U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

كاترين أودار تكتب: مفهوم الفرد ليبراليا

 




بقلم: كاترين أودار


إن المقولة المؤسسة لليبرالية الكلاسيكية، إذا قدمت هكذا، هي بالتأكيد معقدة جدا وقابلة لتفسيرات متناقضة لكي تصبح مقنعة، وإضافة إلى ذلك ليست الليبرالية فلسفة منهجية ولكنها أيديولوجيا سياسية موضوعة لتكون عملانية. إذا، من المهم تحديد مورفولوجيا الليبرالية، كفعلنا في ما يخص المحافظة أو الاشتراكية، وهي الحقول الأيدلوجية المعاصرة الثلاثة.


تمتلك الليرالية "نواة" من المفاهيم -المفاتيح التي انطلاقا من أعمال مايكل فريدن (Michael Freeden) -مثلا- يمكننا تصنيفها مؤسسة لهوية الليبرالية، وتسمح بوضع الحدود التي لا يسمح بتجاوزها. هذه المقاربة لأسس المفاهيم - المفاتيح لليرالية، سوف تسمح لنا بتجنب عدد كبيرة من الفخاخ. وهكذا، فالليبرالية وإن كان اجتماعية، ليست بالاشتراكية، لأن المساواة لا تملك التفسير ذاته عند الاثنين، ولا يمكنها أن تتسم بالمحافظة (1) وإن اقتربت منها، لأنها تعتبر النظام الاجتماعي نظاما مُنْشَأ لا نظاما طبيعيا. لكن هذه المفاهيم - المفاتيح هي نفسها مكونة من عناصر مفتوحة للنفاش وإعادة التفسير، مثل الحرية والفردية بالنسبة إلى الليبرالية، المساواة والجماعة للاشتراكي، النظام والتراتبية للمحافظة. بعد ذلك، نجد المفاهيم المجاورة، التي تأتي لتلون أو لتغير معنى هذا المفاهيم - المفاتيح، على قاعدة المقاربة المنطقية أو التاريخية، مثل الديمقراطية، المساواة، العدالة الاجتماعية أو دور الدولة لليبرالية، أو الديمقراطية للمحافظة. وأخيرا، هناك للمفاهيم المحيطة، وهي مستعارة من أيديولوجيات وحركات سياسية أخرى، لأن الحدود بينها ليست واضحة أبدا، وهذا ما يفسر الثبات التكويني النسبي والمرونة التطورية للأيديولوجيات بدرجات واضحة إلى حد ما. إنها جامدة وعقائدية إلى حد ما، وتسمح درجة عالية من الليونة والتسامح البنيوي، كما في حالة الليبرالية، بالتكييف والملاءمة إلى ما بعد حدود الأحزاب والحركات السياسية، والتحول ليبرالية أفكار، وحتى "فلسفة" مع ليبرالية القرن العشرين الأخلاقية.


على الرغم من أن المفاهيم التي تناقشها الليبرالية ليست فلسفية، وإنما هي سياسية، فإن نواتها الثابتة والباقية من دون تغيير برغم تحولاتها، تتعلق بفرضية سيادة الفرد. ولفهم ذلك جيدا، علينا أن نسلط الضوء على تمايزين أساسيين، فكريين وسياسيين في الوقت ذاته:


أولا: يجب تمييز تفسير معياري من معيار توصيفي لسيادة الفرد ولاكتفائه الذاتي (2). 


في تقليد أول أنتجه الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (John Locke) (1632- 1704)، يظهر واضحا أنه يعني قضية معيارية، لأن صوغه كان سلبيا. وإذا كان المراد من ذلك الدفاع عن مفهوم ما للطبيعة البشرية، فذلك بتأكيد ما ليست هي عليه -أي ما تتميز منه- أكثر من قول ما هي عليه، فقضية سيادة الفرد والفردية الأخلاقية والسياسية التي قامت عليها هي ردات فعل قبل كل شيء، وتمرد ضد كل تبعية أو قسرية للفرد أكثر من كونها قضية إيجابية. ولقياس الرهانات كلها علينا فهم ذلك بطريقة معيارية وليس بطريقة توصيفية، وهذه هي نقطة الانطلاق لكل إعادة تقييم لليبرالية اليوم. وهكذا يصبح معنى صيغة الطبيعة "ما قبل الاجتماعية" (presocial) للفرد كما دافع عنها لوك، والتي طالما أسيء فهمها، أكثر وضوحا. ليس علينا فهم ما قبل الاجتماعية بالمعنى التوصيفي، الزمني أو التاريخي، فهذا سيكون عبثيا، لأن كل إنسان في حاجة إلى محيط كي يتطور فيه، كما لا تنكر الليبرالية في أي حال وجود هذه الشروط، بل يجب -بعكس ذلك- إعطاؤها معنى معياريا: الحديث عن طبيعة ما قبل اجتماعية هي طريقة سلبية لتأكيد الاستقلال الجزئي قانونيا في الأقل للإنسان تجاه الجماعة والشروط الاجتماعية والتاريخية بدلا من أن يكون مجرد متقبل سلبي.


لكن هذه الفرضية السياسية بالعمق الليبرالية هي التي عبر عنها لوك في الوقت ذاته بطريقة إيجابية بصفتها توصيفا للطبيعة البشرية، ما أدخل التباسا خطرا، لأنه يرجع ذلك إلى حالة الطبيعة، الحالة الطبيعية للبشر: "يجب الأخذ في عين الاعتبار، في أي حالة، أن البشر كافة هم في شكل طبيعي (...) في (3) حالة من الحرية الكاملة (....) والمساواة". إلا إذا التقطنا سلبا هذه الطبيعة البشرية ورأينا فيها مشروعا أو مثالا، حينئذ نجازف بمعارضة المعنى التاريخي لهذه الفرضية. من المؤكد أن البشر ليسوا أحرارا أو متساوين، لكن عليهم أن يصبحوا كذلك حين يتحررون من الطغيان. هذا التفسير المعكوس ساعدته بلا شك مصادر الفكر الليبرالي عبر مذهب الطبيعة عند هوبز (Hobbes)، الذي يدعي في الواقع وصف الطبيعة البشرية بحسب مشاهدتها، طبيعية (naturalisme) كان لوك من المعارضين لها. إن مفهوم مذهب الطبيعة، مثله مثل مفهوم الفرد في حاجة إذا إلى إيضاحات، وهذه بذاتها تفسيرات سياسية وفلسفية متعارضة، وقد سببت توترات داخلية وليبرالية ذاتها. إن تاريخ تفسير سائد لفرضية سيادة الفرد في الليبرالية الحديثة وبروزه، يمكنه وحده أن يخلق إمكان تعبير ذي معنى واحد، لذا يظهر لنا أن الحفاظ على الضغوطات الداخلية لليبرالية وتصويب نواتها المركزية في الوقت ذاته هو تمرين معقد.


هناك تمييز ثان، لعله أقل أهمية في الوهلة الأولى، ولكنه ضروري. إنه تمييز الإدراك النظري من الإدراك العلمي.


الليبرالية هي مؤسسة للإدراك البشري، بمعنى أنها نتاج لمفكرين كان طموحهم اقتراح تفسير عام للوضع البشري، للمجتمع، للمؤسسات السياسية وللتاريخ. ولكننا نخطئ حين نستمع إلى "فلسفة" الليبرالية بالمعنى التقليدي بتفسير الوضع البشري في شكل منهجي نسبيا على الصعيد النظري. لقد تحرر مفكرو الليبرالية من النظرية بوصفها معرفة تأميلة واعتبروا الفلسفة تبعا لديكارات (descartes)، دليل عمل من أجل تغيير العالم، و"لجعلنا أسيادا ومالكين للطبيعة". هؤلاء المفكرون أرادوا أن يكونوا مشاهدين، ولكن أيضا فاعلين في عالم مضطرب. من هناك كان ضروريا تمييز كانط (kant) الإدراك (4) النظري الصافي، الذي هو المعرفة الصافية والعلمية، من الإدراك العملي الصافي، الذي يطاول الأخلاق، الحقوق والسياسة. بالنسبة إلى الليبراليين، إذا حولنا سيادة الفرد إلى معرفة نظرية، كما في حالة ميتافيزيقيات الطبيعة أو في انتقاداتهم، فإننا نجعل منها "شيئا"، بالتالي نأخذ موقفا ضد سيادة الفرد "عمليا"، بوصفها تمردا وحقا أساسيّاً للبشر مهما كانوا متمردين على السلطة الظالمة. و"اللامادية" للكائن البشري هي بعكس ذلك، أحد شروط الحرية عند الليبراليين. ونتيجة ذلك، يصبح النقاش الفلسفي عن الفردانية، بصفتها مفهوما نظريا وعلميا، توصيفيا ومعياريًّا، نقاشًا سياسيًّا بحد ذاته داخل الليبرالية، كما شهد عليه تاريخها (5).


(1)- ص:40

(2)- ص:41

(3)- ص:42

(4)- ص:43

(5)- ص:44

نص مقتبس من كتاب ما الليبرالية، الأخلاق، السياسة، المجتمع، كاترين أودار، ترجمة سناء الصاروط. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، يونيو 2020.





تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة