقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (فريغه، راسل، فتغنشتاين)؛ وثالثًا، لأنّ "المنطق" أنسبُ للفكر من "التاريخ"، ليس فقط من جهة أنّ زمن "الفكر" غير زمن «الأحداث التاريخيّة»، بل أيضا من جهة كون "الأحداث" و"الوقائع" كما يعرفها المُؤرّخ ذات طبيعة "منطقيّة" بحُكم كوْنها تُنْقَـل من مستوى «العينيّ المُعْطَى» إلى مُستوى «المُجرَّد المَبْنيّ» (والوقوف عند هذه الناحية الثالثة سيَقُود إلى تَبيُّن أن "العروي" – في نظره إلى موضوع اختصاصه نفسه- إنما هو ضحيةٌ لإبستمولوجيا مُتقادمة جدا ترجع، بالأساس، إلى نوع من «الوَضْعانيّة التّجربانيّة» ٱلتي ٱطُّرِحتْ في الفكر الغربيّ منذ عُقود والتي لا تزال تَعيثُ فسادًا بين مُفكرِّي العرب والمُسلمين)؛ ورابعًا، لأنّ تنقُّص «التّخصُّص في المنطق» يُؤدِّي حتمًا إلى الاستخفاف ببعض كبار الفلاسفة المُعاصرين ٱلَّذِين لم يُفكرّوا إلّا بـﭑلتوَسُّل بالأدوات المنطقيّة من أمثال "راسل" و"كُوايْن" و"كارناپ" و"هيلاري پُـوتنام"؛


8.2- ولو سَلَّمنا لـ"العروي" قولَه بأنّ "طه" كان ضحيةَ تخصُّصه في المنطق، فهل نَسْكُت عمّا كان "العروي" ضحيةً له في مَساره الفكريّ كله؟ وقد لا نحتاج إلى كثيرِ تَخْمين لبيان ذلكــ، فهو نفسه يعترف بغَلَبة «التّوجُّه السياسيّ» على تفكيره بفعل تأثُّره بتكوينه في "العلوم السياسيّة"، إِذْ يَقُول: «أميل بطبعي إلى التفلسف، لكن الفترة التي نشأت فيها، والبيئة العائلية كذلك، كانت لا تبدي تفهما لذلك الميل. كانت تدعو الجميع، والشباب بخاصة، إلى الارتباط بالواقع والالتزام بقضايا المجتمع والوطن. لا شك أني لو نشأت عشر سنوات قبل أو بعد التاريخ الذي أشير إليه؛ أي خلال الأربعينيات أو الستينيات من القرن الماضي، لكان مساري الفكري مختلفا تمام الاختلاف. وهناكـ حدث ثان، ناتج عن الأول، أثر تأثيرا قوياً ومتواصلاً في منحى فكري. درست على المستوى الجامعي، كمادة أساسية، العلوم السياسية. وكان الكتاب المعتمد في برنامج السنة الأولى، هو "تاريخ الأفكار السياسية"، لأستاذ شهير آنذاك يدعى جان جاك شيفالييه Jean Jacques Chevalier كان الكتاب يلخص أفكار الفلاسفة الكبار، من "أفلاطون" و"أرسطو" إلى "ماركس" و"لنين"، مرورا بـ"هوبس" و"روسو"، في المسائل الاجتماعية والسياسية دون اعتبار لأسسها المعرفية أو الميتافيزيقية، بل يمر مرور الكرام حتى على التحليلات النفسانية والأخلاقية. وهكذا تعرفت، مثلاً، على "جمهورية" أفلاطون منفصلة عن "التيماوس"، وعلى سياسة "أرسطو" منفصلة عن "ما وراء الطبيعة" وعن "المنطق"، وعلى "فلسفة الحق لهيجل" منفصلة عن "الفينومنولوجيا"، بل على "البيان الشيوعي" مفصولا عن "مخطوطات 1844". قرأت فيما بعد المؤلفات النظرية، لكن ما تعودت عليه في البداية ظل يلازمني باستمرار. عندما أتناول مؤلف فيلسوف، أياً كان، فإني أميل إلى إعطاء الأولوية للجانب السياسي والاجتماعي، بل، وهذا هو الأهم، أصبحت أختزل عفويا الفلسفة في الماورائيات. كلما تكلمت عن الفلسفة فإنني أعني الميتافيزيقا.» (نقد المفاهيم، المركز الثقافي للكتاب، [بتصرُّف قليل من قِبَلي في كتابة الكلمات المُبْـرَزة في النص بخط غليظ بين علامتي التنصيص "..."]، ص. 7-8). وبناء على هذا النص/الاعتراف (وبتجاهُل كل عِلّاته)، أَلَـا يحقّ لنا أن نتساءل عن المُحدِّدات الاجتماعية والإديولوجيّة والسياسية الكامنة خلف كل فكر "العروي"؟ وهل يُمكننا، بعد، أن نفهم شيئا من فكره من دون استحضار تلكـ المُحدِّدات الخفية؟! أَلا نجد فيه ما يُبرِّر توجه بعض من جاؤوا بعده في الأربعينيات (مثل "طه") أو الستينيّات (من كثيرين أمثالي)؟ ولماذا لم يتحرّر "العروي" – وهو شيخ التاريخانية بلا مُنازع- من تلكـ المُحدِّدات غير العلميّة ٱلتي لم يجد حرجًا في فضحها؟


3- يقول الأستاذ "العروي" في الفقرة الرابعة من خاطرته: «هذا التطور قد أثر في بعض الدارسين العرب مثل مـحمد أركون، سيما وأنه وافق اتجاهاً سابقاً داخل الاستشراق، أعني التخلي عن التأويلات الليبرالية التي عرفها القرن 19 والتي كانت تهتم بالتيارات الهامشية أو المندثرة (المعتزلة، غلاة الشيعة، أنصار الحكمة، الزنادقة، إلخ)، وعوّض ذلك التعمقُ في دراسة أصول الفقه. بدأ التحول بإظهار تهافت الحركة الإصلاحية الحديثة (مـحمد عبده وغيره) أي بنوع من التصالح بين جيل جديد من المستشرقين (جيب، لاوست..) والفقهاء المسلمين وبإعادة الاعتبار إلى فكر الأغلبية، أي أهل الجماعة.» (خواطر الصباح: حجرة في العنق. يوميات 1982- 1999، ج 3، المركز الثقافي العربي، 2005، ص. 222؛ أو خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 630)؛


1.3- في هذه الفقرة الرّابعة من خاطرة "العروي"، نجده يُؤكِّـد أنّ التّطوُّر الذي عرفته الأوساط الفرنسيّة (في الفقرة السابقة يقول "التّحوُّل") أدّى إلى عدّة نتائج يَصفُها في الجُملتَيْن المُكوِّنتَيْن لها؛


2.3- يقول "العروي" في الجملة الأُولى: «هذا التطوُّر قد أثّر في بعض الدّارسين العرب مثل مـحمد أركون، سيّما وأنه وافق اتجاهاً سابقاً داخل الاستشراق، أعني التخلّي عن التأويلات الليبرالية التي عرفها القرن 19 والتي كانت تهتمّ بالتيارات الهامشيّة أو المُنْدثرة (المعتزلة، غُلاة الشيعة، أنصار الحكمة، الزّنادقة، إلخ)، وعوّض ذلكـ التّعمُّقُ في دراسة أصول الفقه.». نُلاحِظ أنّ هذه الجملة تتضمنُ خطأً لُغويًّا يَتمثّل في قوله «سيّما وأنه [...]» وصوابُه «ولَـا سيّما أنه [...]» («ولَـا سِيّما» تعني «بخاصّةٍ/خُصوصًا» وتتكوّن من "لا" النّافية للجنس، ومن «سِيٌّ» بمعنى «مِثْل/نَظير» و"ما" الموصولة). وبإلإضافة إلى هذا، نرى أن "العروي" يجعل دارِسين عرب آخرين (على رأسهم "مـحمد أركون") قد تأثّروا بذلكـ التّطور. ولكنّ هذه الجملة فيها غُمُوض تركيبيّ: لَـا ندري ما (من) الذي وافق «ٱتّجاهاً سابقاً داخل الاستشراق»؟ هل ذلكـ التّطوُّر الفكريّ هو الذي وافق هذا الاتّجاه الاستشراقي أَمْ "محـمد أركون"؟! وكُلّ ما يُفهم من قول "العروي" أنّ هناكـ «ٱتّجاهًا ٱستشراقيًّا سابقًـا تَخلّى عن التأويلات الليبراليّة التي عرفها القرن 19 والتي كانت تهتمّ بـﭑلتّيّارات الهامشيّة أو المُندثرة (المُعتزلة، غُلاة الشيعة، أنصار الحكمة، الزّنادقة، إلخ) وٱستبدل بها ٱهتمامًا آخر هو التّعمقُ في دراسة أُصول الفقه». ويبدو لي أنّ هناكـ خطأً معرفيًّا في هذه الجُملة، إذْ موضوع ٱهتمام المُسْتشرقين لم يَكُن التّعمُّق في «دراسة أُصول الفقه»، بل «عُموم الفقه» (كما عند "تسيهر" و"جيب" و"شاخت" و"لاوست")، وما يُؤكِّد هذا هو حديث "العروي" في الجُملة التالية عن «الفُقهاء المُسْلِمين» (وليس عن «عُلماء أصول الفقه»). لكنّ ما يَلْفِـت النّظر أكثر في هذه الجملة هو أنّ "العروي" يُعبِّر عن نوع من المُؤاخَذة على الدّارسين العرب والمُستشرقين جميعا من حيث إنّهم تَخلَّوا عن التأويل الليبراليّ لـ«تُراث الإسلام» فلم يعودوا يَهتمُّون بجوانب الشُّذوذ فيه وذهبوا نحو الاهتمام بمجال «الفقه السُّنيّ» الذي يُمثِّل – في ظنِّه– ٱتّجاهًـا رَجْعيًّا مُعاكسًا تماما. وإذَا كان "العروي" يَظُنّ (من خلال هذه المُؤاخَذة) أنه يُثْبِت كوْنَه ممّن يُحافظ على تَيقُّظه ويُواصل توجُّهه "التّنويريّ" و"التّحريريّ" – بخلاف أُولئكـ المُتراجِعين–، فالواقع أنه يُؤكِّد مدى غفلته عن كون البذرة الاستشراقيّة لم تَكُن سوى جُرْثومة بُثّتْ وتُرِكتْ لتَفْعَل فعلَها في أَذهان ونُفوس الدّارسين الذين ٱسْتلَمُوا ما ظَنُّوه مِشْعلًا فصارُوا حامِلين له بوعي أو من دونه!


3.3- يقول "العروي" في الجملة الثانية: «بدأ التحول بإظهار تهافت الحركة الإصلاحية الحديثة (مـحمد عبده وغيره) أي بنوع من التصالح بين جيل جديد من المستشرقين (جيب، لاوست..) والفقهاء المسلمين وبإعادة الاعتبار إلى فكر الأغلبية، أي أهل الجماعة.». وهذه الجملة توضيحٌ للّتي قبلها، حيث يُبيِّن "العروي" أنّ التّحوُّل المذكور تَمثّل في «إظهار تهافت الحركة الإصلاحية الحديثة (مـحمد عبده وغيره)» وأنّ هذا الأمر لَـا يَدلّ فقط على «تصالُح بين جيل جديد من المستشرقين (جيب، لاوست، إلخ.) والفقهاء المُسلمين»، بل إنه بمثابة «إعادة ٱعتبار إلى فكر الأغلبيّة»، أيْ «فكر أهل السُّنة والجماعة». وهنا، يجد "العروي" ضالّته التي ستُمكِّنه، في الفقرات اللَّاحقة، من الهُجوم على فكر "طه عبد الرحمن" الذي ليس – في نظر "العروي"– سوى تكريس لـ«فكر الأغلبيّة» ذاكـ؛


4.3- لَـا يخفى على قارئ هذه الفقرة أنّ "العروي" يُريد أن يُوجِّه النّظر إلى عكس ما ركّز عليه "طه" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث»، فما يَهُم "العروي" ليس الجانب المنهجيّ في «تُراث الإسلام»، وإنما ذاكـ المضمون الإديولوجيّ من حيث قابليّته للتّأويل في ٱتِّجاه ما يُعدّ «مُوافقًـا للحداثة» حتّى لو كان هذا التّأويل يعمل على «قَلْب نظام الأشياء» بالتّركيز على "الهامشيّ" و"الشّاذّ" و"الميّت" في «تُراث الإسلام»! ولعلّ أشدّ ما يُشير إليه "العروي"، في هذه الفقرة، هو مُناهَضته الصّريحة لـ«فكر الأغلبيّة» المُعبِّر عن «أهل السُّنّة والجماعة»، وذلكـ إلى الحدّ الذي لَـا يتردّد عن مُهاجمة "المُستشرقين" وتلامذتهم كأنّهم ليسوا هم من كان رُوّاد هذه التّوجُّه، بل كأنّ "العروي" يأبى إِلّا أن يَكُون "رافضيًّا" أكثر من مُمثلِّي "الرّافضيّة" أنفسهم، وهو ما يُؤكِّد عميقَ تأثُّره بالنُّزُوع الاستشراقيّ الذي أَثْمرَ أحسن ثماره على أيدي أَمْثاله من الكُتّاب والدّارسين!


5- يقول الأستاذ "عبد اللـه العروي" في الفقرة الخامسة من خاطرته: «وكما يحصل غالبا غزتنا الموضة الاستشراقية وصرنا ندرس ونعظم كل من يدرسه الباحثون الأجانب، الغزالي وابن تيمية وابن حزم إلخ.» (خواطر الصباح: حجرة في العنق. يوميات 1982- 1999، ج 3، المركز الثقافي العربي، 2005، ص. 222؛ أو خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 630)؛


1.5- هذه الفقرة المُكوّنة من جُملة واحدة تأتي كنتيجة للفقرة السّابقة التي تحدّث فيها عن "الاستشراق" وعلاقته بدراسة «تُراث الإسلام» ومدى تأثيره في كثير من الدارسين العرب ذكر منهم "مـحمد أركون"؛


2.5- قول "العروي" «وكما يَحصُل غالبا غزتنا المُوضة الاستشراقيّة وصِرْنا ندرس ونُعظّم كل من يدرسه الباحثون الأجانب، الغزالي وابن تيميّة وابن حزم إلخ.»، يُمْـكِن أن تُسَجَّل عليه أربع مُلاحَظات: أُولاها، إغفالُه وَضْع "فاصلة" بعد لفظ "غالبًا" («وكما يحصل غالبا[،] غزتنا المُوضةُ الاستشراقيّةُ [...]»)؛ وثانيتها، ٱستعماله ضمير الجمع "نحن" في ثلاثة أفعال ("غزتنا" و"صرنا" و"ندرس") يُؤكِّد أنه - هو نفسه- لَـا يَسْلَم من تأثير الفكر الاستشراقيّ؛ وثالثتها، إغفاله ذكر ٱسم "ابن رشد" على الرغم من أنّ مثاله هو الأشهر والأبرز في الدّلالة على تأثير الفكر الاستشراقيّ بالكيفيّة التي وَصفها، وهذا الإغفال دالٌّ جدّا هنا لأنه يُشير لَـا فقط إلى التّظاهر بـﭑلحياد والموضوعيّة مع العمل بالتّحيز والانتقائيّة، بل يُشير أيضا إلى مدى إشكاليّة حالة "ابن رُشد" من وجهَيْن على الأقلّ: أَوّلُهما، أنه المثال الذي يُوضِّح عدم القُدرة على الانفكاكـ عن «الإرث الاستشراقيّ»؛ وثانيهما، أنه يُعامَل بشكل ٱستثنائيّ في طَلَب سَلَفٍ يُظَنّ حامِلًا للواء "العقلانيّة" العلميّة والفلسفيّة (وحتّى السياسيّة)، في حين أنّ هذا التّعامُل ليس سوى تكريسٍ لجُرْثومة "التّحريف" و"التّضليل" التي زَرَعها "المُستشرقون" في دراسة «تُراث الإسلام». وأما المُلاحظة الرّابعة، فليستْ مُوافَقة ٱهتمام "المُسْتشرِقين" هي التي تُحدِّد – بـﭑلضّرُورة- أهميّة أعلام "التُّراث" (وإلّا، فإنّ الاتِّكاء على هذه الذّريعة من شأنه أن يَمْنع من الاهتمام بكُلّ أعلام "التُّراث" الإسلاميّ العربيّ لثُبوت السَّبْق الاستشراقيّ في تَناوُلها المُعاصر!)؛


3.5- لَـا بُدّ من الانتباه إلى أنّ قول "العروي" ذاكـ ليس سوى «فُقاعة فكريّة» تُلْقى للاستهلاكـ والتَّلْهِـيَة، إِذْ أنّ "المُسْتشرقين" لم يكادوا يتركُون عَـلَمًا من أعلام التُّراث الإسلاميّ العربيّ لم يَنْبِشوا تحته، فهم من حَقّق وطَبَع وجَمَع كثيرًا من دواوين الشعر الجاهليّ وكُتب أعلام "الأدب" و"الفقه" و"السِّيرة النبويّة" و"التّفسير" و"الكلام" و"الفلسفة" و"التّصوُّف". ويكفي أن يُسْتحضَر أن مُعظم الموسوعات الكُبرى («موسوعة الإسلام»، «تاريخ الإسلام»، «موسوعة اللُّغة العربيّة ولسانيّاتها»، «موسوعة القرآن»، «موسوعة علم الكلام»، إلخ.) كانت من إنتاجهم، وأنّ بعض أهمّ الدّراسات حول مواضيع مُحدَّدة وأشخاص مُعيَّنِين ترجع إلى جُهودهم المُتميّزة غالبًا بتَبحُّرها وجودتها (ولا يزال التّفوُّق الاستشراقيّ قائمًا إلى حدٍّ بعيد). وبـﭑلتّالي، فما لم يَقُلْه "العروي" إنما هو أنّ "الاستشراق" مَثَّـل سعي "الغربيِّين" إلى تحقيق ٱمْتلاكـ رمزيّ ومعنويّ لـ«تُراث الشّرق» بعد أن تَمَكَّنوا من الامتلاكـ الفعليّ لمُعظم خَيْراته ومَوارده الماديّة. وفي المدى الذي يُمثِّل "الاستشراق" – في آن واحد– «ٱختلاقًا» و«صَوْغًا جديدًا» مُتخيَّلَيْن ومُوَجَّهَيْن لخدمة «السَّيْطرة الغربيّة» على العالَم، فمن المفروغ منه أن تَتجلّى تأثيراتُه حتّى في ٱهتمامات دارسي "التُّراث" من العرب والمُسْلمين. وثُبوت ذلكـ هو الذي يَفْرِض لَـا فقط مُساءَلة سَرْديّات "الاستشراق" بـﭑعتبارها أَتتْ في إطار ٱشتغال بِنْيات وأشكال «المعرفة الغربيّة» المُسيطرة، بل أيضا العمل على التّحرُّر منها منهجيّا ومعرفيّا. وإذَا ٱتّضحت هذه النُّقطة، فقد يصيرُ مُمْكِـنًا أن يُنْتبَه إلى أن مَسْعى "العروي" (وكثير غيره من المُثقفين العرب والمُسْلِمين) لَـا يُمَـثِّل أكثر من تكريس للتَّبعيّة لـ«نُظُم المعرفة الغربيّة» وإعادة إنتاجها تحت مظاهر خادِعة تَرْفع شعار "التّنْوير" و"التّحرير". ولهذا السّبب بـﭑلضّبْط، لَـا يَمْـلِكـ "العروي" إِلّا أن يَتهجّم على العمل الفكريّ لـ"طه عبد الرحمن"، لأنه عملٌ يَسير في الاتّجاه المُناقِض الرّامي إلى «تجديد النّظر» في الآليّات المنهجيّة المُقوِّمة لـ"التُّراث" من خلال ٱمْتلاكـ فِعْليّ لآليّات البِناء في الفكر المُعاصر على نحو يُمَكِّن من "الاستقلال" عن القُدامى والمُحْدثين و، أيضا، من "الإبداع" مُضاهاةً لهم جميعا وليس تقليدًا يَجْترّ مُكْتسباتهم بهذا الشّكل أو ذاكـ؛


4.5- إنّ موقف "العروي" من "الاستشراق" لَـا يختلف كثيرًا عن موقف غيره ("الجابري"، "أركون"، "حنفي"، "جعيط"، إلخ.)، من حيث إنه موقفٌ يتظاهر بنقدٍ شديدٍ له ويَسْتبطن في العُمق إعادة إنتاجه توسُّلًا بآليّاته وسَعْيًا لتحقيق نفس أغراضه. ومن هنا، يأتي ٱستنكار معظم المُثقّفين العرب والمُسْلِمين لكتاب "الاستشراق" (1978) لـ"إدوارد سعيد"، بل ٱستخفافهم به إلى الحدّ الذي نجد أنّ بعض الذين أعلنوا ٱرتدادهم عن "الإسلام" لم يَتردّدُوا في الدِّفاع الصّريح عن "الغرب" تحت غطاء نقد «استشراق إدوارد سعيد» (حالة "ابن ورّاق" [2007]) أو الهُجوم الشّديد على الذين تَميَّزوا بنقده (حالة "مـحمد المزوغي" في نقده لكُلٍّ من "أركون" [2007] و"جعيط" [2014]). ولا عجب أن ترى أنّ هناكـ من أخذ يَنْبري، من الآن، لمُهاجَمة "وائل حلّاق" الذي سعى في كتابه الصّادر حديثا (2018) إلى «ٱستئناف القول النّقْديّ في الاستشراق» عملًا على الكشف عن أنواع "الاختلال" في «أشكال المعرفة الغربيّة» وبحثًـا عن التّحرُّر منها لإيجاد سُبُل تسمح بـﭑلاستفادة من أفضل المُكْتسبَات التي أُنْتِجتْ في "الغرب" و"الشّرق" كِلَيْهما؛


6- يَقُول الأستاذ "عبد اللـه العروي" في الفقرتَيْن السّادسة والسّابعة من خاطرته المذكورة آنِـفًا: «هذا ما لم يأخذه في الاعتبار طه عبد الرحمن، لم يبحث عن أصول تفكيره هو في الوقت الذي بحث فيه عن أصول أفكار الآخرين. وذلك بسبب تخصصه المفرط. بالنسبة له هذه اعتبارات خارجة عن موضوعه.. لولا أن جل مفاهيمه الإجرائية مأخوذة من هناك وليست مأهولة كما يدعي، أو لنقل مأهولة عبر واسطة. والواسطة – يا للغرابة!- هي جماعة المستشرقين الثائرين على الليبرالية في عهد الموجة الشمولانية (التوتاليتارية). ميدان التداول مثلاً إنما هو عبارة لسانية عن مفهوم الجماعة، يصفه فقط ثمّ يدعي أنه يعرّفه ثم يقرر أن التعريف هو تجريد الوصف. كل ذلك تمويه.» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 631)؛


1.6- نُلاحظ، أوّلا، أنّ هاتيْن الفقرتَيْن (السّادسة والسّابعة) هما فقرة واحدة لتَرابُطهما (لكنّهما صُفِّفتا في كل طبعات كتاب "العروي" كفقرتَيْن مُنفصلتَيْن!). وتتكوّنان من سبع جُمل (أو، بـﭑلأحرى، خمس جُمَل إذَا صَحَّحنا «علامات الوقف» في عدّة مواضع كما سيأتي)؛


2.6- يقول "العروي" في الجُملة الأُولى: «هذا ما لم يأخذه في الاعتبار طه عبد الرحمن، لم يبحث عن أُصول تفكيره هو في الوقت الذي بحث فيه عن أُصول أفكار الآخرين[؛] وذلك بسبب تَخصُّصه المُفْرِط.». وبهذا يُشير "العروي" إلى أنّ "طه" لم يأخذ بعين الاعتبار تأثير الفكر الاستشراقيّ فيبحث عن أُصول تفكيره فيه على الرّغم من أنه بحث عن أُصول أفكار غيره. والسّبب في ذلكـ، حسب ظنّ "العروي"، هو تَخصُّصه المُفْـرِط. وهذه الادّعاء مُغْرٍ جدّا، ولا يُراد به فقط أن يُنْتقَص من فكر "طه" من خلال رَبْطه بـﭑلتأثير الاستشراقيّ، بل يُراد به أيضا جعلُه ضحيةً له مثل غيره من حيث إنّ "العروي" أقرّ بأنّ جميع الدّارسين العرب والمُسلِمين (بمن فيهم هو) «قد غَزَتهُم المُوضةُ الاستشراقيّةُ فصارُوا يَدرُسون ويُعظِّمُون ما ٱهْتمّ به الباحثون الأجانب». وحينما يُطْلَب منه إثبات دعواه هذه، تَراه يلجأ - في لحظة أُولى- إلى مِشْجب «التّخصُّص المُفْرِط» ويُحاول - في لحظة ثانية- أن يُعطي أمثلة بما ظَنّه مفاهيم مأخوذة من الفكر الاستشراقيّ (كما سيَقُول في الجُملة التالية). ولكن، لَـا بُدّ من الانتباه إلى أنّ "العروي" حينما يتحدّث مرّة أُخرى عن «التّخصُّص المُفْرِط» لدى "طه"، فهو يُشير إلى عدّة أُمور: منها أنّ فكر "طه" مَبْنيٌّ منطقيًّـاعلى نحو بالغ الإحكام بما يجعل فهمَه بعيدًا عن مُتناول بادئ الرّأي (وحتّى عن إدراكـ كثير من المُتخصّصين) و، من ثَمّ، صعبَ الإبطال؛ ومنها أنّ تَخصُّص "طه" في المنطق (وفلسفة اللُّغة) يفرض عليه الانحصار فيما هو داخليّ وإغفال ما هو خارجيّ (هذا الخارجيّ الذي يَزْعُم "العروي" الاختصاص به)؛ ومنها أنّه يُقِـرّ – بشكل غير مُباشر- بعدم تَخصُّصه، فهو ليس "فيلسوفا" (وكمْ من مرّة أكدّ هذا الأمر) وليس "مُؤرِّخا" وليس "رِوائيًّـا" وليس "باحثًا" في أحد العُلوم الإنسانيّة أو الاجتماعيّة (كــ"علم السياسة" أو "علم الاجتماع")، وإنّما هو "مُفكِّر" أو "مُثقَّف" مُتطفِّـلٌ على كلّ تلكـ المَجالات (وهذا الاعتراف الضِّمْنيّ لَـا يُلْتفَت إليه في تَبيُّن حقيقة كتابات "العروي"!)؛


3.6- ويقول "العروي" في الجملة الثانية: «بالنسبة له هذه اعتبارات خارجة عن موضوعه[؛] لولا أن جُلّ مفاهيمه الإجرائيّة مأخوذة من هناك[،] وليست مأهولة [كذا] كما يَدّعي، أو لنقل مأهولة [كذا] عبر واسطة.». في هذه الجملة تصحيف لافتٌ وفاضحٌ يَتعلّق بأنّ صفة «مَأْصُولة» (بمعنى «تجد أَصْلَها في التُّراث ومُقْتضياته التّداوُليّة») أصبحتْ في نصّ "العروي" (ورُبّما بناءً على سُوء فهمه أو عدم قراءته) «مَأْهُولة» (مُكرَّرة، بل لا تزال مُثْبَتةً هكذا في الطّبعة الأخيرة من خواطره [2018]!). وكما يُؤكّد "العروي" في هذه الجملة ٱدّعاءه بأنّ البحث عن أُصول الأفكار يراه "طه" بعيدًا عن موضوعه، فإنه يذهب إلى حدّ القول بأنّ «جُلّ مفاهيم "طه" الإجرائيّة مأخوذةٌ من الفكر الاستشراقيّ وأنّها ليستْ "مَأْصُولةً" أو أنّها، بـﭑلأحرى، "مَأْصُولة" بوساطة ٱستشراقيّة». ولا شكّـ أنّ ٱدِّعاء "العروي" هذا كبير جدًّا ولا سبيل إلى تصديقه من دون إثبات مُفصَّل ومُحْكَم؛


4.6- يَقُول "العروي" في الجملة الثالثة: «والواسطة – يا للغرابة!- هي جماعة المُسْتشرِقين الثّائرين على اللّيبراليّة في عهد الموجة الشُّمولانيّة (التوتاليتاريّة).»، حيث يُشير إلى أنّ واسطة "طه" في بناء فكره ومفاهيمه لم تكن سوى «جماعة المُستشرِقين» الذين بثورتهم على اللّيبراليّة (بسبب ما يُسمِّيه «الموجة الشمولانيّة (التوتاليتارية)») وَفَّرُوا له سَند الرُّجوع إلى «أُصُول التُّراث» كأنّ "طه" (بل نحن جميعا) في حاجة دائمة إلى «ضمان المَوْثُوقيّة» الذي لَـا يُمْكِن أن يأتي – بحسب المُعتقد الدّفين في نفس "العروي"– إِلّا من "المُسْتشرقين" ومُفكِّري الغرب. وقد لَـا يحتاج الأمرُ إلى كثيرٍ لبيان أنّ "العروي" في ٱستنجاده بتأثير الفكر الاستشراقيّ يُريد تحقيق غَرَض أساسيّ: نفي "الأصالة" عن فكر "طه". لكنّه لَـا يكاد يَنْتبه إلى أنه، في العمق، إنّما يَنْفي "الأصالة" عن فِكْره هو من حيث إنه – في آن واحد– لَـا يَقْبَل إِمْكان أن يَقُوم ثمّة فكرٌ بـﭑلاستقلال التامّ عن الفكر الغربيّ ولا أن يَكُون مثل ذاكـ الفِكْر مَبْنيًّا على أُصُول مُخالفة لأُصوله، وهو ما يَؤُول إلى فضح النُّزوع التّقليديّ لفكر "العروي" في ٱتِّجاه ما يَظُنّه فكرًا كُلِّيًّا/كَوْنيًّا من دون أن يَدُور بباله وُجوب النّهوض لمُساءلته في أُصُوله المُحدَّدة تاريخيًّا وتَداوُليًّـا!


5.6- يَقُول "العروي" في الجملة الرّابعة: «ميدان التّداوُل [كذا] مثلاً إنما هو عبارةٌ لسانيّةٌ عن مفهوم الجماعة، يصفه فقط ثمّ يدّعي أنه يُعرّفه ثُمّ يُقرِّر أنّ التّعريف هو تجريد الوصف.». في هذه الجملة، يُعطي "العروي" مثالًـا عن مفاهيم "طه" التي يَعُدّها مأخوذةً مُباشرة من الفكر الاستشراقيّ. غير أنّ المُفارقة تَتمثّل في أنّ "العروي" يرتكب ثلاثة أخطاء فاضحة جدًّا: أوّلُها، أنه يُحرِّف مفهوم "طه" الذي يَصيرُ لديه «ميدان التّداوُل» بَدلًا من «المَجال التّداوُليّ» كأنّ لفظيْ "المجال" و"الميدان" مُترادفان تماما، بل كأنّ "طه" لم يُعلِّـل ٱختيارَه للفظ "مجال" في صلته بلفظ "التّداوُل"، بل كأنه لم يُميِّز «مَجال التّداوُل» عن غيره («المجال الثقافيّ الاجتماعيّ» و«المجال الإيديولوجيّ» و«المجال التّخاطُبيّ»)، وأشدّ من هذا كُلّه كأنّ "العروي" ٱكتفى بالسّماع عن كتاب "طه" ولم يقرأه بنفسه (في كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» أكثر من عشر صفحات في تحديد مدلول «المَجال التّداوُليّ» وقواعده والردّ على الاعتراضات المُحْتمَلة!)؛ وثانيها، أنّه يَراه «عبارة لسانيّة» تُعيد صياغة «مفهوم الجماعة»، كأنّ «ما هو لسانيّ» يُعَدّ أيضا «ٱستشراقيًّـا» بـﭑلتّحديد، بل كأنّ ما يُسمّى في "اللِّسانيات" بمُصْطلَح «الحَـقْـل الدَّلاليّ» («le champ sémantique») هو عينه «مَجال التّداوُل»، وهو ما يُثْبِت جهل صاحبنا (وكُلّ من تابَعه) لَـا فقط بمُقْتضيات مفهوم «المَجال التّداوُليّ» (أصول "اللُّغة" و"العقيدة" و"المعرفة" ليستْ خاصّة بجماعة مُعيَّنة هي حصرًا «أهل السُّنّة والجماعة» كما يُسَوِّل للعروي سُوءُ ظنّه أو فهمه، وإنّما هي شاملة لـ«أُمّة المُسْلِمين» من حيث ٱشتراكها النّمُوذجيّ في العمل بتلكـ "الأُصول"، مما يفيد أن كل "أمة" لها مجالها التداوُليّ الخاص)، بل كذلكـ بمُقْتضيات مفهوم «الحَقْل الدّلاليّ» (في المدى الذي يَعني «مجموع الألفاظ المُشْترِكة أو المُتقارِبة في الدَّلالة مُعْجميًّـا أو إِحاليًّـا» و، أيضا، بمُقتضى تَميُّز "الدّلالة" نفسها عن "التّداوُل")؛ وثالثها، أنه يَسْتنكر "الوَصْف" (أو ما يُسمّى قديما "الرَّسْم") كوسيلة أساسيّة من وسائل "التّعريف" كأنّه بالإمكان بناء هذا الأخير فقط على «معرفة حقيقيّة ومُباشرة بـﭑلشيء» بعيدًا عن أَيّ تَوسُّط ذِهْنيّ-لُغويّ!


6.6- يقول "العروي" أخيرًا: «كل ذلك تمويه.» مُشيرًا إلى «واقع حقيقيّ» هو وحده من يَظُنّ أنه يعرفه ومن دون أن يُبيِّن لنا فيما يَتمثّل بـﭑلضّبط حتّى نقتدر أن نُميِّز قولَه التّحقيقيّ عن القول التّمْويهيّ المزعوم لدى "طه"؛


7- يقول الأستاذ "عبد اللـه العروي" في الفقرتَيْن الثّامنة والتّاسعة من خاطرته المذكورة آنفًـا: «عندما كتبت "الايديولوجيا العربية المعاصرة"[،] تصورت أننا بعد نقد الفكر الأدلوجي سندخل ميدان الموضوعية. فيُعنى كل مفكّر أو كاتب بجذور أدواته المعرفية ويستعملها بأمانة وصدق وتواضع ليصف ما يواجه من الطبيعة والمجتمع والإنسان في حدود ما يجيزه له المكان والزمان والوضع الاجتماعي والنفسي. فيمكن الانعتاق من بداهة التراث. هذا ما أسميته بالقطيعة. فقيل: القطيعة غير ممكنة (مع أنها حاصلة بسبب الاستعمار) وإن معاكسة الوعي بها هو شرط الانغماس مجدداً في لبّ التراث وإن الأصالة – إن كانت لتتحقّق يوماً– تستلزم الحفاظ على قسم من التراث لأنه وحده مفهوم للجمهور. الواقع هو أن القطيعة الحاصلة، والتي كنت أدعو فقط إلى الاعتراف بها والانطلاق منها، ظلّت بالأسف على مستوى الفكر والوجدان ولم تكرس كخطة لتجديد المجتمع واستئناف التاريخ، فعمّت الازدواجية وتعمقت وعلى أثرها تقرر التردد والعجز تمهيداً لقطيعة مضادة. أما الجديد الذي وُعدنا به مرارا[،] فإننا لا نزال ننتظره. كل ما حصل هو البحث عن أصل أعمق[،] أي أبعد عنا وأعرق في الماضي. وهذا هو مشروع طه عبد الرحمن، إذ معه نصل إلى إحياء آليات تكريس ذلك التراث.» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 631-632)؛


1.7- جمعتُ الفقرتَيْن كأنّهما فقرةٌ واحدةٌ لترابُطهما من حيث المضمون، وتتكوّن هذه الفقرة من تسع جُمل مختلفة من حيث الطُّول والتّركيب؛


2.7- يَقُول "العروي" في الجُملة الأولى: «عندما كتبتُ "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"[،] تصوّرتُ أننا – بعد نقدِ الفكر الأُدلوجيّ– سنَدخُل ميدان الموضوعيّة.». بعد أن أعطى "العروي" مثالًا بأحد مفاهيم "طه" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» («المجال التّداوُليّ»)، ٱنتقل إلى إعطاء مثالٍ بكتابه «الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة» ليُبيِّن الفرق بين فكره وفكر "طه". ويُشير، في هذه الجملة، إلى أنّه قام بنقد الفكر الإديولوجيّ في كتابه ذاكـ مُتصوِّرًا أنه نقدٌ سيُمَكِّـن من الدُّخول إلى «ميدان الموضوعيّة». ويُلاحَظ على قول "العروي" هذا أنّ حقيقتَه تنكشف إذَا ٱسْتبدلنا بلفظ "تصوّرتُ" لفظَ "تَوهّمتُ"؛ لأنّ نقد الفكر الإديولوجيّ لَـا يقتضي، بـﭑلضرورة، الدُّخول في «ميدان الموضوعيّة» إلَّا لدى من يَتوهّم إمكانَ التّخلُّص التامّ من كُلّ أَثرٍ للإديولوجيا حتّى في نقده لذلكـ الفكر. وأكثر من هذا، فذاكـ التّوَهُّم نفسُه "إديولوجيٌّ" بحيث يَصحّ إدخالُه في إطار «إديولوجيا العروي» المسكوت عنها، بالخصوص في كتابه «الإيديولوجيا العربية المعاصرة». ومن المُؤسف أنّ هذه "الإديولوجيا" لم تُكْشَف وتُفحَص حتّى بعد الاحتفال بمُرور خمسين سنة على صُدور الكتاب!


3.7- ويقول "العروي" في الجُملة الثانية: «فيُعنى كلُّ مفكّر أو كاتب بجُذور أدواته المعرفيّة ويَستعملها بأمانة وصدق وتواضُع ليصف ما يُواجه من الطّبيعة والمجتمع والإنسان في حُدود ما يُجيزه له المكان والزّمان والوضع الاجتماعيّ والنفسيّ.». تُعبِّـر هذه الجُملة عن نوع من «ما يجب أن يَكُون» (أو «مَثَل أعلى»)، فهي ذات طابع معياريّ وأخلاقيّ (ٱستعمال الأدوات المعرفية بـ"أمانةٍ" و"صدق" و"تواضُع"). وقد لَـا يختلف المرء مع "العروي" في مضمونها، إذِ المطلوب فعلًا من كل مفكر أو كاتب «أن يُعنى بجُذور أدواته المعرفيّة ويَسْتعملها بأمانةٍ وصدق وتواضُع ليصف ما يُواجه من مُشكلات الطّبيعة والمجتمع والإنسان في حدود مجموع الشُّروط المُحدِّدة له موضوعيًّـا وذاتيًّـا». إنه «نَمُوذج الموضوعيّة» كما يُدْرِكه ويُعبِّر عنه "العروي". لكن، لَـا بُدّ من الانتباه إلى أنّ «نَمُوذج الموضوعيّة» هذا يتعلّق، في واقع الممارسة، بقُدرات ومهارات تُكتسَب وتُسْتثمر وتبقى خاضعةً للتّحْسين بقدر ما تُسْتعمَل بجدّ. وهذا ما عبَّر عنه "طه" في كتابه كمبادئ نظريّة وعمليّة مُوجِّهة، منها مثلا «التّخلُّص من الأحكام المُسْبقة أو الجاهزة أو المُتسيِّبة» و«تحصيل معرفة شاملة بمناهج المُتقدِّمين من علماء الإسلام ومُفكِّريه في مختلف العلوم مع تحصيل معرفة كافية بالمناهج الحديثة تُمَكِّن من القُدرة على تجاوُز طور تقليد المناهج واقتباس النظريّات إلى طور الاجتهاد في اصطناع المناهج ووضع النظريّات» (تجديد المنهج في تقويم التراث، ص. 19-20)؛


4.7- يقول "العروي" في الجملة الثالثة: «فيُمْكِـن الانعتاق من بداهة التُّراث.». يأتي هذا القولُ مُترتِّـبًا على ما سبق كنتيجة، فالأستاذ "العروي" يرى أن «نقد الفكر الإديولوجيّ» سيُدخلنا إلى «ميدان الموضوعيّة» بحيث يصير من المُمْكن «الانعتاق من بداهة التُّراث». غير أنه لا يُوَضّح ما يَقصده بـ«بداهة التُّراث» تفاديًا منه لَأيِّ إِلْزام مُحْرِج. ولا يَبْعُد أن يَكُون مقصوده «مجموع المُعتقدات والمبادئ والقيم الموروثة التي كانت ولا تزال تبدو للعرب والمُسلِمين بديهيّةً». ولو أخذنا بقول "العروي"، بهذا المعنى، للَزِم طرحُ تساؤُلَيْن أساسيَّيْن: أوّلُهما، إذَا كان «الانعتاق من بداهة التُّراث» يقتضي مُراجَعةَ (ورُبّما) ٱطّراحَ كُلّ أو جُلّ «المُعتقدَات والمبادئ والقيم الموروثة»، فمن أين سيتأتّى لنا الانطلاقُ ٱبتداءً؟؛ وثانيهما، أَلَيْس وُجوبُ «الانعتاق من بداهة التُّراث» هو نفسه بداهة يجب الانعتاق منها؟ بل أَلَيس وُجوب هذا الانعتاق يفرض، بـﭑلأَوْلى، «الانعتاق من بداهة الحَداثة» حتّى لَـا تَكُون هي تلكـ «البداهة المُمْتنعة» – بحسب ظنّ "العروي" ومن تابعه– على المُساءَلة والمُراجعة؟!


5.7- يَقُول "العروي" في الجُملة الرّابعة: «هذا ما أسْمَـيْـتُه بالقطيعة.». وهذا القول توضيحٌ منه لمقصوده بـ«الانعتاق من بداهة التُّراث»، فهناكـ قطيعةٌ حاصلةٌ (أو يجب إِحْداثُها) عن «التُّراث الإسلاميّ العربيّ». ويُمْـكِن أن يُلاحَظ، هُنا، أن «مفهوم القطيعة» (تُسمّى «القطيعة المعرفيّة» [«la rupture épistémologique»]) أحد مفاهيم الفيلسوف الفرنسيّ "غاستون باشلار" (بـﭑلخصوص في كتابه «تَشكُّل العقل العلميّ» [1938]) الذي ٱستعمله لوَصْف تَكوُّن «المعرفة العلميّة» (كمعرفة نظريّة موضوعيّة) في عَلاقتها بـ«المعرفة العاديّة» (معرفة «الحِسّ المُشترَكـ» في عفويّته الجارفة)، وهو مفهومٌ هَرَّبه الفيلسوف الماركسيّ "لُوِي أَلتُوسير" من مجال فلسفة العلوم إلى مجال الفلسفة مُعيدًا تسميتَه («la coupure épistémologique») ومُوظِّـفًا إِيّاه لوصف ما ظنّه "ٱنقطاعًا" أو "ٱنفصالًا" في حياة "ماركس" الفكريّة (بين كتابات الشّباب وكتابات النُّضْج). وبناءً على هذه المُلاحظة، يُطْرَح سُؤالان: هل فَكَّر "العروي" في أصل «مفهوم القطيعة» عملًا بما أَلْزَم به نفسَه بوُجوب البحث عن أصول الأفكار وجُذور الأدوات المعرفيّة؟! ولو سَلَّمنا له بإجرائيّة هذا المفهوم في فلسفة العلوم، هل نُسلِّم بإجرائيّته في وَصْف العَلاقة بـ(أو مع) "التُّراث"؟


6.7- يَقُول "العروي" في الجُملة الخامسة: «فقِـيلَ: القطيعةُ غير مُمْـكِنة (مع أنّها حاصلة بسبب الاستعمار)[،] وإنّ مُعاكَسةَ الوعي بها هو شرط الانغماس مُجدَّداً في لُبّ التُّراث[،] وإنّ الأصالة – إنْ كانت لتتحقّق يوماً– تستلزم الحفاظ على قسم من التُّراث[،] لأنه وحده مفهومٌ للجمهور.». يَذكُر "العروي"، في هذه الجملة، الاعتراضات على دعوى «القطيعة عن التُّراث» (وهي «قطيعة عن» وليست «قطيعة [على]» كما هو شائع!) التي يُؤكِّد أنها «حاصلةٌ بسبب الاستعمار»: فهي، أوّلا، قطيعةٌ غير مُمْـكِنة عَمَـليًّـا، لأنّ "التُّراث" يُكَوِّن «هُوِيّة الذّات» فكأنّ الانقطاع عنه فناءٌ من الوُجود؛ وهي، ثانيًا، مُعاكَسةٌ للوعي تَقُود حتمًا إلى «الانغماس مُجدَّداً في لُبّ التُّراث»؛ وهي، ثالثًا، ضدّ "الأصالة" التي تستلزم - لو ٱفترضنا إمكان تحقُّقها- الحفاظ على قِسمٍ من "التُّراث"، لأنه وحده مفهوم للجمهور. وكما أنّ "العروي" لَـا يستوفي عَرْض مضمون الاعتراضات الثلاثة بوُضوح، فإنه لَـا يرى من الضروريّ أن يَرُدّ عليها بتفصيل؛ بل يكتفي بتأكيد «حُصُول القطيعة في الواقع» ويَمضي ليَبْني عليه كــ"بداهة" لَـا تُساءَل! ومن الغريب جدّا أنه يُعلِّـل «حُصُول القطيعة» بسبب "الاستعمار" في الوقت الذي كان عليه أن يُعلِّـل حُدوثَها من داخل التّاريخ الخاص بالمُجتمعات الإسلاميّة العربيّة، بل أكثر من هذا لَـا يرى أنّ تعليلَ «حُصُول القطيعة» بسبب "الاستعمار" يَجعلُها «أمرًا واقعًـا» حصل بالإكراه الماديّ لقُوى "الغزو" و"الاحتلال"، ممّا يَفْرِض على الشُّعوب المَعْنيّة مُقاوَمتَها لأنّها «سَلْبٌ معنويٌّ» لَـا يَقلّ ظُلمًا وخُطورةً عن «السَّلْب الماديّ»!


7.7- يَقُول "العروي" في الجُملة السّادسة: «الواقع هو أنّ القطيعة الحاصلة، والتي كنتُ أدعو فقط إلى الاعتراف بها والانطلاق منها، ظَلّت بالأسف على مُستوى الفكر والوجدان ولم تُكرَّس كخُطّة لتجديد المجتمع واستئناف التاريخ، فعمّت الازدواجيّة وتعمّقت وعلى أثرها تقرّر التردُّد والعجز تمهيداً لقطيعة مُضادّة.». في هذه الجملة، يُؤكّد "العروي" ثلاثة أُمُور: أوّلها، تأسُّفه على أنّ «القطيعة عن التُّراث (كواقع حاصل بـﭑلفعل) ظَلَّتْ على مُستوى الفكر والوجدان ولم تُكرَّس كخُطّة لتجديد المجتمع واستئناف التاريخ» (وهو بهذا يُقـرّ أنّ الشُّعوب المُسْلِـمة لم تعترف بما ٱنْقاد هو وأمثالُه إلى التّسْليم به في إطار نوع من الانهزام النفسيّ والفكريّ!)؛ وثانيها، أنّ كون الدّعوة إلى «إحداث القطيعة عن التُّراث» قولًا نافلًا جَعلَه يدعو فقط إلى «الاعتراف بها والانطلاق منها» (وهو بهذا يَتبرّأ من «الدّعوة إلى إحداث القطيعة عن التُّراث» ويتّخذ موقف النّاصح بضرورة الاعتراف بواقع "الظُّلْم" و"السَّلْب" الغربيَّيْن والتّعامُل معه)؛ وثالثها، أنّ ٱستمرار القطيعة على مستوى الفكر والوجدان وعدم تَحوُّلها إلى خطّة لتجديد المجتمع وٱستئناف التّاريخ قد أدّى – في ظنِّه- إلى تعميم الازدواجيّة وتَعميقها بحيث تَقرّر التّردُّدُ والعجزُ وتَمهدّ الطّريق لحُدوث قطيعة مُضادّة (أيْ «قطيعة عن الحداثة»)، وكأنه بهذا يتبنّى - بوعي أو من دونه- ضرورةَ الانقطاع الفعليّ عن التُّراث الإسلاميّ حتّى يتمّ الانسجامُ مع "الحداثة" والانفكاكـ عن كل ٱزدواجيّة، بل كأنه يُحمِّـل المسؤوليّة في التّردُّد والعجز والذّهاب إلى حدّ «رَفْض الحداثة» فقط إلى مُجْتمعات المُسْلِمين بما هي مجتمعات تُصِرُّ على الرُّجوع بفكرها ووِجدانها إلى الماضي؛


8.7- يقول "العروي" في الجُملة السّابعة: «أمّا الجديد الذي وُعدنا به مِـرارًا[،] فإنّنا لا نزال ننتظره.». في هذه الجملة، نرى كيف أنّ "العروي" يَنْسُب «الوعد بـﭑلجديد» إلى المجهول ليَتأتّى له أن يَسْخر منه بقوله «إنّنا لا نزال ننتظره»، وكأنه لَـا يَدخُل (أو لَـا يجب أن يُعَدّ) ضمن زُمْرة الذين «كانوا ولا يزالون يَعِـدُوننا بالجديد»، وذلكـ حتّى لَـا يُسأَل – هو أيضا– عن عدم وفائه بوَعْده الذي لم يُحقِّق منه شيئا!


9.7- يقول "العروي" في الجُملة الثامنة: «كلّ ما حصل هو البحث عن أصل أعمق[،] أَيْ أبعد عنّا وأعرق في الماضي.». في هذه الجُملة، يصف "العروي" ما يُسمِّيه «القطيعة المُضادّة»، فهي كــ«رفض للحداثة» ليست سوى ٱرتداد ونُكُوص إلى الماضي البعيد الذي يُتوَهَّم كما لو كان هو "الأصل" القابل دائما للاستعادة. ويُلاحَظ على هذا القول أنّ صاحبَه (بل أصحابه) لَـا يَأْتُون به إِلّا في معرض التّشْنيع على المُسْلمين في عَلاقتهم بتُراثهم، لكنّ "العروي" ومن تابعه لَـا يَجرُؤون على مُساءَلة «البحث عن أصل أعمق» لدى المُفكِّرين الغربيِّين أنفسهم الذين نراهم لَـا يجدون أَيَّ حرج في الرُّجوع إلى ماضٍ ("أُسطوري" في جزء كبير منه) هو أبعد بكثير من ماضي العرب والمُسْلمين!


10.7- يقول "العروي" في الجُمْلة التّاسعة: «وهذا هو مشروع طه عبد الرحمن، إِذْ معه نصل إلى إحياء آليّات تكريس ذلك التُّراث.». وتأتي هذه الجملة كاستنتاج مُناسِبٍ تمامًا لغَرَض "العروي"، فـ«مشروع طه عبد الرحمن» يُمَثِّل – بحسب ظنّه- تلكـ «القطيعة المُضادّة» التي تعمل على «إِحْياء آليّات تكريس ذلكـ التُّراث الميِّت». ولا يبدو أنّ "العروي" كان مَعْنيًّـا في خاطرته بشيء آخر أهمّ من الوُصول إلى هذه النّتيجة. إذْ لو كان مَعْنيًّـا بأمر تحقيق "التّجْديد"، لوَجَـد نفسَه يَطلُب آثارَه في فكر "طه" ولو جُزئيّا؛ بل لكان عليه أن يتساءل عن رُجُوعه هو بالذَّات إلى «تُراث الغرب الميِّت» وسَعْيه، بكل ثمن، لتَكْريس آليّاته في "النّظر" و"العمل" من دون القُدرة على مُضاهاة أصحابه في "الابتكار" و"الإنجاز" حتّى لو أدّاه ٱجتهادُه إلى مُخالَفتهم تماما كما هو حال "طه عبد الرحمن"؛



8- يَقُول الأستاذ "عبد اللّـه العروي" في الفقرة العاشرة من خاطرته المذكورة آنفًا: «كيف يتصور أحد أن تنتج الآليات المذكورة اليوم ما لم تنتجه أمس؟ قد يُقال الانفتاح أو الإبداع أو الابتكار غير ممتنع[،] إذ نهتم بالشكل فقط لا بالمضمون (انظر مقابلة الجمود بالجحود في الكتاب). لكن طه عبد الرحمن نفسه يشير إلى علاقة المضمون بالآلية المنتجة له عندما ينتقد علمية [كذا] "النقل". فهل تكون العلاقة موجودة إذا تعلق الأمر بأفكار حديثة غربية ومنتفية عندما نباشر أفكاراً عربية إسلامية؟ وحتى لو قبلنا الافتراض[،] يجب على الأقل أن تُشغّل الآليات على مادة جديدة (اقتصاد، سياسة، طبيعة، فن ..)[.] غير أن المؤلف يتجنب كل هذه الموضوعات ليحدثنا فقط عن التراث، أي المنجز الموروث، مقتصراً على تقييمه وتوظيفه. وهو صريح في هذا، عكس غيره ممن ينحو منحاه. فكيف يقنعنا بأنه يصل يوماً (إذ ما بأيدينا اليوم لا يعدو أن يكون مقدمة) إلى غير ما توصل إليه الأقدمون؟» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 632)؛


1.8- تتكوّن هذه الفقرةُ العاشرةُ من ستّ جُمل مُترابطة تبتدئ وتنتهي بسُؤال، كما يَتخلّلُها سُؤال ثالث؛


2.8- يَقُول "العروي" في الجُملة الأُولى: «كيف يَتصوّر أحدٌ أن تُنتج الآليّات المذكورة اليوم ما لم تُنتجه أمس؟ قد يُقال الانفتاح أو الإبداع أو الابتكار غير مُمْتنع[،] إِذْ نهتمّ بالشكل فقط لا بالمضمون (اُنظر مُقابلة الجمود بالجحود في الكتاب).». تبتدئ هذه الجُملة بقولٍ هو عبارةٌ عن سُؤال يُشير ضمنيًّا إلى جواب "العروي" عنه بالإنكار، فهو إِذًا سُؤالٌ إنكاريٌّ بحيث كان عليه أن يضع ما يُسمّى «علامة التّعجُّب» تاليةً لـ«علامة السُّؤال» [؟!]، كما كان عليه أن يضع كلمة "اليوم" كظرف مُباشرةً بعد فعل "تُنْتِج" («كيف يَتصوّر أحدٌ أن تُنتج [اليوم] الآليّاتُ المذكورةُ ما لم تُنْتِجه أمس؟[!]»). ومن البَيِّن أنّ "العروي" يَقُول بالعكس تماما، لظنِّه بأنّ الآليّات المذكورة لم تُنْتِج أمس شيئًا ذا بالٍ، ممّا يقتضي عنده أنه لَـا يُمْـكِنها أن تُنتج اليوم ما عجزت عنه من قبل. لكنّ هذه الدّعوى الكُبرى تحتاج إلى إثباتٍ مُفصَّل حتّى تُقْبَل. وإلّا، فما أشدّ سُخْف حُكمٍ كهذا يجعل مجموع «آليّات التُّراث» عقيمةً أو عاجزةً عن إنتاج مضامين ذات قيمة بالنسبة للإنسان المعاصر (خصوصا إذا كان يعتقد أنّ "الحداثة" تَجُبّ ما قبلها). ويبدو أنّ "العروي" يُعطي، من خلال ذلكـ السؤال الإنكاريّ، أكثر ممّا توَقّعه منه: إنه يكشف عن موقفه المُضْمَر من «التُّراث الإسلاميّ العربيّ» على النّحو الذي يُؤكِّد أنه بالفعل يدعو إلى الانقطاع عنه وٱطّراحه تماما. ثُمّ، إننا نراه في القول الثاني، من هذه الجملة، يُحاول أن يستدركـ بالإشارة إلى أن الانفتاح (أو الإبداع أو الابتكار) غير مُمْتنع بـﭑعتبار أنّ الاهتمام يقع على الشّكل فقط (وهو، هُنا، يُواصل تكرار خطئه في فهم مضمون دعوى "طه" بخصوص أنّ تقويم "التُّراث" لَـا يَتجدّد إِلّا إِذَا أُعطيت الأسبقيّةُ لآليّاتِ إنتاجه بدلًا من التّركيز فقط على مضامينه الفكريّة). وأمّا القول الثالث الموضوع بين قوسَيْن، فيُشير فيه إلى مُقابَلة "الجُمود" بـ"الجُحود" في كتاب "طه" كأنها مُقابَلة تدلّ على مقصوده. لكنّه، بهذا القول الأخير، يُؤكِّد غفلتَه مُضاعَفةً: أوّلا، غفلته عن أنّ "المُقابلة" الواردة عند "طه" ثُلاثيّة الأطراف من حيث إنه يرى أنّ ما يُسمّيه «التقريب المنكوس» أشد آفة من «التقريب القلق»، إذ تَكُون آفته إمّا «جُحودا في القلب» وإمّا «خُمودا في اللّسان» وإمّا «جُمودا في العقل» (تجديد المنهج في تقويم التراث، ص. 309)، أَيْ أنّ "العروي" أغفل «خُمُود اللِّسان» ليس فقط لأنه يَستخفّ بأصول "المجال التداوُليّ"، بل أيضا لأنّه لَـا يُريد أن يعترف بهذا "الخُمود اللغويّ" الذي ينطبق بـﭑلضّبط على ٱستعماله هو للعربيّة؛ وثانيًا، غفلته عن أنّ "المُقابَلة" آليّةٌ تُراثيّةٌ بانيةٌ للفكر في جوهره بحيث يَسْتمرّ الاعتمادُ عليها عند "المُحْدَثين" بما يمتنع معه على "العروي" نفسه أَلّا يَستعملها لإنتاج أفكاره!


3.8- يَقُول "العروي" في الجملة الثانية: «لكن طه عبد الرحمن نفسه يُشير إلى علاقة المضمون بالآليّة المُنْتجة له عندما ينتقد علميّة [كذا] "النقل".». ويُلاحَظ في هذه الجُملة تصحيفُ كلمة "عَـمَـليّة" التي صارت "علميّة"، فـ«نقلُ الفكر من لسان إلى آخر» إجراء (أو عمليّة) لَـا ينفكّـ فيه – بحسب "طه"– "المضمون" عن "الآليّة المُنتِجة" له. ولا حاجة لتأكيد أن قول "العروي" هنا إنما هو سُوء فهم منه، فـ"طه" في كتابه وَضع مُسلّمة أو مُقدّمة سمّاها «مقدمة التركيب المُزدوِج للنص» وفحواها هي: «سَلِّمْ بأنّ كل نص حاملٌ لمضمون مخصوص، وأن كل مضمون مبني بوسائل مُعيّنة، ومَصُوغ على كيفيات مُحدّدة، بحيث لَـا يتأتّى استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص إلّا إذا أُحيط علمًا بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية.» (تجديد المنهج في تقويم التراث، ص. 23). فهل يَصحّ، بعد هذا، أن يُقال بأنّ "طه" يَفْصِل في "النّص" بين «الوسائل البانيَة» أو «الآليّات المُنْتِجة» له وبين مضامينه الفكريّة؟ أَلَيْس مثلُ هذا القول سُوءَ فهمٍ صريح لكلام "طه" المُتعلِّق فقط بالوُجوب المنهجيّ لتقديم تناوُل "الآليّات" على "المضامين"؟!


4.8- قول "العروي" في الجملة الثالثة: «فهل تكون العلاقة موجودة إذَا تعلّق الأمر بأفكار حديثة غربيّة ومُنْتفية عندما نُباشر أفكاراً عربية إسلاميّة؟ وحتّى لو قَبِلنا الافتراض[،] يجب على الأقلّ أن تُشغّل الآليات على مادة جديدة (اقتصاد، سياسة، طبيعة، فن [، إلخ.])[.]». وتتضمن هذه الجُملة قولَيْن، أوّلُهما سُؤال هو بمثابة تَقْويل غير مُباشر من "العروي" يُؤكِّد به سُوء فهمه، لأنه يَنْسُب إلى "طه" أنه يُثْبِت عَلاقة "الآليّات" بـ"المضامين" في النُصوص الغربية الحديثة التي تُنقل إلينا بالترجمة ويَنْفيها في النُّصوص العربيّة والإسلاميّة القديمة (وإنّ المرء ليتساءل أين وَجد صاحبُنا هذا الفصل في كتاب "طه"؟!)؛ وثاني القولَيْن هو نوع من الاستدراكـ يأتي به "العروي" (لكن على نفسه فقط!) ليُشير إلى أنّ قَبُول ذلكـ الافتراض يُوجب تشغيل "الآليّات" على مادّة جديدة (اقتصاد، سياسة، طبيعة، فنّ، إلخ.) كأنّ "طه" كان يرمي في كتابه إلى شيء آخر غير ٱستخراج تلكـ "الآليّات" من نُصوص "التُّراث" وتقويمها! بل كأنه – وفقط لعدم قيامه بتشغيل هذه "الآليّات" خارج نصوصها الأصليّة– يَمنع منعًا مثل هذا التّشغيل!


5.8- يقول "العروي" في الجُملة الرّابعة: «غير أنّ المُؤلِّف يتجنّب كل هذه الموضوعات ليُحدِّثنا فقط عن التُّراث، أيْ المُنْجَـز الموروث، مُقْتصراً على تقييمه وتوظيفه.». وهذه الجملة تُرِينا كيف أنّ "العروي" لَـا يَرْضى بأقلّ من أن يَخرُج "طه" عن الموضوع الذي حَدَّده لكتابه والذي ليس شيئًا آخر غير تَناوُل "التُّراث" كمُنْجَز موروث والعمل على تقويمه منهجيًّا كــ"آليّات" يُمْكِـن توظيفُها في بناء فكر جديد. فهل مُطالَبةُ مُؤلِّفٍ ما بالخُروج عن موضوعه يَدخُل في إطار "النّقد" الجادّ أمْ هو إرادةٌ لتوجيه فكره إديولوجيًّا حتّى يُلَبّيَ ٱنتظاراتٍ لم تَكُن أصلًا من صميم ٱهتمامه الخاصّ؟!


6.8- يَقُول "العروي" في الجُملة الخامسة: «وهو صريحٌ في هذا، عكس غيره ممّن ينحو مَنْحاه.». هذا أصدقُ ما قاله "العروي" حتّى الآن، فهو قول لَـا تثريب عليه حتّى إنْ كان صاحبُه يُوجِّهه كمُؤاخَذة على مُثقّفين آخرين غير "طه"؛


7.8- يَقُول "العروي" في الجُملة السّادسة: «فكيف يُقْنعنا بأنه يَصل يوماً (إذْ ما بأيدينا اليوم لا يعدو أن يَكُون مُقدِّمة) إلى غير ما تَوصّل إليه الأقدمون؟». وفي هذه الجملة خطأٌ في ٱستعمال فعل "يصل"، صوابه أن يَقُول في المُسْتقبَل "سيَصلُ" حتّى يُناسب زَمنُ الفعل ظرف "يومًا". ومضمون هذه الجُملة سُؤالٌ يُشير إلى إِنْكار "العروي" أن يَكُون "طه" سيتوصّل في المُسْتقبَل إلى شيء غير ما تَوصّل له الأقدَمُون قبله (كأنه يُعبِّـر عن تمام يَأْسه من المُؤلِّف منذ قراءته لكتابه الذي باعترافه ليس سوى مُقدِّمة!) أو إلى ٱستباقه الحُكْمَ على ما سيأتي من فِكْر "طه" (وهو ما أَثْبَته "العروي" في مُقدِّمة كتابه «مفهوم العقل» [1996] حينما قال بأنّ "التُّراث" كحاجز معرفيّ «لا يُفيد [معه] أبدًا النقدُ الجزئيُّ، بل ما يُفيد هو طَيُّ الصّفحة. وهذا ما أَسْميته ولا أزال أُسميه بالقطيعة المنهجيّة [...]» [ص. 10]، وهو قولٌ يَسْتبق ما سيأتي به مثلًا "طه" في كتابه «اللِّسان والميزان أو التّكَوْثُر العقليّ» [1998]، خصوصا في خاتمته كما سنرى بعد الانتهاء من نقد خاطرة "العروي")؛


9- يَقُول الأستاذ "عبد اللّـه العروي" في الفقرة الثانية عشرة من خاطرته المذكورة آنِـفًا: «بما أن الاجتهاد محصور بالإجماع، والإجماع بالشرع، فإن ميدان التداول لا يخرج عملياً عن مفهوم السنة. ورغم أن طه عبد الرحمن يحاول جادّاً البرهنة على أن الانكماش (الجمود الموجود في عبارة مـحمد عبده) غير إلزامي، فإنه لا يستطيع أن يتحرر من مقتضيات ما ذكرنا[ہ]، بدليل أن ما يبيحه من نقل، من الداخل والخارج، مختزل إلى حدّ أنه لم يعد نقلاً[،] بل يتحول إلى تطويع وتوظيف. ويخرج الكتاب في النهاية دليلاً للحكم على مدى القرب أو البعد عن ذلك المتداول، أي صيغة معاصرة لمؤلفات الملل والنحل [في الهامش: إن كتب الملل والنحل، باستثناء ربما الشهرستاني، كتب الأشعري والبغدادي وابن حزم، تدخل في إطار السياسة الشرعية، إذ تقرر الحكم فيمن يقول هذا الرأي أو ذلك، بالإيمان أو الفسق أو الكفر، وما يترتب على الحكم من شهادة وإمامة وعدالة وكفاءة للتزاوج والمآكلة والمعاشرة، إلخ]» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 632-633)؛


1.9- تتكوّن هذه الفقرة من أربع جُمَل بإضافة عبارة الهامش كتوضيح للجملة الثالثة، وهي أيضا تتّصل بما سبقها وتأتي كاستنتاج حول كتاب "طه عبد الرحمن" («تجديد المنهج في تقويم التُّراث»)؛


2.9- يقول "العروي" في الجملة الأُولى: «بما أنّ الاجتهادَ محصورٌ بالإجماع، والإجماع بالشرع، فإنّ ميدان التّداوُل لَـا يخرج عمليّاً عن مفهوم السنة.». وهذه الجملة عبارة عن قياس منطقيّ فاسد، لأن مُقدّمته الأُولى على الأقلّ («الاجتهاد محصورٌ بالإجماع» أو، بالأحرى، «الاجتهاد محصورٌ في حُدود الإجماع») غير صحيحة ("الإجماع" ليس شرطا في "الاجتهاد"، بل هو فقط أحد مصادره؛ فليس مطلوبًا في كل اجتهاد أن يكون مُجْمَعًا عليه!) ونتيجته («ميدان التّداوُل لَـا يخرج عمليّاً عن مفهوم السُّنة») لَـا تترتّب ضرورةً على مُقدِّمتَيْه («مجال التّداوُل» بأُصوله الثلاثة لَـا ينحصر في مفهوم "السُّنة" كما يريد له صاحبنا!). ولكن، يبدو أنّ "العروي" يَخْـلِـط بين «الاشتراكـ في أُصول مجال التّداوُل» و«الإجماع» (بالمعنى الأُصوليّ) لأنه يُريد الجمع بين "الإجماع" و"السُّنة" و«المَجال التّداوُليّ» (وليس «ميدان التّداوُل»!). وفي الحقيقة، فإن قول "العروي" هذا يكشف عن كونه أحد أبرز مُناهضي «المجال التّداوُليّ الإسلاميّ العربيّ»، بـﭑلخصوص لـٱقتضائه الاشتراكـ في "العقيدة" بما هي التّصْديق بـ«أَسبقيّة الشَّرْع» قُرآنًـا وسُنّةً. ولا شكّـ أنّ هذا من حقّه الذي لَـا يَنْقُصه سوى أن يُعْـلِن عنه صراحةً بما يَقتضي أن يُعرَف أنه ومن تابعه لَـا يُشَنِّعون على مفهوم «المجال التّداوُليّ» إِلّا لكونهم يعملون - جُزءًا أو كُلَّا وبوعي أو من دُونه- بمُقتضياتِ مَجالٍ تَداوُليّ آخر يَقُوم على أنّ التّفكير لَـا يَتمّ إِلّا في لُغة كالفرنسيّة أو الإنجليزية وبالاستناد إلى مُعتقداتِ «الحداثة اللِّيبراليّة» ومُكْتسَبات «المعرفة الوَضْعيّة»؛


3.9- يَقُول "العروي" في الجُملة الثّانية: «ورغم أنّ طه عبد الرحمن يُحاول جادّاً البرهنة على أنّ الانكماش ("الجمود" الموجود في عبارة "مـحمد عبده") غير إلزاميّ، فإنه لا يستطيع أن يتحرّر من مُقْتضَيات ما ذكرنا[ہ]، بدليل أن ما يُبيحه من نقل، من الداخل والخارج، مُختزَلٌ إلى حدّ أنه لم يَعُدْ نقلاً[،] بل يتحوّل إلى تطويع وتوظيف.». في هذه الجملة، يُوحي "العروي" - من خلال ربطٍ مُبْهمٍ بين «عدم إلزاميّة الانكماش» عند "طه" وبين "الجمود" عند "مـحمد عبده"- بأنّ الأوّل رغم ٱجتهاده يُواصل عملَ الثاني. وأكثر من هذا، فهو يَحكُم على "طه" بأنه لَـا يستطيع أن يَتحرّر من «الإجماع على الشّرْع» ("القرآن" و"السُّنة")؛ ودليلُه على ذاكـ هو القول بأنّ "طه" لَـا "يُبِيح" (كذا!) من "النّقْل" (الذي صيَّره "العروي" نقلًا من الدّاخل أيضا، حتّى يُؤكِّد المُساواة بين «عمل التّرجمة» و«الأخذ بأُصُول الدِّين»!) إِلّا في حدود ذلكـ "الإجماع". ولا بُدّ من الانتباه، هنا، إلى أن "العروي" يَخُونه ذكاؤُه مرّتَيْن: أوّلًـا، حينما يُشير إلى أنّ فكر "طه" ليس سوى عملٍ فقهيّ يُبيح "النّقْل" المُوافق للإجماع ويَمنع "النّقْل" المُخالف له، فهو يُثْبِت مُناهضتَه لـ"النّقْل" كتقريب تداوُليّ على أساس ما يُبيحه له فقهُه الخاصّ من ٱبتعاد عن أُصول «مجال التّداوُل الإسلاميّ العربيّ»؛ وثانيًا، حينما يَقُول إن "النّـقْل" - كما يراه "طه"- «يتحوّل إلى تطويع وتوظيف»، فهو لَـا يُؤكِّد فقط نفس مُراد "طه"، بل يُشير إلى مُراده هو القائم على الجمود على حِفْظ «المنقولات الأجنبيّة» كما هي في أصلها على النّحو الذي يُثْبِت به أنه أحد كبار المُقلِّدة في الفكر العربيّ المُعاصر، وذلكـ على الرّغم من زِيان "الحداثة" الخادِع الذي ما فتئ يُغلِّف به ما يَظُنّه من بَناتِ أفكاره!


4.9- يَقُول "العروي" في الجُملة الثالثة: «ويَخْرُج الكتاب في النّهاية دليلاً للحكم على مدى القُرب أو البُعد عن ذلك المُتداوَل، أيْ صيغة مُعاصرة لمُؤلَّفات المِلَل والنّحل». في هذه الجُملة، يصل "العروي" إلى نتيجةٍ أَثيرةٍ جدًّا لديه تُفيد أنّ كتاب "طه"، في نهاية التّحليل، ليس سوى «صيغة مُعاصِرة لمُؤلَّفات المِلَل والنّحل»؛ لأنه – بحسب ظَنِّه– يدلّ على أنّ "المعيار" في الحُكْم على كُلّ فِكْرٍ أو سُلُوكـ ليس سوى «مدى قُرْبه أو بُعْده من المُتداوَل الشَّرْعيّ السُّنّيّ». ولو سَلَّمنا له هذا التّخريج الاختزاليّ، فهل نُسلِّم له كون معيار الحُكْم عنده ليس شيئًا آخر غير «مدى القُرْب أو البُعْده من المُتداوَل الذي يَعُدّه هو وأمثالُه ذلكـ الكوْنيّ المشروع»؟! فلماذا يَسْكُت عن معياره ويَجرُؤ على مُهاجَمة المعيار المُخالف له عند "طه"؟!


5.9- يَقُول "العروي" في الجُملة الرّابعة (الهامش): «إنّ كُتُب المِلَـل والنِّحل، باستثناء رُبّما الشهرستاني، كتب الأشعريّ والبغداديّ وابن حزم، تَدخُل في إطار السِّياسة الشّرعيّة، إذْ تُقرِّر الحُكْم [في من] يَقُول هذا الرّأْي أو ذلك، بالإيمان أو الفسق أو الكفر، وما يَترتّب على الحُكْم من شهادة وإمامة وعدالة وكفاءة للتّزاوُج والمُآكلة والمُعاشرة، إلخ[.]». وهذه الجُمْلة – رغم ٱستنادها إلى مُعْطًى غير ثابت معرفيًّا (إذَا ٱستثنينا كُتُب "الشهرستاني" و"الأشعريّ" و"البغداديّ" و"ابن حزم"، فماذا يتبقّى من كُتُب «المِلَـل والنِّحَل» التي يُمْكِنها أن تُؤسِّس حُكْمَه المُتسيِّب؟!)– تزيد من كشف مُعْتقدٍ لَـا يقتصر على "العروي"، وهو مُعتقَد يرى أصحابُه أنّ صلةَ مجاليْ «علم الكلام» (المُسمّى أيضًا «علم أُصول الدِّين») و«علم أُصول الفقه» بـ«العقيدة الإسلاميّة» (أيْ، حصرًا، بـ"الدِّين") تَنْفي عنهما طابع "الفكر" وتقطع علاقتَهما تماما بـ«ما هو حديث» (أو «ما يُمَـثِّل الحداثة»). وفضلًا عن هذا، فإنّ "العروي" (بإشارته إلى أنّ كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» يَدخُل في إطار كُتُب «المِلَل والنِّحل» المُتعلِّقة بـ«السِّياسة الشّرعيّة») إنّما يُدافع عن مَوْقفه ووَضْعه كإنسان يأبى إِلّا أن يَقْطع، بهذا القدر أو ذاكـ، صلةَ فكره وسُلوكه بـ«الشَّرْع الإسلاميّ» ويَترُكـ العمل بما جاء به من دون أن يقع تحت حُكْمٍ بالفِسْق أو الكُفْـر، وكأنّ مُعْتقَداته الخاصّة والدّفينة لَـا تأثير لها في أحكامه على "التُّراث" و"الواقع"، بل كأنّ هذه المُعتقَدات حقٌّ في ذاتها بما لَـا يُجيز مُساءَلتَها نَقْدًا وإبطالَها عقلًا تماما كما كان يفعل "النُّظّار" في كُتُب «المِلَل والنِّحَل». ويجب أَلَّا يخفى أنّ هذا ما يُفسّر لماذا "العروي" حاول، على امتداد خاطرته، أن يُبْعِـد كتاب "طه" عن مجال «الفكر الفلسفيّ» ويُقرِّبه من «مذهب أهل السُّنّة والجماعة» ووَصْله، من ثَمّ، بـ«السِّياسة الشّرعيّة». إنّها حيلةٌ منه (ومن غيره) لتبخيسه وتفادي إبطاله كـدعاوى مُسْتدَلٍّ عقليًّـا عليها؛


10- يَقُول الأستاذ "عبد اللّـه العروي" في الفقرة الثانية عشرة من خاطرته المذكورة آنِـفًا: «بما أن الاجتهاد محصور بالإجماع، والإجماع بالشرع، فإن ميدان التداول لا يخرج عملياً عن مفهوم السنة. ورغم أن طه عبد الرحمن يحاول جادّاً البرهنة على أن الانكماش (الجمود الموجود في عبارة مـحمد عبده) غير إلزامي، فإنه لا يستطيع أن يتحرر من مقتضيات ما ذكرنا[ہ]، بدليل أن ما يبيحه من نقل، من الداخل والخارج، مختزل إلى حدّ أنه لم يعد نقلاً[،] بل يتحول إلى تطويع وتوظيف. ويخرج الكتاب في النهاية دليلاً للحكم على مدى القرب أو البعد عن ذلك المتداول، أي صيغة معاصرة لمؤلفات الملل والنحل [في الهامش: إن كتب الملل والنحل، باستثناء ربما الشهرستاني، كتب الأشعري والبغدادي وابن حزم، تدخل في إطار السياسة الشرعية، إذ تقرر الحكم فيمن يقول هذا الرأي أو ذلك، بالإيمان أو الفسق أو الكفر، وما يترتب على الحكم من شهادة وإمامة وعدالة وكفاءة للتزاوج والمآكلة والمعاشرة، إلخ]» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 632-633)؛


1.10- تتكوّن هذه الفقرة من أربع جُمَل بإضافة عبارة الهامش كتوضيح للجملة الثالثة، وهي أيضا تتّصل بما سبقها وتأتي كاستنتاج حول كتاب "طه عبد الرحمن" («تجديد المنهج في تقويم التُّراث»)؛


2.10- يقول "العروي" في الجملة الأُولى: «بما أنّ الاجتهادَ محصورٌ بالإجماع، والإجماع بالشرع، فإنّ ميدان التّداوُل لَـا يخرج عمليّاً عن مفهوم السنة.». وهذه الجملة عبارة عن قياس منطقيّ فاسد، لأن مُقدّمته الأُولى على الأقلّ («الاجتهاد محصورٌ بالإجماع» أو، بالأحرى، «الاجتهاد محصورٌ في حُدود الإجماع») غير صحيحة ("الإجماع" ليس شرطا في "الاجتهاد"، بل هو فقط أحد مصادره؛ فليس مطلوبًا في كل اجتهاد أن يكون مُجْمَعًا عليه!) ونتيجته («ميدان التّداوُل لَـا يخرج عمليّاً عن مفهوم السُّنة») لَـا تترتّب ضرورةً على مُقدِّمتَيْه («مجال التّداوُل» بأُصوله الثلاثة لَـا ينحصر في مفهوم "السُّنة" كما يريد له صاحبنا!). ولكن، يبدو أنّ "العروي" يَخْـلِـط بين «الاشتراكـ في أُصول مجال التّداوُل» و«الإجماع» (بالمعنى الأُصوليّ) لأنه يُريد الجمع بين "الإجماع" و"السُّنة" و«المَجال التّداوُليّ» (وليس «ميدان التّداوُل»!). وفي الحقيقة، فإن قول "العروي" هذا يكشف عن كونه أحد أبرز مُناهضي «المجال التّداوُليّ الإسلاميّ العربيّ»، بـﭑلخصوص لـٱقتضائه الاشتراكـ في "العقيدة" بما هي التّصْديق بـ«أَسبقيّة الشَّرْع» قُرآنًـا وسُنّةً. ولا شكّـ أنّ هذا من حقّه الذي لَـا يَنْقُصه سوى أن يُعْـلِن عنه صراحةً بما يَقتضي أن يُعرَف أنه ومن تابعه لَـا يُشَنِّعون على مفهوم «المجال التّداوُليّ» إِلّا لكونهم يعملون - جُزءًا أو كُلَّا وبوعي أو من دُونه- بمُقتضياتِ مَجالٍ تَداوُليّ آخر يَقُوم على أنّ التّفكير لَـا يَتمّ إِلّا في لُغة كالفرنسيّة أو الإنجليزية وبالاستناد إلى مُعتقداتِ «الحداثة اللِّيبراليّة» ومُكْتسَبات «المعرفة الوَضْعيّة»؛


3.10- يَقُول "العروي" في الجُملة الثّانية: «ورغم أنّ طه عبد الرحمن يُحاول جادّاً البرهنة على أنّ الانكماش ("الجمود" الموجود في عبارة "مـحمد عبده") غير إلزاميّ، فإنه لا يستطيع أن يتحرّر من مُقْتضَيات ما ذكرنا[ہ]، بدليل أن ما يُبيحه من نقل، من الداخل والخارج، مُختزَلٌ إلى حدّ أنه لم يَعُدْ نقلاً[،] بل يتحوّل إلى تطويع وتوظيف.». في هذه الجملة، يُوحي "العروي" - من خلال ربطٍ مُبْهمٍ بين «عدم إلزاميّة الانكماش» عند "طه" وبين "الجمود" عند "مـحمد عبده"- بأنّ الأوّل رغم ٱجتهاده يُواصل عملَ الثاني. وأكثر من هذا، فهو يَحكُم على "طه" بأنه لَـا يستطيع أن يَتحرّر من «الإجماع على الشّرْع» ("القرآن" و"السُّنة")؛ ودليلُه على ذاكـ هو القول بأنّ "طه" لَـا "يُبِيح" (كذا!) من "النّقْل" (الذي صيَّره "العروي" نقلًا من الدّاخل أيضا، حتّى يُؤكِّد المُساواة بين «عمل التّرجمة» و«الأخذ بأُصُول الدِّين»!) إِلّا في حدود ذلكـ "الإجماع". ولا بُدّ من الانتباه، هنا، إلى أن "العروي" يَخُونه ذكاؤُه مرّتَيْن: أوّلًـا، حينما يُشير إلى أنّ فكر "طه" ليس سوى عملٍ فقهيّ يُبيح "النّقْل" المُوافق للإجماع ويَمنع "النّقْل" المُخالف له، فهو يُثْبِت مُناهضتَه لـ"النّقْل" كتقريب تداوُليّ على أساس ما يُبيحه له فقهُه الخاصّ من ٱبتعاد عن أُصول «مجال التّداوُل الإسلاميّ العربيّ»؛ وثانيًا، حينما يَقُول إن "النّـقْل" - كما يراه "طه"- «يتحوّل إلى تطويع وتوظيف»، فهو لَـا يُؤكِّد فقط نفس مُراد "طه"، بل يُشير إلى مُراده هو القائم على الجمود على حِفْظ «المنقولات الأجنبيّة» كما هي في أصلها على النّحو الذي يُثْبِت به أنه أحد كبار المُقلِّدة في الفكر العربيّ المُعاصر، وذلكـ على الرّغم من زِيان "الحداثة" الخادِع الذي ما فتئ يُغلِّف به ما يَظُنّه من بَناتِ أفكاره!


4.10- يَقُول "العروي" في الجُملة الثالثة: «ويَخْرُج الكتاب في النّهاية دليلاً للحكم على مدى القُرب أو البُعد عن ذلك المُتداوَل، أيْ صيغة مُعاصرة لمُؤلَّفات المِلَل والنّحل». في هذه الجُملة، يصل "العروي" إلى نتيجةٍ أَثيرةٍ جدًّا لديه تُفيد أنّ كتاب "طه"، في نهاية التّحليل، ليس سوى «صيغة مُعاصِرة لمُؤلَّفات المِلَل والنّحل»؛ لأنه – بحسب ظَنِّه– يدلّ على أنّ "المعيار" في الحُكْم على كُلّ فِكْرٍ أو سُلُوكـ ليس سوى «مدى قُرْبه أو بُعْده من المُتداوَل الشَّرْعيّ السُّنّيّ». ولو سَلَّمنا له هذا التّخريج الاختزاليّ، فهل نُسلِّم له كون معيار الحُكْم عنده ليس شيئًا آخر غير «مدى القُرْب أو البُعْده من المُتداوَل الذي يَعُدّه هو وأمثالُه ذلكـ الكوْنيّ المشروع»؟! فلماذا يَسْكُت عن معياره ويَجرُؤ على مُهاجَمة المعيار المُخالف له عند "طه"؟!


5.10- يَقُول "العروي" في الجُملة الرّابعة (الهامش): «إنّ كُتُب المِلَـل والنِّحل، باستثناء رُبّما الشهرستاني، كتب الأشعريّ والبغداديّ وابن حزم، تَدخُل في إطار السِّياسة الشّرعيّة، إذْ تُقرِّر الحُكْم [في من] يَقُول هذا الرّأْي أو ذلك، بالإيمان أو الفسق أو الكفر، وما يَترتّب على الحُكْم من شهادة وإمامة وعدالة وكفاءة للتّزاوُج والمُآكلة والمُعاشرة، إلخ[.]». وهذه الجُمْلة – رغم ٱستنادها إلى مُعْطًى غير ثابت معرفيًّا (إذَا ٱستثنينا كُتُب "الشهرستاني" و"الأشعريّ" و"البغداديّ" و"ابن حزم"، فماذا يتبقّى من كُتُب «المِلَـل والنِّحَل» التي يُمْكِنها أن تُؤسِّس حُكْمَه المُتسيِّب؟!)– تزيد من كشف مُعْتقدٍ لَـا يقتصر على "العروي"، وهو مُعتقَد يرى أصحابُه أنّ صلةَ مجاليْ «علم الكلام» (المُسمّى أيضًا «علم أُصول الدِّين») و«علم أُصول الفقه» بـ«العقيدة الإسلاميّة» (أيْ، حصرًا، بـ"الدِّين") تَنْفي عنهما طابع "الفكر" وتقطع علاقتَهما تماما بـ«ما هو حديث» (أو «ما يُمَـثِّل الحداثة»). وفضلًا عن هذا، فإنّ "العروي" (بإشارته إلى أنّ كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» يَدخُل في إطار كُتُب «المِلَل والنِّحل» المُتعلِّقة بـ«السِّياسة الشّرعيّة») إنّما يُدافع عن مَوْقفه ووَضْعه كإنسان يأبى إِلّا أن يَقْطع، بهذا القدر أو ذاكـ، صلةَ فكره وسُلوكه بـ«الشَّرْع الإسلاميّ» ويَترُكـ العمل بما جاء به من دون أن يقع تحت حُكْمٍ بالفِسْق أو الكُفْـر، وكأنّ مُعْتقَداته الخاصّة والدّفينة لَـا تأثير لها في أحكامه على "التُّراث" و"الواقع"، بل كأنّ هذه المُعتقَدات حقٌّ في ذاتها بما لَـا يُجيز مُساءَلتَها نَقْدًا وإبطالَها عقلًا تماما كما كان يفعل "النُّظّار" في كُتُب «المِلَل والنِّحَل». ويجب أَلَّا يخفى أنّ هذا ما يُفسّر لماذا "العروي" حاول، على امتداد خاطرته، أن يُبْعِـد كتاب "طه" عن مجال «الفكر الفلسفيّ» ويُقرِّبه من «مذهب أهل السُّنّة والجماعة» ووَصْله، من ثَمّ، بـ«السِّياسة الشّرعيّة». إنّها حيلةٌ منه (ومن غيره) لتبخيسه وتفادي إبطاله كـدعاوى مُسْتدَلٍّ عقليًّـا عليها؛


11- يقول الأستاذ "عبد اللّـه العروي" في آخر فقرتين من خاطرته المذكورة آنفا: «يقول المستشرقون بنوع من التشفي: لا إصلاح في الإسلام إلّا بتجديد السُّنَّة بكل مكوناتها الفكرية والسلوكية والأخلاقية. وبما أن التجديد ممتنع، أو يعتبر بدعة وكل بدعة في النار، فالإصلاح بمعناه الشمولي ممتنع. من المؤسف أن يذهب المنطق بطه عبد الرحمن إلى أن يقف على الأرضية نفسها[،] إذ يقول الإصلاح هو اكتساب آليات تكوين السُّنَّة ولا حاجة إلى ما سوى ذلك. الفرق الوحيد بينه وبين المستشرقين هو أنه يُحوِّل إلى مَزيّة ما يعتبرونه هم نقيصة. بل يجعل من المعادلة التي يقترحها عقيدة، بها يحكم على أقوال الناس، قدامى ومعاصرين، هل هي أصيلة أم منقولة. عود على بدء[،] وحُقّ التأسف!» (خواطر الصباح. يوميات 1967-2007، طبعة المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص. 633)؛


1.11- دمجتُ بين الفقرتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة (التي فقط فيها جملة واحدة)، فهما تتكونان من ستّ جُمَل تُمثِّل آخر ما يستنتجه "العروي" حول كتاب (بل كل فكر) "طه عبد الرحمن"؛


2.11- يَقُول "العروي" في الجُملة الأُولى: «يقول المُستشرقون بنوع من التَّشفِّي: لا إصلاح في الإسلام إلّا بتجديد السُّنَّة بكل مُكوِّناتها الفكريّة والسُّلوكيّة والأخلاقيّة.». يأتي "العروي"، في هذه الجُملة، بقولٍ هو بمثابة خُلاصة لدراسات المُسْتشرقين حول «تُراث الإسلام». وينبغي أن يُلاحَظ، هنا، أنّ "العروي" يأخُذ منها بأمرَيْن أساسيَّيْن: يأخُذ بها كمُعايَنة من خبراء حقيقيِّين بجِماع "الإسلام"، ويأخُذ - مَثَله كمَثَل "أركون"- بالتَّسْوِيَة الماكرة التي قاموا بها بين «تُراث الإسلام» و«السُّنَّة» حيث صاروا لَـا يَتحدّثون عن "التُّراث" و"السُّنَّة" إِلَّا بـﭑستعمال لفظٍ واحدٍ هو «tradition»، ممّا يقتضي أنّ "الإسلام" وتُراثَه كلَّه قائمٌ على "السُّنّة" بما هي "ٱتِّباعٌ" للرّسول و"تقليدٌ" لوَرَثته من "العُلماء" الذين على رأسهم "المُحَدِّثون" و"الفُقهاء". ولذا، فإنّ المُستشرقين - بصفتهم لَـا يعرفون معنى آخر لـ"الإصلاح" غير ذاكـ الذي أَخْرَج «الرّافضيّة الحديثة» (المُسمّاة عندهم "پـروتستانيّة" («protestantisme») من «المسيحيّة الجامعة والمُتشدِّدة» (المسماة عندهم "كاثُوليكيّة" و"أُرثودوكسيّة") ونَصَّبَ «الجُحود الإلحاديّ» تجديدًا وٱنقلابًا حداثيًّـا في «التُّراث اليهوديّ/المسيحيّ»- لا يَتصوّرُون إمكان "الإصلاح" في «الإسلام/الدِّين» إلّا بـ«تجديد السُّنّة» كأصل مُؤسِّس فيه بكل مُكونِّاته الموروثة (أي كــ"تُراث"). وبما أنّ "التّجديد" صار يتحدّد (عندهم وعند تلاميذهم) بمعنى "التّجاوُز" و"الخُروج" و"التّحرُّر"، فـلَـا إصلاح في "الإسلام" من دون الخُروج عن مجموع ما أَسّسته "السُّنّة" والعمل على تجاوُزه كــ"عقيدة" بفكر نقديّ يُظنّ خِلْوًا من كل ٱعتقاد ويَتعيّن كــ"تَحرُّر" قائم على المُخالفة السُلُوكيّة والأخلاقيّة لأوامر "الدِّين" ونواهيه. ومن هنا، يأتي "الأصل" في جُرثومة "الاستشراق" التي أثَّرَت ولا تزال في فكر "العروي" وأمثاله من العامِلين على نَقْض «تُراث الإسلام» والانفكاكـ عنه. ولعلّ ممّا يَشْهد على هذا أنّ "العروي" أَبَى إِلّا أن يَكْتُب كتابًا في ذاكـ الاتِّجاه بعُنوان دالٍّ جدًّا «السُّنّة والإصلاح» [2008] على النّحو الذي يُثْبِت أنه أحد أنجب تلامذة المُسْتشرِقين. ولا يُسْتغرب، بـﭑلتّالي، الهُجوم المنهجيّ على «علم الحديث» و«كُتب السُّنّة» كمدخل جديد لذلكـ الإصلاح المُمْتنع من داخل «الإسلام السُّنّيّ»!


3.11- يَقُول "العروي" في الجُملة الثانية: «وبما أن التّجديد مُمْتنع، أو يُعتبر بِدعة وكل بدعة في النار، فالإصلاح بمعناه الشُّموليّ مُمْتنع.». هذا القول تتمّة للقول السابق ونتيجة منطقيّة له في نظر المُستشرقين والمُسْترشد بهم. فـ"التّجديد" بمعنى الرَّدّ الابتداعيّ والرَّفْض الجُحُوديّ مُمْتنعٌ في «الإسلام السُّنّيّ» الذي لَـا يقبل كل ما يخالف "الأُصول" الاعتقاديّة والعَمَليّة فيه؛


4.11- يَقُول "العروي" في الجُملة الثالثة: «من المُؤْسف أن يذهب المنطق بطه عبد الرحمن إلى أن يقف على الأرضيّة نفسها[،] إِذْ يَقُول الإصلاح هو اكتساب آليّات تكوين السُّنَّة ولا حاجة إلى ما سوى ذلك.». في هذه الجملة، يُواصل "العروي" استنتاجه فيتأسّف على كون "المنطق" جعل "طه" يقف على نفس أرضيّة المُستشرقين فيؤكد أنّ "الإصلاح" هو فقط اكتساب (وإعمال) «آليّات تكوين التُّراث/السُّنَّة». وهكذا، يتّضح كيف أنّ "العروي" لَـا يُقرِّب فكر "طه" من المُسْتشرقين إلّا بـﭑعتباره المِثال الحيّ على ما عايَنُوه وحَذَّروا منه. ولأنّ "العروي" قد فَهِم الدَّرْس جيِّدًا، فهو لَـا يُريد أن يَضع نفسَه إِلَّا حيث يرضى عنه أساتذته "المُستشرقون" تماما كما حصل حينما أصدر أوّل كتاب له («الإديولوجيا العربيّة المُعاصرة» [1967]) فوَجدهم يَهبُّون للتّقْديم له (بقلم "مكسيم رُودنسون") والإشادة به (بقلم "كلود كاهن" و"جورج لابيكا")؛


5.11- يَقُول "العروي" في الجملة الرّابعة: «الفرق الوحيد بينه وبين المستشرقين هو أنه يُحوِّل إلى مَزيّة ما يعتبرونه هم نقيصةً.». ولا يخفى أنّ هذه الجملة ساخرةٌ لأنها تستخفّ بفكر "طه" الذي هو مثال نقيضٌ للمُستشرقين من حيث إنه «يُحوِّل إلى مَزيّة ما يَعُدّونه هم نقيصةً». لكنّ قول "العروي" هذا يَفضحُه مَرّتَيْن: إِذْ تراه يُصدِّق "المُسْتشرقين" تصديقًـا تامًّا، ولا يُبالي أن يَكُون "مُقلِّدا" لهم حتّى حينما يجد من بني قومه من يَنْهض مُكذِّبًا ومُتحدِّيا لهم!


6.11- يَقُول "العروي" في الجُملة الخامسة: «بل يجعل من المُعادَلة التي يقترحها عقيدةً، بها يَحكُم على أقوال الناس، قدامى ومعاصرين، هل هي أصيلة أَمْ منقولة.». بهذه الجملة، يستكمل "العروي" استنتاجه فيجعل "طه" يقترح مُعادَلةً أساسها "العقيدة" وهدفها الحُكم على أقوال الآخرين وسُلوكاتهم، سواء أكانوا قُدامى أمْ مُعاصرين، من جهة تَوافُقها معها ("مأصولة" بحسب تعبير "طه"، وليست "أصيلة" كما يشتهي "العروي") أو تَعارُضها معها ("منقولة"). ونلاحظ، هنا، كيف أنّ أكثر شيء أزعج "العروي" (وليس وحده) في كتاب (وفكر) "طه" هو أنه جعل "العقيدة" أَصْلًا من أُصول «المجال التّداوُليّ» الذي يفرض أَلّا يَشتغل فكرُ المرء في ٱستقلال عنها. لكنّ تركيز "العروي" على "العقيدة" وإغفاله للأصلَيْن الآخرَيْن ("اللُّغة" و"المعرفة") دليلٌ على أنه لَـا يزال يَتوهّم أنّه لا يخضع لأيِّ عقيدة في ٱستعماله لـ"اللُّغة" وٱستثماره لـ"المعرفة" وكأنه يَتوَهّم (ويُوهم قُرّاءَه) بأنه من دُون أَيِّ «تَوَجُّه إديولوجيّ» ظاهر أو مُضْمَر. وإنه لمن «مَكْر التاريخ» بداعيةِ "التّاريخانيّة" وشيخها بين العرب والمُسْلِمين أن يرى نفسه - في كلّ ما يَقُول ويَفعل- مُنزَّهًـا عن أَيِّ تَحيُّز عَقَديّ أو تَورُّط دُنْيَويّ إلى الحدّ الذي لَـا يَقْـبَل أن يُساءَل من هذه النّاحية. ومن كانت هذه حالَه، أنّى له أن يُمارِس إجراءاتِ "التّوْضيع" ليُدْرِكـ حُدود وُجوده وفِعْله في هذا العالَم فيَنْهض ليَبْحث عن سُبُل الانفكاكـ عنها نظرًا وعملًا كما يجتهد "طه" وأمثالُه؟!


7.11- ويَخْتم "العروي" خاطرتَه قائلًا: «عَوْدٌ على بَدْءٍ[،] وحُقّ التّأسُّف!». وبهذا يُنْهِي "العروي" كلامَـه كما بدأه: "تَحسُّر" في بدايته و"تأسُّف" في نهايته. ومن لَـا يَمْـلِكـ إِلّا أن يَتحسّر ويتأسّف في موقعٍ يُفترَض فيه أن يَعمل لبُلوغ الغاية في الاستشكال والاستدلال إنما يُعبِّر عن مدى ٱنْزعاجه ممّا يتجاوَزُه حالًـا ومَقالًـا و، رُبّـما أيضا، مَــآلًـا!


8.11- هكذا أنتهي من قراءتي النقديّة في خاطرة الأستاذ "عبد اللّـه العروي" حول كتاب (وفكر) "طه عبد الرحمن" في «تجديد المنهج في تقويم التُّراث». وقد يَكُون ٱتّضح لمن يَهُمّه الأمر – من خلال هذه الملاحظات– أنّ وُقوع "العروي" (بوعي أو من دونه) في سُوء الفهم لِـما وَرَد في ذلكـ الكتاب لَـا يَسْمح إطلاقًا لنا بأن نكتفي بسُوء الفهم في قراءته أو في قراءة أَيِّ كتاب آخر. فلا بُدّ من الارتقاء إلى مُستوى القراءة النقديّة والمُسائِلة للنُّصوص بناءً على ٱستعداد نفسيّ وذِهْنيّ بعيدًا عن الرّاسخ من الآراء المُسْبَقة والشّائع من الأحكام المُرْسَلة. وفقط حينما يجتهد المرءُ في القيام بمثل تلكـ القراءة، يَحقّ له أن يُشْكَر إِذَا أصاب وأن يُعْذَر إِذَا أَخْطأَ. فهل يَسْتجيب ضحايا "الاستسهال" و"الاستعجال" فيَنْهضوا للعمل طلبًا لبناء فِكْرٍ مُؤسَّس منهجيًّا ومعرفيًّـا؟









تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة