U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

عبد الفتاح كيليطو يكنب: الشجرة التي وسط الجنة

 



بقلم: عبد الفتاح كيليطو


"لنشكر الآلهة التي لا تبقى أحدا على قيد الحياة ورغما عن إرادته" سينيك


جِلجامِش، الرجل العظيم الذي لم يكن يريد أن يموت: هذا هو العنوان الذي اختاره جان بوطيرو لترجمته الفرنسية للملحمة السومرية. فبعد موت رفيقه إينكيدو، وجد جلجامش نفسه بغتة يواجه الطبيعة الحتمية لفنائه الشخصي: 


"ألن يدركني إذا مت، مصير إينكيدو؟

سكن  الأسى فؤادي،

انتابني هلع الموت حتى همت في البراري".


ينسلخ جلجامش، يائسا، من ثيابه الملكية، ويكسو جسمه بجلد الوحوش ويهيم في الصحاري والبراري. تشبه الحياة المتوحشة التي أقبل عليها حياة إينكيدو قبل أن يناله التحضر. ثمة فارق مع ذلك، وهو أن جلجامش يستبسل في قتل الحيوانات المتوحشة، وهذا ما لم يكن يفعله إينكيدو الذي عاش في تواؤم معها. لا تحلو أعمال القتل عند جلجامش من نظير لها عند الملك شهريار (1)


وعلى النهج نفسه، فإن تخلي جلجامش عن الملك - سيكون مؤقتا، ينبغي أن نسجل ذلك - له مثيل في افتتاحية ألف ليلة وليلة. نتذكر أن شهريار، بعد أن عاين خيانة زوجته، قال لأخيه الذي عاش تجربة مماثلة: "قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا، وليس لنا حاجة بالملك حتى ننظر هل جرى  لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خيرا من حياتنا". أقبل على حياة التطواف والتيهان، عازما أن يسيح "في حب الله". أمنية غير متوقعة في الواقع من شخص سيصير سفاحا فيما بعد...


إذا كان جلجامش يخشى الموت، فإن شهريار يتوق بالأحرى إلى الاندثار. "يكون الموت خيرا من حياتنا". تنتهي سياحته، رغم ذلك، حين يتبين أن البلاء الذي أصابه أبعد من أن يكون بلا مثيل وأنه واسع الانتشار. كما نرى، يدرك جلجامش وشهريار وبمرارة أنهما ليسا كائنين استثنائيين: يدرك الأول أن الموت هو النصيب المشترك بين البشر، والثاني أن عدم إخلاص المرأة لا يستثني أحدا من الإنس أو من الجن.



نجد في حكاية بلوقيا، واحدة من أكثر حكايات الليالي فتنة، صدى لـملحمة جلجامش، يتعلق الأمر بالبحث عن الخلود، من دون أن نعلم بالتدقيق عبر أي مسار جرى الانتقال.


في مطلع الملحمة السومرية حديث عن صندوق من البرونز يتضمن ألواحا كتبت عليها قصة البطل، إنها، كما يلاحظ ألبرتو مانغيل، المرة الأولى (2) في تاريخ الأدب التي استخدم فيها أسلوب الكتاب داخل الكتاب. تظهر الصيغة ذاتها في حكاية بلوقيا الذي لما تولى العرش بعد وفاة والده، وجد في خزائنه صندوقا من الأبنوس: "فتحه فوجد فيه صندوقا آخر من الذهب، ففتحه فرأى فيه كتابا، ففتح الكتاب وقرأه فرأى فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث في آخر الزمان وهو سيد الأولين والآخرين. فلما قرأ بلوقيا هذا الكتاب وعرف صفات سيدنا محمد، تعلق قلبه بحبه". يرحل بعض شخوص الليالي من أجل الكسب أو بحثا عن امرأة سمعوا عنها أو رأوا صورة مرسومة لها، أما بلوقيا فينفعل بما قرأ وتتملكه الرغبة في أن يسيح في البلاد بغية الاجتماع بمحمد. وكعلامة موحية، يغير لباسه كما فعل جلجامش، غير أن هدف البحث يتغير: السعي إلى الخلود بالنسبة لجلجامش، السعي إلى حب الله بالنسبة لشهريار، السعي إلى محمد بالنسبة لبلوقيا.


في البداية لا تخطر فكرة الخلود ببال بلوقيا، فلا تبرز إلا حينما يتعرف في بيت المقدس على عفان، "رجل تمكن من جميع العلوم"، صفة ميزت أيضا جلجامش في الأطر الأولى من الملحمة، كما تظهر، لنشر إلى ذلك بسرعة، في مفتتح فاوست لغوته، فاوست الذي أنعم عليه مفيستوفليس بشباب جديد. في المحكيات الثلاثة التي نحن بصدد الحديث عنها، نرى أن البطل له مرافق، إينكيدو مع جلجامش، شاه زمان مع شهريار، عفان مع بلوقيا. ثلاثتهم عند مباشرة السفر يبتعدون عن قصورهم ويصيرون ملوكا هائمين. بالتخلي عن الفضاء البشري الحضري والمغلق، يندمجون في فضاء مفتوح متوحش وغير إنساني، فضاء الحيوانات والمسوخ والكائنات الخارقة، ملائكة، جن، آلهة. يغادر العديد من شخوص الليالي فضاءهم المألوف ويقصدون فضاء غريبا، متنقلين من الإقامة إلى الترحل، لكن ما يميز أبطالنا الثلاثة هو التنازل عن قب الملك. حدث التغير المفاجئ، كما نعلم، عقب بلاء: مصيبة شهريار معروفة (3) لكنه بخلاف الاثنين الآخرين لم ينشغل بمسألة الخلود، هو الذي، لبرهة وجيزة، تصور الموت كنهاية لعذابه. أما جلجامش وبلوقيا، فيسعيان إلى تجنب المصير المقدر للجميع بعد فقدان كائن عزيز، إينكيدو في حالة جلجامش، الأب في حالة بلوقيا.


يقود البحث جلجامش إلى أوتنابشتيم "نوح السومري" كما وصفه البعض، الكائن الإنساني الوحيد الذي أنعمت عليه الآلهة بالخلود لتكافئه على صنعه للسفينة إنقاذه البشرية من الطوفان. يتأثر أوتنابشتيم بتوسلات جلجامش، فيمنجه نبتة الفتوة التي تسمح للشيوخ باسترجاع شبابهم. في طريق عودته، ينزل إلى بركة ليغتسل ويترك النبتة عند الحافة، فتأتي حية في تلك اللحظة وتأكل العشبة الثمينة، بعد قليل، يتجدد جلد الدابة...بطريقة مواربة، عبر أسطورة تعليلية لافتة (mythe etiologique)، تبين ملحمة جلجامش سبب انسلاخ جلد الحية.


من المعروف أن للحية وضعا معتبرا في سفر التكوين، ارتباطا بمسألة الخلود. بغض النظر عن شجرة معرفة الخير والشر، توجد في جنة عدن شجرة الحياة، "الشجرة التي في وسط الجنة". بعد تذوقه من شجرة المعرفة، ألن يطمح الإنسان إلى الخلود؟ هذا ما يسبب عدم ارتياح الرب الإله: "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد" (سفر التكوين:3، 22).


نعثر على هذه الترسيمة في حكاية بلوقيا التي يتجلى فيها، إضافة إلى المعرفة والخلود، بعد ثالث، السلطة المجسدة في ختتم سليمان. فعفان الذي تمكن من جميع العلوم (بعبارة أخرى، اكل من شجرة المعرفة) جعل الخاتم نصب عينيه. ومن بعض الجوانب يذكر بالفارسي برهام في حكاية حسن البصري، والمغربي في حكاية جودر، والساحر الإفريقي في حكاية علاء الدين. يتعلق الأمر هذه المرة باختلاس الخاتم، ولبلوغ ذلك ينبغي الوصول إلى الكهف حيث يوجد (4) جثمان سليمان. "كان الخاتم في أصبعه ولايقدر أحد من الإنس ولا من الجن أن يأخذ ذلك الخاتم، ولا يقدر أحد من أصحاب المراكب أن يروح بمركبه إلى ذلك المكان". مر السندباد، كما نتذكر، بهذه التجربة المرة، هو الذي تحطم مركبه على أطراف الأرض المحظورة. لم يخطط للاقتراب منها، إنها العاصفة التي جعلته ينحرف عن طريقه، بينما خطط عفان بشكل متعمد للاستحواذ على الخاتم.


بفضل ملكة الحيات، يهيم رفقة بلوقيا في الجبال التي تتكلم فيها النباتات ويعثر على العشبة التي تسمح عصارتها بالمشي فوق الماء دون الإصابة بالبلل "كل عشب جُزنا عليه ينطق ويخبر بمنفعته بقدرة الله تعالى". تنطق الأعشاب، ووحدها ملكة الحيات قادرة على استثارة حديثها. عمل باهر لم يوهب لسليمان الذي كان بالتأكيد على علم بلغة الحيوانات، لكن لم يذكر بتاتا أنه على معرفة بكلام النبات. لو كان الإنسان، كما توحي بذلك الحكاية، مطلعا على لغة الأعشاب وعلى فضائلها، لاستطاع أن يمشي فوق الماء، بل لصار خالدا. هكذا تكشف الملكة للمسافرين أنها، وقد أوليا كل اهتمامهما لسماع صوت النبتة التي تحول السير فوق الماء، ظَلَّا أصمين عن سماع عشبة الفتوة.


في خاتمة ترحال بحري طويل يبلغان أخيرا كهف سليمان، وما أن يحاول عفان وضع يده على الخاتم حتى يبرز تنين ويحوله إلى رماد. كان بلوقيا مكلفا بتلاوة وتعاويذ وعبارات سحرية بقصد صد دفقات اللهب التي يقذف بها التنين، لكن عفان يحترق فيغمى على بلوقيا من هول الأمر وشدة الهلع. في قصص الأنبياء للثعالبي يزوغ تنبه بلوقيا أثناء قراءة تعاويذه بظهور مفاجئ للملاك جبريل، فيقطع تلاوته، مما يتسبب في وقع الكارثة. أما في ترجمة ماردروس فنقرأ أن بلوقيا "وبفعل شدة انفعاله، نطق بالأقوال السحرية بشكل منحرف، وكان هذا الخطأ مميتا لعفان". تخبط لسان بلوقيا وتعّر، فأدى (5) ذلك إلى موت رفيقه وإخفاق المسعى.


يوقظ جبريل بلوقيا من غشيته ثم يستفسره عن سبب تواجده بذلك المكان. يحكي له بلوقيا قصته ويلتمس منه أن يدله على مكان محمد، فيقول له جبريل: "يا بلوقيا، اذهب إلى حال سبيلك فإن زمان محمد بعيد". قول لا يخلو من غموض ولبس، لأن هناك أكثر من صيغة للنطق به، ومعناه يتوقف على نبرة التلفظ به. أهي نبرة أبوية؟ نبرة جافة، غاضبة، مهددة، مشفقة، مجاملة؟ نبرة هازئة، أيكون جبريل يتهكم على بلوقيا؟ أيا تكن النبرة، فإن الرسالة واضحة بخصوص نقطة واحدة: بطلنا غير الحائز على الخلود لن يرى محمدا.



في الدعاء الذي توجه به إلى الله، لم يطلب سليمان الخلود، وإنما السلطة: "وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" سورة ص:53. يتمتع بسلطان بلا حدود، وعلاوة على ذلك يود أن يكون فريدا ليس في حياته فحسب،  وإنما أيضا بعد مماته. يموت بينما الجن "يمعلون له ما يشاء" سبأ:31، لم يعلموا بموته إلا عندما قرضت دابة الأرض العصا التي تسند جثمانه، كان يبدو لهم، وهو ميت، حيا.


ميت حي. تصف الليالي سليمان "نائما" داخل المغارة التي يوجد فيها. كيف لا يذهب تفكيرنا، في هذا الصدد، إلى أصحاب الكهف؟ من جانبه يدقق الثعالي أكثر فيصوره "كالنائم وليس بنائم، وهو ميت"، مضيفا أن له على سريره الفخم هيئة  "ِشاب". إذا لم يكن على وجه التدقيق حيا، فهو ليس عرضة للفساد، وينعم في نومه بشباب دائم، كما لو أنه، بصورة ما، قد أكل عشبة الفتوة.

 

عاد بلقويا إلى بيته في طرفة عين، وذلك بفضل الخضر ذائع الصيت، نظير أوتنابشتيم في ملحمة جلجامش. ينبغي القول إن الخضر نال الخلود دون أن (6) يسعى إليه حقيقة. (لنذكر في هذا السياق أنه ليس الإنسان الوحيد الذي تمتع بذلك، هذا هو حال النبي إدريس أيضا الذي رفض أن يخرج من الجنة بعد أن دخل إليها مصطنعا حيلة). كان الخضر قائدا في جيش الإسكندر ذي القرنين خلال حملة هذا الأخير بحثا عن عين الحياة التي تسمى كذلك عين الخلد. ولأن الإسكندر تمنى أن يصير خالدا، حدثه خليله الملاك روفائيل عن عين توجد بأرض الظلمة. كان الخضر في مقدمة الحملة فاكتشف العين بالصدفة ومن غير قصد فشرب من مائها، بينما لم ينجح الإسكندر في العثور عليها وسط الظلمات. هكذا اغتصب الخضر امتيازا كان ينبغي أن يؤول إلى ذي القرنين، مثلما الحية التي، في الملحمة السومرية، اختلست عشبة الفتوة التي كانت في حوزة جلجامش.


يشير الثعالي أن الإسكندر، قبل أن يبدأ حملته، استشار العلماء فاعترضوا على مخططه ولفتوا انتباهه بوضوح وحزم إلى أن ذلك لن ينجم عنه إلا بلبلة وفساد في الأرض... الرغبة والخشية من الخلود. من أجل العودة إلى وطنه وزوجته، رفض أوديسيوس عرض الحورية كاليبسو التي وعدته "إن هو مكث قربها، أن تجعله خالدا وتجنبه الشيخوخة والموت إلى الأبد". هكذا يصفه بورخيس في قصة الخالد: "يمل بطلها من العيش الأبدي الذي منحته إياه عين الحياة، فيتوق إلى التخلص منه، لكن ليس هناك من إله يتوجه بدعاء بهذا القصد. أمله الوحيد يكمن في البرهنة التالية: "من بين نتائج المذهب القائل بأن ليس هنالك شيء لا يعوضه شيء آخر ثمة نتيجة قليلة الأهمية نظريا (...) وهي في كلمات: إذا كان ثمة نهر تمنح مياهه الخلود، فهنال أيضا نهر في مكان ما تمحو مياهه الخلود". بوالفعل، سيتوصل في النهاية إلى العثور على عين الموت والنهل منها (7).


يقدم الثعالبي لهذه المسألة إجابة غير منتظرة، وقد تبدو بعد التفكير مثيرة للغاية. قال الملاك روفائيل لذي القرنين إن من يشرب من عين الحياة "لايمون أبدا حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت". بعبارة أخرى، الخلود أمر قابل للإبطال، يتوقف أمده على إرادة من ناله، يمكن أن يضع له حدا حينما يرغب في ذلك. ها هو قد وهب سلطة مضاعفة: فهو من جهة خالد، ومن جهة أخرى يمكنه أن يعود فانيا. في إمكانه وحده، إذا أحب، أن يعين ساعة موته؛ يبدو الموت في هذه الحالة كشكل من الانتحار بالنظر إلى أن الخالد وبمجرد دعاء بسيط يضع حدا لأيام حياته. أفي الأمر زهد ورع؟ تذلل فائق الحد؟ أم تجاسر؟.

(1)- ص:49

(2)- ص:50

(3)- ص:51

(4)- ص:52

(5)- ص:53

(6)- ص:54

(7)- ص:55

من نبحث عنه بعيدا، يقطن بقربنا، عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال، الطبعة الأولى، 2019.






تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة