U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

عبد الله بن بيه يكتب: مشكلة الحداثيين والإسلاميين

 



بقلم: عبد الله بن بيه


إنها وضع فكري يسيطر على نفوس الأمة وعقولها، ويطبع سلوكها، ويٌعطل مسيرتها، ويكبل خطاها، ويصرف طاقتها في قنوات العدم الذي لا يُنتج إلا عدمًا؛ لقيام التمانع السلبي بين دعويين:


أولهما، حداثية تبحث عن منتج مقلد، ومفهوم هلامي تبريري، تجعل منه مقدمة ضرورية، ومعبرًا وممرًا إجباريًا لكل عمل نهضوي، فحكمت بالتوقف ما لم يُلبَّ شرطُها ويتقدَّم رهطُها.


والثانية؛ دعوى دينية لا تسمح للواقع بالإسهام في مسيرة التطوير وسيرورة التغيير ما لم تنخله بغربالها، وتكسوه بجلبابها، ويستجيب لطلابها، تتجاهل الواقع وتعيش في القواقع، حمل بعض منتحليها فقهًا وليسوا بفقهاء، فحكموا بالجزئي على الكلي، وتعاملوا مع النصوص بلا أصول، فأمروا ونهروا وهدموا وما بَنَوا.


تراكم تاريخي عمره قرون أسهم فيه الاستعمار الغربي (1) للبلاد الإسلامية، فاستولى على الزمان والمكان والإنسان، بمعنى أنه استولى على التاريخ وأصبح غيرهم "التغربيين" خارج الزمن ثقافة وفكراً وإبداعاً.


مما جعل الشريعة خارج المجال اليومي للحياة أي خارج الممارسة في الواقع في أغلب الاقطار، الأمر الذي حرم الأمة من أن تقوم بجهد ذاتي، بأيد راشدة وعليمة في تطوير موروثها بناء على تجارب الحياة وإكراهاتها، فانزوى الفقه عمليا إلى مجال الأحوال الشخصية، وانبرى للإجابة في غمرة الأحداث - ربما بحسن نية وسلامة طوية- ثلة تظن أنها بقفزة يمكن أن تغير الإنسان وتعيد عقارب ساعة الزمان.


إلا أن لدى بعض هؤلاء خللا ناشئاً عن قصور في التأصيل، وضمور في الفقه، وعدم التزام بالمنهجية وعدم فهم للواقع، ظاهرية في التفسير وجهل بالحِكم والتعليل، وتجاهل للواقع عند التنزيل؛ فقدموا فتاوى تتضمن فروعا بلا قواعد وجزئيات بلا مقاصد، تجانب المصالح وتجلب المفاسد، مما أوجد حالة من الفوضى الفكرية تطورت إلى نزاعات وخصومات كلامية سرعان ما استحالة إلى (2) حروب حقيقية بالذخيرة الحية فسفكت الدماء المعصومة واستبيحت الحرمات المصونة في مشهد غابت فيه الحكمة وانتزعت - من قلوب الأطراف المنخرطة فيه- الرحمة فأردنا الإهابة بالجميع لتحكيم العقل والشرع، إن مسألة السلطان أو الحاكم ستظل حاضرة في هذا الكتاب؛ وذلك فيما يتعلق بتغيير المنكر وفيما يتعلق بوجوب الطاعة وفي مسألة الخروج على الحاكم أو في قضية الحكم بالشريعة، وغير ذلك من القضايا الدينية. والسبب في ذلك أن فريقا من الفاعلين في الثورات ودعاة تغيير الأنظمة يرفعون شعار الشريعة ويعلنون عنوان الإسلام، فتعين بيان الحكم الشرعي - لهؤلاء ولغيرهم- بالدليل لتبين موافقة الشعار للشرع أو مخالفته له، طبقا للمنهج الصحيح في الاستدلال، مما يمليه اعتبار المصلحة والمآل. فالإشكال هو الاشتباه الماثل في الأذهان بين نتائج القيم الغربية الديمقراطية وبين مقتضيات قيم الشريعة، فإذا كانت الأولى تجعل من المغالبة اصلا ومن الصراع وسيلة طبقا للمفهوم الهيغلي - التدمير للتعمير- detruire pour reconstruire (وهيغل كما يقول عنه ريكور هو مفكر الدولة الحديثة الآتية بعد (3) الثورة الفرنسية) بغض النظر عن طبيعة الوسائل سواء جانبت المصالح أو جلبت المفاسد، فإن مقتضيات القيم الإسلامية تفضيل المصالحة على المكافحة، وترشيح الوسائل التي تتلاءم مع المصالح، وتحافظ على الأنفس والأموال والابتعاد عن الحروب الأهلية. فإلباس القيم الغربية ملابس التقوى فيه تناقض مع صميم الدعوة التي يدعو لها هذا الفريق، ونحن هنا لسنا في وارد التفاضل بين هؤلاء والفريق الثاني الذي يعترف  بأن مبدأ الصراع لا ينتمي إلى أسس دينية، فدعوتنا للفريق الأول أن يصحح وسائله ليحقق دعواه، وللثاني أن يراجع دعواه ووسائله.


وحيث إن ذلك ليس متاحا إلا من خلال معالجة مشكلة القصور الثلاثي الأبعاد:

1- قصور في إدراك الواقع.

2- قصور في فهم تاثير كلي الواقع في الأحكام الشرعية في الجملة.

3- قصور في التعامل مع منهجية استنباط الأحكام بناء على العلاقة بين النصوص والمقاصد وبين الواقع.


فالقصور الأول يحتاج إلى بيان، والثاني يفتقر إلى برهان،(4) والثالث يدعو إلى عنوان.


إنها مشكلة الفقه "فرب حامل فقه غير فقيه"، والقصور المذكور هو نوع من الجهل بالمطلوب.


وقد يكون من المناسب إماطة الحجاب عن المفردات المستعملة آنفا:

1- الجهل له معنيان؛ ونحن هنا نستعمله فيهما:

المعنى الأول هو: تصور الشيء على خلاف حقيقته، فهو في هذه الحالة عرض له وجود وإن كان زائفا. والثاني هو: الخلو عن العلم بالمطلوب، وهو حينئذ عدم تصوره أصلا. فالأول وجود، والثاني عدم.

2- الواقع هو الوجود الخارجي الحقيقي الذي يمكن أن يكون محققا للوجودات الأخرى الذهنية واللسانية والمكتوبة، وهو منفك عنهن لعدم التلازم بينه وبينهن، إما لعدم وجوده أو لخطأ في تصوره.

3- أما تأثير الواقع في الأحكام الشرعية فمعناه أن الواقع له أثر في الحكم على الأشياء، فهو شريك في استنباط الحكم، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد.

4- أما العنوان فهو المقاربة المنهجية؛ أي الطرق والآليات التي يستعلمها الفقيه لاستنباط الاحكام والاستنباط هو: استخراج حكم في محل خفاء من دليل، سواء تعلق الأمر بدلالة الدليل، أو معقول الدليل، أو تنزيل الدليل من خلال تحقيق المناط. (5).


(1)- ص:17

(2)- ص:18

(3)- ص:19

(4)- ص:20

(5)- ص:21

تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، للشيخ عبد الله بن بيه، مركز الموطأ، الطبعة الرابعة، 2018.



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة