بقلم: طه عبد الرحمن
اعلم أن الذي يمثل الصيغة السدومية ما بعد الدهرانية هو الكاتب الفرنسي"الفونس فرانسوا المركيز دي ساد" الذي توفي في مطلع القرl التاسع عشر، ولا يهمنا هنا "ساد" البائد الذي قبع في السجنون ما (1) يقارب نصف عمره تحت أنظمة ثلاثة سياسية مختلفة، وإنما "ساد العائد"، أي "ساد" الذي تجد فيه "ما بعد الدهرانية" مبشرا بها ومنظرا لها قبل وقتها، وقال بعضهم في حقه: "ساد معاصرنا الرهيب"، وجعل أحد مشاهيرها لكتابه عنه عنوانا هو: "ساد قريبي"، فلننظر كيف يتعدى "الإنسان المارد" الحدود؟ وكيف يفضي هذا التعدي إلى كشف سوءاته؟ ولنبدأ بالجواب عن السؤال الأول، مبرزين الخصائص التي تمير تعدي الإنسان المادر للحدود عن سابقيه: تعدي "الإنسان الفائق" و"الإنسان السيد".
1- تعدي الإنسان المارد للحدود؛ إذا كان تعدي الحدود هو الأصل في وجود الإنسان الشارد، بحيث لا شارد بغير تعد، فإن منحى المارد في هذا التعدي غيره في أي شارد آخر، ذلك أن مدخله إليه هو، بالأساس، التعدي الجنسي الصريح، بحيث تتفرع عليه كل أشكال التعدي الأخرى؛ لذا، يصح أن نقول إن رؤية المارد للعالم هي رؤية جنسية شاملة؛ فكل حد تقاس قيمته بالآثار الجنسي الذي يخلفه تعديه؛ فإن عظم، عظمت، وإن تدنى، تدنت.
وليس هذا فحسب، بل إن المارد لا يقنع بالتعدي الجنسي العادي الذي يظل في حدود الخيانة أو الغفلة أو الجهالة، والذي يغلب فيه استعمال لفظ "الزنا"، وإنما لا يرضي غُلمته إلا التعدي المنظم لأعظم المحرمات، وهما اثنان يؤسسان لانعزالية جذرية حددها "ساد" بقوله: (2)
"المخلوقات تولد معزولة ودون أن يحتاج كليا بعضها إلى بعض".
أما المحرم الأول منهما، فإن تعديه ينزل منزلة المعتقد الأول، ويفضي إلى عقم الفعل الجنسي ونهاية الإنجاب والقضاء على الفرق بين الذكر والأنثى، وهو "السدومية"؛ فقد مارسها "ساد"، وظل يمارسها إلى آخر أيام حياته وقد بلغ السبعين من عمره، ووضع كتابا فيها بعنوان: مائة وعشرون يوما من السدومية؛ وأما المحرم الثاني، فإن تعديه ينزل عند "ساد" منزلة الأمر القطعي، وهو يفضي إلى اختلاط الأجيال ونهاية الأنساب، وهو "زنا المحارم"؛ فلا يستحق الواحد أن يكون ماردا، حتى لا يأبه بعلاقات النسب، ولا، بالأولى، بنظامها الأسروي المعهود.
أ- تعدي لإنسان المارد محو للحدود؛ لا يكفي المارد بانتهاك الحدود، بل يطلب أن يهدم كل حد انتهكه هدما لا يُبقي له أثرا، أي أن يمحو وجوده بالمرة، حتى كأنه لم يكن موجودا؛ ولا يقتصر هذا المحو على حدود بعينها، وإنما يعمها جميعا، دينية كانت أو مجتمعية أو سياسية أو قانونية، ذلك، كما يقول:
"إن الطبيعة لا ترحم علينا شيئا، بيد أن القوانين وحدها سمحت لنفسها بأن تفرض بعض الحدود على الشعب (...) لكن لا شيء مقدس في هذه الكوابح الشعبية، لا شيء مشروع فيها في نظر الفلسفة التي تتولى تبديد كل الأخطاء، ولا تترك في الإنسان الحكم إلا إلهامات الطبيعة وحدها؛ إنها لا تفرض أبدا أي كوابح، ولا تملي علينا أبدا قوانين".
ب- تعدي الإنسان المارد تحد للآخر؛ إن التحدي الذي يأتيه المارد ليس مجرد تصد للحد، وإلا كان مرادفا للتعدي، وإنما هو تصد للحد (3) بمحضر شخص مخصوص يشهد حصول هذا التصدي، ويشهد عليه؛ وهكذا، يكون التحدي الذي يختص به تعدي المارد عبارة عن التصدي للحد الذي يتخذ صورة انتهاك مكشوف يتأثر به الآخر، وقد يكون هذا الآخر الشاهد واضع الحد نفسه أو يكون المؤتمن على حفظه، وإلا فلا أقل أن يكون لهذا الانتهاك أثر فيه؛ وهنا يجدر التنبيه على أن "ساد"، لما جعل من نفسه عدوا للإله، نازلا رتبة "إبليس"، فقد رام أن يكون هذا الشاهد هو الإله نفسه، فكأنه يكرر مقالة إبليس: "أنظر كيف أني أتعدى حدك"؛ وليس في هذا ما يناقض إلحاده، لأن إلحاده ليس عدم اكتراث بالأولوهية، وإنما دوام محاربتها، هذا فضلا عن أن معتقد التجسيد ظل يعمل عمله في اللاشعور، حتى لا شعور أولئك الذين نبذوه مثل الإنسان المارد؛ ومعلوم أن هذا المعتقد يجعل الألوهية غير منفكة عن الإنسانية فتُذكر عند ذكرها، فيتعين على الملحد دفعها.
ج- تعدي الإنسان المارد قلب لمبدأ الشرعة؛ إن المارد ليذهب إلى أبعد من محو الحدود؛ ذل أن هذا المحو، ولو أنه عم الحدود جميعها، فغنه يبقي على مبإ الشرعة أو قل "مبدأ القانون" الذي تفرعت عليه؛ والفرق بين الحدود ومبدإ الشرعة هو أن الحدود تضعها جزئيات الأحكام التي هي عبارة عن اخلاق مقررة، في حين أن مبدإ الشرعة هو المبدأ العام الثاب الذي يرفع الكائن البشري إلى رتبة الإنسان الذي ستحق أن يتحمل الأمانة؛ وبهذا، لا يلزم من حذف هذا الحد أو ذاك، حذف مبدإ الشرعة؛ والمارد لا يهدأ له بال؛ حتى يأتي على هذا المبدأ نفسه الذي تتحق به قابلية الإنسان للائتمان؛ لذلك تراه، يبذل قصارى جهده في أن يسحب هذا المبدأ من غيره، ويستبد به لنفسه، واضعا شرعة من عنده تقلب الشرعة المقررة، دينية كانت أو (4) دهرية، رأسا على عقب، فتتحد معها ذاته، فهو الشرعة بيعنها وليس سواها.
وقد أورد "ساد" نموذجا لهذا الاستبداد بمبدإ الشرعة في رسالة بعنوان: "أيها الفرنسيون، لتبذلوا مزيدا من الجهد أن تكونوا جمهوريين" أدرجها في قصته الشهيرة: الفلسفة في خلوة النساء؛ فقد جعل الجمهورية تتأسس على قلب جذري للشرعة التي تحكم المجتمعات البشرية، متمثلا في إلزامية السدومية وزنا المحارم والجريمة، وأيضا في الحق بالتمتع بأي امرأة دون التفرد بها، لأن هذا الحق مقدم على حق الملكية؛ ولاحق العلاقة الثقافية غير قادر على أن يمحو سابق العلاقة الطبيعية، فيصبح تعاطي البغاء هو الوضعية المشروع للنساء على مدى حياتهن، بالإضافة إلى واجب ممارسة السدومية بإطلاق.
د- تعدي الإنسان المارد إفساد؛ لا يشفي غليل الإنسان المارد أن يتحقق بأقصى الفساد الجنسي عن طريق نبذ الحدود وقلب الشرعة، بل يحرص على أن يفسد غيره، وأن يكون إفساده له على قدر فساد نفسه؛ لذلك يبادر إلى تعميم فساده على كل الفئات والأفراد في المجتمع، مندفعا فيه بقوة، حتى يتوصل إلى أن يمحو عن هذا السلوك الجنسي صبغة الشذوذ والإسراف، ويبدو وكأنه عين السواء، بل عين الصلاح، فلا يُعتَبر مخالفاً او متحدياً للشرعة.
وقد جاء "ساد" بمقال لهذا الإفساد الشامل للمجتمع في كتابه : مائة وعشرون يوما بسدوم، إذ تخيل قصر معزولا أشبه بدير حبست فيه جماعة تضم أربعة من كبار الماردين وأربع بغايا وأربعين من الفتيان والفتيات، فجمع بين أفرادها بعلاقات بلغ اختلاط المياه والأنساب والأجيال فيها أقصى مداه، متحديا كل قواعد الزواج والنسب المعهودة، حتى فرغ من إقامة هذا النظام الجنسي المقزز، دخل في تفصيل كل أشكال الانتهاك والإجرام التي يمكن أن يقترفها هؤلاء الماردون حسب طقوس محددة (5) وتحت مراقبة صارمة، بحيث يصبح جلادوهم وضحاياهم عبارة عن أشياء خاضعة لأقدارها الجنسية التي لا راد لها.
هـ- تعدي الإنسان لمارد استمتاع غير محدود؛ ليس هم الإنسان المارد الوصول، من وراء هتك الحدود، إلى مجرد الاستمتاع النسبي الذي يحصل بهذا الانتهاك، بحيث تكون قوة الاستمتاع على قدر الحد، وإلا كان كغيره ممن يقعون في هذا الانتهاك ، غفلة أو جهلا، وإنما همه الفوز بالاستمتاع المطلق الذي لا يقيده قيد ولا يحده حد، حتى إن هذا الاستمتاع يصير هو شريعته؛ لذلك، تراه لاهثا وراء هذه المتعة غير المحدودة من غير انقطاع، لأنه كلما خرق حدا، لم يجدها عنده، فينتهض إلى طلبها في خرق حد من فوقه وهكذا دواليه؛ ومثل شتى الشر والأذى؛ فقد يتخذ من جسد الآخر مجرد وسيلة طيعة بين يديه، حتى إذا قضى أربه منه، أهمله، بل ازدراه، بل قد يجد في إيلام هذا الآخر ويندفع في تعذيبه له أنه لا يسعى على الهلاك، ظانا أنه يمتعه كما يتمتع به، بل مؤكدا له أنه لا يسعى إلا في تمتيعه؛ ولا يقف المارد عند إيذاء غيره، طلبا لهذه المتعة العظمي، بل قد لا يقل أذاه لنفسه عن أذاه لغيره من أجلها، عرضا نفسه للأخطار والمهالك، حتى إنه يهب إلى لقاء الموت، مشتهيا له، بل مفتونا به، جزاء أن ينفتح له باب الإمكان اللامحدود ويظفر بلذته الكبرى؛ وما كل ذلك إلا أوهام وأفعال تجعل المارد ينزع عن نفسه وعن ضحاياه لباس الإنسانية (6).
(1)- ص:68
(2)- ص:69
(3)- ص:70
(4)- ص:71
(5)- ص:72
(6)- ص:73
شرود الدهرانية: النقد الائتماني للخروج عن الأخلاق، طه عبد الرحمن، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الأولى، بيروت، 2018.
مقالات من الكتاب:
- حقيقتان أساسيتان في كلام الحداثيين عن الأخلاق
- جورج باطاي مُنظِّر تعدي الحدود
إرسال تعليق