U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

مصطفى بوكرن يكتب: المشروع الإصلاحي للشيخ فريد الأنصاري - قراءة نقدية-

 




بقلم: مصطفى بوكرن


كتب فريد الأنصاري رؤيته الفكرية للإصلاح، وخطط لها، لتخرج كتيبات بالتدرج عبر سنوات. في سنة 2000م أصدر كتاب: «الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب:دراسة في التدافع الاجتماعي» وفي سنة 2002 م أصدر كتاب «بلاغ الرسالة القرآنية: من أجل إبصار لآيات الطريق»وفي سنة 2003م أصدر كتاب «البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي»وفي سنة 2006 م أصدر كتاب «مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية « وفي سنة 2007م أصدر كتابين «الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب: انحراف استصنامي في الفكر والممارسة»  والثاني كتاب «الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام

    هذه أهم كتبه التي تتضمن رؤيته الإصلاحية، ونلاحظ أن الأخطاء الستة آخر ما ألف وليس أول ما الف، ثم إنه أطر الكتاب بتمهيد مطول عبر كتب. لكن القارئ، احتفى بالأخطاء الستة لأنه يعشق الأخبار اللذيذة والتسريبات الممتعة!


1-   مقدمات منهجية في قراءة المشروع الإصلاحي للانصاري


     لا يمكن أن نقدم قراءة نقدية لهذا المشروع إلا ضمن هذه المحددات السبعة، لنفهم بشكل خاص رؤيته النقدية للحركة الإسلامية.

أولا: فريد ابن الراشيدية: الراشيدية "قصر السوق" سابقا، إقليم مترامي الأطراف، وهو ثالث أكبر أقاليم المغرب، ويحتضن أكبر واحات إفريقيا " واحة زيز"، وفريد رحمه الله ولد "بواحة انيف"، ومعنى الواحة:" بقعة من الأرض مزروعة بالنخيل والمحاصيل الحقلية وسط أرض صحراوية وتعتمد فى زراعتها على المياه الجوفية". ومعلوم ان سكان الوحات من خصائصهم الاجتماعية، الحفاظ على التقاليد والتراث والتدين، واحترام المجالس، والحرص على تكوين العلاقات الطيبة، وفريد الأنصاري رحمه الله نشا في هذه البيئة الجغرافية النقية الصافية حيث الطبيعة لم يطمثها قبل ذلك إنس ولا جان، ثم البيئة الثقافية االمتشبثة بقيم الجماعة الاخوة والضيافة و التعاون، وهذا ظاهر تقريبا في كل أبناء الراشيدية.

ثانيا: فريد الروائي والشاعر: هذا الرجل ابن الصحراء الشرقية، ابن الوحات، حيث الطبيعة فطرة نقية، لا يمكن أن يكون في نصوصه الأدبية إلا الجمال و الجلال، كتب أكثر من رواية:"المحجوب" و"آخر الفرسان" رواية عن بديع الزمان النورسي، و"عودة الفرسان" عن فتح الله كولن، ثم دواوين الشعر:"ديوان القصائد"، "الوعد" ،"جداول الروح (بالاشتراك مع الشاعر المغربي عبد الناصر لقاح)" ،"ديوان الإشارات"، "مشاهدات بديع الزمان النورسي"،"ديوان المقامات"،"ديوان المواجيد"،"من يحب فرنسا".

ثالثا: فريد المصطلحي الأصولي: اهتمامه بالدراسة المصطلحية، والبحث فيها ينبع من قصته مع المنهج التي حكاها في مقدمة كتابه:"أبجديات البحث في العلوم الشرعية: محاولة في التأصيل المنهجي"، هذه القصة تخلقت من خلال علاقته العلمية مع شيخه "الشاهد البوشيخي"، فقدم قراءة للتراث الاصولي من خلال منهج الدراسة المصطلحية، وتخصص في التراث الأصولي للشاطبي 790هـ، عنوان بحث رسالة الدراسات العليا:"مصطلحات أصولية في كتاب الموافقات للشاطبي" و بحث الدكتوراه:"المصطلح الاصولي عند الشاطبي"

رابعا: فريد ابن الحركة الإسلامية: يحكي فريد الأنصاري علاقته مع التدين في كتابه "جمالية الدين"، عبر مراحل، التدين السلفي، التدين السياسي، التدين الصوفي، فريد الأنصاري ابن حركة التوحيد والإصلاح المغربية، عاش أجواء الوحدة بين رابطة المستقبل الإسلامي وبين حركة التجديد والإصلاح، هذه التجربة، جعلته يستوعب مشروع "الإسلام السياسي" ويقدم رؤية نقدية له من داخله، ويطرح مشروعا بديلا للإصلاح.

خامسا: فريد الباحث عن الحقيقة في اسطنبول: تأثر فريد بتراث بديع الزمان النورسي القرآني، وفريد أحسن من تحدث عن النورسي، بأسلوب أدبي شاعري، ودفقة روحية إيمانية وهاجة، بمعنى؛ أنه لم يكن يتكلم باعتباره باحثا اكاديميا، بل باعتباره يخوض "تجربة إيمانية" قوية، ولذلك كتب شعرا عن النورسي، ورواية عنه، ثم تاثر بفتح الله غولن، ولا ابلغ من ذلك الفيديو الروحاني العجيب، الذي يتحدث فيه عن فتح الله، يتحدث كمريد عانى من الغربة في وطنه، وظل يبحث طويلا عن الحقيقة، فرحل إلى اسطنبول، فرأى الحقيقة مشروعا عمليا متجسدا في الواقع "مشروع جماعة الخدمة"، وتوفي الانصاري رحمه الله في أحد مستشفياتها.

سادسا: فريد القيادة الروحية من داخل المجالس العلمية: بعد أن غادر فريد التنظيم الحركي، حط به المقام في المجلس العلمي لمكناس، وكان عضوا في المجلس العلمي الأعلى، واشهر خطيب في مدينة مكناس، في أحد المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، خطبه يوم الجمعة، التي كان يحضر لسماعها المئات من الناس، فتسجل وتباع، ثم تنشر في اليوتيوب ليشاهدها الآلاف من الناس، من كل دول العالم، ففريد كان يعطي أهمية كبرى للاشتغال من داخل مساجد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، خطابة ووعظا وتدريسا، لأنه يؤمن بوظيفة المسجد في بعث روح الأمة.

سابعا: فريد الأستاذ الجامعي الفريد: يحكى أن أول مرة رآه الطلبة وهو في المدرج ليلقي المحاضرة العلمية، ظنوا أن الأستاذ هو طالب، ليفاجئهم بمحاضرة علمية متميزة، ويشهد كل طلبة مكناس، أن محاضراته العلمية لطلبة الدراسات الإسلامية كان يحضرها طلبة من تخصصات أخرى، ثم إن فريد لم يكن استاذا في الجامعة، بل كان رجل إصلاح من نوع فريد، كان يقدم القدوة في كل شيء، لا يقبل من احد أن يحمل حقيبته.، كان هو التواضع عينه، كان الأستاذ القريب من طلبته..

لا يمكن أن نقرأ المشروع الفكري للانصاري من دون أن نضع مشروعه ضمن هذه المحددات السبعة، وهي محدادات:"جغرافية، ثقافية، علمية، حركية، إيمانية، رسمية، مهنية"، كل هذه المحددات أثرت في إنتاجه الفكري الإصلاحي، بل إن نقده للحركة الإسلامية لا ينفصل عن هذه المحددات، وهي محددات تجمعها قيمة واحدة:"النموذج الروحي الفطري" الذي يبحث عن "التنظيم الفطري".


2- منهج تشخيص الأزمة.


     يتحدث مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، عن أن النجاح في تشخيص المرض يسهل اكتشاف العلاج. فهل شخص الأنصاري المشكلة تشيخصا سليما؟

     يمكن اعتبار كتاب: «الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب:دراسة في التدافع الاجتماعي» الذي أصدره سنة 2000م، دراسة تحليلية تشخيصية "للمرض الاجتماعي" الذي يعاني منه المجتمع المغربي. وقدم لهذه الدراسة، بمقدمات شرعية، أن الشريعة جاءت لرفع الضرر، أن الدين هدفه التدين، أن الفساد الأخلاقي موذن بخراب العمران، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلية من كليات الدين.

     ثم انتقل إلى بيان "الهجمة الفرونكفونية العلمانية التي تشيع الفجور السياسي في المجتمع" في التعليم في الأدب في الثقافة في الإعلام..، ثم انتقل إلى طرح السؤال: هل الحركة الإصلامية في قلب "حلبة الصراع" الصراع الأخلاقي القيمي أم أنها خارجه؟ وقدم إجابة أن الحركة الإسلامية وخاصة حركة التوحيد والإصلاح (لم يشر إليها) تحول العمل الإسلامي عندها إلى "سلوك احتجاجي" موسمي، وذكر على سبيل المثال خطة المرأة لإدماجه في التنمية..

     اعتبر أن الحركة الإسلامية وقعت في فخ المعارك الاحتجاجية وحشدت كل جهودها في هذا الاتجاه، ولم تتفرغ للبناء القيمي الأخلاقي الهادي، ولتحقيق هذا الهدف، اقترح الأنصاري بعض الحلول منها: بناء خطاب دعوي قوي، تخريج العلماء، إطلاق مراكز دراسات للبحث، ثم الحرص على الأمن السياسي والابتعاد عن الفتن، ثم الأمن الاقتصادي للحركة الإسلامية، حيث ينبغي أن تهتم باستثمارات مالية مهمة في مشاريع كثيرة، تعيد عليها بأرباح مهمة تؤمن مسارها الاقتصادي، وعدم التركيز على المساهمات المالية للأعضاء.

     إذن، الانصاري يقدم تشخيصا للواقع الاجتماعي المغربي، ويحدد مرضه وهو "الانهيار الأخلاقي" والذي سببه مؤسسات الفجور السياسي، والحل الذي يقترحه لمواجهة هذه المؤسسات، هو خطاب دعوي قوي وتخريج العلماء ومراكز الابحاث والتركيز على مشاريع الاستثمار المهمة، وبهذا ستصحح الحركة الإسلامية منهجها ووجهة عملها، ستنتقل من الاحتجاج غلى البناء الهادئ لقيم المجتمع من خلال الإسلام، بهذها ينتشر مشروعها في كل المغرب، وبهذا ستكون متمثلة لكليات الدين في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تدفع الضرر، وأن تجعل الدين تدينا، وتحميع المجتمع من الانهيار..بمعنى، أن المشكلة التي يعيشها المجتمع المغربي "مشكلة اخلاقية" تحتاج "لمشروع أخلاقي". لنطرح السؤال الآتي:

هل هذا التشخيص صحيح؟

     لنقد هذه الرؤية التشخيصية، سأستعين برؤية مالك بن نبي في الحديث عن تشخيص أمراض العالم الإسلامي، كما وضحها في كتابه شروط النهضة.

حينما أراد مالك بن نبي تقديم تشخيص لأمراض العالم الإسلامي طرح هذا السؤال: ما النقطة التي يقف فيها هذا العالم عام 1367هـ؟ وهذف من هذا السؤال أن يبين أمرين أساسيين:الأمر الأول: أن تاريخ العالم الإسلامي ليس هو تاريخ العالم الغربي وكل ومشاكله. الأمر الثاني: هو وضع المشكلة في سياقها التاريخي، بقراءة دقيقة للتاريخ.

     مالك بن نبي، يقدم قراءة للتاريخ، من خلال التأمل في سننه التي لا تتغير، وأول مفتاح لقراءة التاريخ هو هذا "النص التكويني التاريخي" قال تعالى:"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" أي بعد الإيمان بهذا النص، ينبغي التامل في هذا المبدأ القرآني وتأثيره في التاريخ، بالبحث في التاريخ عن "تأثير الفكرة الدينية في صنع الحضارة"، أكانت إسلامية أم مسيحية.

     يخلص ابن نبي من خلال تحليله التاريخي الإسلامي وغير الإسلامي، أن التاريخ دورات، وميلاد الحضارة في التاريخ ينطلق من الفكرة الدينية أكانت مسيحية أم إسلامية، وسمى هذه الدورة، بدورة الروح ثم دورة العقل، ثم دورة الغريزة، ليخلص بأن الفكرة الدينية مؤثرة جدا في انبعاث دورة تاريخية جديدة.

     بعد هذا التشخيص العام، انتقل إلى التشخيص الخاص، وهو تشخيص الوضع الاجتماعي، في الجزائر، وطرح السؤال الآتي: أين يقف الإنسان الجزائري الآن؟

     تحدث عن هذا "الآني" الذي هو الاستعمار، والجزائي في ذلك الوقت "رجل قلة" يقبل بالقليل القليل و"رجل نصف" نصف الحلول.

     إذن، ما يهمنا هو "منهج التشخيص" وهو منهج يقدم قراءة تاريخية، لأن ما يحدث الآن هو نتيجة لمقدمات ضاربة في التاريخ، وهذه القراءة التاريخية، تنطلق من العام إلى الخاص، تنطلق من العالم الإسلامي والإنسانية جمعاء إلى الجزائر. ليقدم علاجا تاريخيا.فهل فريد الأنصاري، قدم تحليلا تاريخيا للأزمة من منظور عام يشمل العالم الإسلامي ثم من منظور خاص يتعلق بالمغرب في سنة 1420 هـ الموافق 2000مـ؟

     فريد الأنصاري، هدفه المركزي هو نقد العمل الإسلامي، وذلك ببيان بعض قصوره، لأنه هو ابن العمل الإسلامي وأحد قادة الحركة الإسلامية، ويريد أن يقدم نقدا نظريا لهذا العمل من أجل تجاوز حصر العمل الإسلامي في "الاحتجاج السياسي".

     ولم يقدم الأنصاري تشخيصا عميقا من منظور تاريخي للعالم الإسلامي في هذا الكتاب، بل انطلق من مسلمات تشريعية، مقدمات نظرية، يقيس عليها "بمنطق فقهي" واقع العمل الإسلامي، الذي لا يجعل من الدين تدينا، و لا يدفع الضرر، ولا يأمر بالمعروف ولاينهى عن المنكر، عبر الخطاب الدعوي وعلماء كبار ومراكز دراسات، ثم التركيز على المال.

     ثم إن التشخيص المحلي للواقع المغربي، هو تشخيص لمظاهر أخلاقية يعتبرها انحرافا أخلاقيا، دون التعمق في الوضع المغربي، وخاصة في جانبه السياسي، وعلى وجه أخص "المخزن المغربي وأثره في القيم الاخلاقية" والنظر في "النظام السياسي والدولة المغربية" وعلاقته بالمجتمع المغربي، لكنه ركز فقط على المؤسسات دون التركيز على البنية الحاضنة "للفجور السياسي"، ثم كيف يمكن الحكم على أن المجتمع يعيش انهيارا أخلاقيا دون دراات سوسيولوجية عميقة للقيم في المجتمع المغربي عبر كل مناطقه!

     ولذلك، فتشخيص الأنصاري للمشكلة هو تشخيص مختزل ومتسرع يريد إثبات المشكلة الأخلاقية التي هي حقيقية وغير وهمية بأقصى سرعة، ليوجه سهام النقد للعمل الإسلامي، ويقترح البدائل لمواجهة مؤسسات الفجور السياسي.

     إن أهم ثغرة في المشروع الفكري الإصلاحي للأنصاري، هو عدم تقديمه لتشخيص عام وخاص "للمشكلة الاخلاقية" التي هي مشكلة حقيقية.فالأنصاري وقع له مثل طبيب، توقع المرض، لكن حينما نطلب منه أن يبين لنا الأسباب، لا يقدم ذلك، فيمر مباشرة إلى الحلول التي هي وسائل، لعلاج المرض، وحتما إن المرض، لن يعالج لأن التشخيص خاطئ.فليس كل من هو مريض بالزكام يشفى بنفس الدواء، أو من هو مريض بالسرطان يشرب حبة أسبرين! تشخيص الوضع التاريخي على كل المستويات في بعده العام والخاص، يمكن من تقدم علاج تاريخي وليس آنيا.

   لكن الملاحظ، أن الأنصاري بنقده للعمل الإسلامي يريد تأسيس عمل إسلامي بديل بغض النظر عن التشخيص العميق للمشكلة الحضارية. ولذلك، كتبه التي ستنشر بعد 2000، ستكون صادمة جدا، والسبب الخطأ في التشخيص.


3- الحركة الإسلامية: بنيتها ووظيفتها.


بعد هذا التشخيص يؤكد أن الأنصاري أن المواجهة، ينبغي أن تكون داخل "الحلبة التربوية"، الصراع حول من يؤثر في القيم التربوية للمجتمع، فيسيطر عليه، ولذلك ينبغي على العمل الإسلامي أن يبتعد عن ردات الفعل والإلهاء من طرف خصومه السياسي بالمعارك اللحظية. قلنا، إن هذا التشخيص هو تشخيص جزئي لا كلي، وقلنا إن العلاج هو جزئي لا كليا، لأن المجتمع ظاهرة إنسانية تاريخية معقدة ومركبة، ويحتاج إلى رؤية علاجية وفق سيرورة تاريخية معينة.

     إذن الأنصاري يرسم صورة سوداء حول الوضع القيمي والتربوي للمجتمع الذي يستهدف الخطاب الإسلامي، وسار على نفس النهج في تشخيص "الأدة الإصلاحية" الحركة و الحزب..، حيث اعتبر أن هذه التنظيمات تعيش مأزقا على مستوى التصور "الاستصنام" وعلى مستوى الممارسة "ردات الفعل".سنتحدث عن منهج الأنصاري في تشخيص أوضاع الحركة الإسلامية المغربية، وما الحل التنظيمي الذي يقترحه؟

مر نقد الأنصاري للحركة الإسلامية عبر مرحتلين:

-         المرحلة الأولى: نقد الوظيفة الإصلاحية

-          المرحلة الثانية: نقد البنية التنظيمية

     ويمكن القول أن المرحلة الأولى يجسدها كتاب "الفجور السياسي"، حيث قدم تشخيصا للواقع القيمي في المجتمع المغربي، وأوضح أن المؤسسات السياسية تعمل على تخريب القيم التربوية للمجتمع، الإعلام والثقافة والتعليم..، وخلص إلى أن "وظيفة الحركة الإسلامية" التي اختصرت وضخمت في الوظيفة الحزبية السياسية، انحرفت عن الوظيفة الأصيلة للحركة الإسلامية، وهي الوظيفة الدعوية، الدعوة إلى الإسلام، الدعوة إلى أصول هذا الدين "التوحيد والصلاة.."، والاشتغال على القضايا الدعوية الأولى، لأن المجتمع يعيش "أمية دينية حسب قوله" ويحتاج لمن يسد حاجته الإيمانية و التربوية، لا أن تنكب الحركة الإسلامية على المعارك السياسية اللحظية، وتغفل عن جوهر وظيفتها التي كانت سببا في نشأتها، وهي وظيفة البلاغ، وظيفة بيان هذا الدين للناس أجمعين.

     إذن الأنصاري في هذه المرحلة كان ينبه على أن الحركة الإسلامية تخلت عنوظيفتها، وينبهها إلى العودة إلى الوظيفة الأولى، دون أن ينتقد البنية التنظيمية، فهو يقبل بها، بشرط أن تؤسس الحركة الإسلامية مراكز البحث، وتقدم خطابا دعويا رصين عبر علماء الشريعة، وتركز المشاريع الاقتصادية القوية ..لكن في آخر كتبه "الأخطاء الستة" و"الفطرية" انتقل من نقد الوظيفة إلى نقد "النموذج التنظيمي"، بتفكيكه عبر أسلوبين:

-         الاسلوب الاول: حكائي يسرد مشاهداته "الفضائحية" التي رآها من خلال تجربته الحركة في حركة التوحيد والإصلاح

-          الاسلوب الثاني: معرفي وضع التنظيميات الحديثة في سياق نشاتها في التداول الأجنبي الغربي.

     بالنسبة لأسلوب الحكي، اختاره في كتاب "الأخطاء الستة" حيث "فضح المستور" داخل التنظيم، بأسلوب أدبي جميل، وبمضمون فضائحي، زلزل أركان حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، الشيء الذي دفع الشيخ احمد الريسوني إلى الرد عليه، ثم عقب عليه الانصاري عبر مقالات في الصحف المغربية، سلك الانصاري، أسلوب الفضح، وكشف الاختلالات التربوية والقيمية والإيمانية، لتتشكل للقارئ صورة أن حركة التوحيد والإصلاح هو مجمع من "العقارب الخضراء" ما عدا بعض الشخصيات التي أثنى عليها كالرميد والمقرئ الإدريسي أبو زيد..، بل قدم صورة صادمة عن التحول القيمي عند "بعض الأخوات" على مستوى اللباس، ثم وصف لقاءات الطلبة، كأنهم مردة من الشياطين..، كل ذلك من أجل أن يخلص إلى فكرة أساسية أن الحركة الإسلامية حركة أصبحت تعبد أصناما متعددة سماه "بالاستصنام" وتخلت عن رسالتها الأولى، رسالة التوحيد، والقيم الربانية وفضاءاتها الإيمانية وعبادتها الروحية، فأصبحت هذه الحركة مجمع "العقارب السامة".

     أما الأسلوب الثاني المعرفي، عمد الأنصاري، إلى تقديم رؤية علمية لمفهوم الفطرية من خلال القرآن والسنة، ثم انتقل إلى نقد نموذج "الحزب التنظمي"، ليخلص إلى طرح البديل. الفطرية معنى إيماني روحاني يخترق كل ممارسات الإنسان الفردية و الجماعية، وأن التجربة الإسلامية تقدم نماذج الفطرية، وخير مثال على ذلك، العبادات صلاة وصياما وحجا..وهذه العبادات هي تنظيم فطري للمجتمع لأجل بناء وجدانه وأخلاقه التربوية، ثم انتقل إلى أن النموذج "التنظيمي الحزبي" هو نموذج مستورد، من بيئة غربية تؤمن بشرعنة الصراع وتنظيمه عبر مؤسسات تنظيمية معينة منها "الحزب السياسي"، فالحزب السياسي أداة صراع ونزاع لا أداة وحدة وسلام. الأنصاري يتساءل لماذا الحركة الإسلامية، تريد إبلاغ المجتمع المغربي برسالتها عبر أداة الصراع الحزبي؟

     الانصاري، وضع يده على عمق التناقض - كما يراه هو- "الإسلام رسالة فطرية" و"النموذج الحزبي" أداة صراع، وهذان متناقضان لا يجتمعان.

     إذن، الحل هو إعادة إحياء التنظيم الفطري، حيث يصبح المجتمع المتدين يدبر علاقته عبر القيم الإيمانية دون اللجوء إلى مؤسسات تنظيمية بنيته الاساسية هي الصراع، وذلك بأن يكون لعالم الشريعة زمام القيادة، لا عبر سلوك المساطر الديمقراطية، بل عبر قيم الفطرة الروحية، حيث المجتمع يختار الاصلح دينا ومنهجا.

     بهذا الأنصاري يكون أنهى عملية النقد والتفكيك للحركة الإسلامية بنقد وظيفتها وبنيتها، ويكون ايضا أنهى تشخيصه. حيث قدم تشخيصا لواقع المجتمع المغربي، الذي يعيش انهيارا اخلاقيا، وقدم تشخيص لوظيفة وبنية الحركة الإسلامية التي تعيش استنصناما على مستوى الرؤية، وحيرة على مستوى الممارسة

     يقدم فريد الأنصاري بديله المنتظر، رسم صورة قاتمة للواقع المغربي، وللأداة الإصلاحية الحركية، ليعن أن مشروعه القرآني هو البديل الحقيقي، وكاننا امام رجل ديني ثائر رافضا للواقع المغربي والواقع الحركي، وكأنه يقدم نموذجا ثوريا ضد المؤسسات التنظيمية الحركية وضد الواقع المغربي، لأنه ما يملكه من نموذج مثال استخلصه من القرآن، هو الأصلح والاصوب، وينتظر جيل النصر الفريد. وبهذا يكون الأنصاري انتقل من المنطق الإصلاحي في التغيير إلى المنطق الثوري في التغيير، المفارق لأخلاق المجتمع ولمؤسساته التنظيمية الحزبية، لكن هذه الثورة هي ثورة سلمية إيمانية تربوية متعالية على الواقع وسائله التنظيمية.


4- مقولة من القرآن إلى العمران.


     تحدثنا فيما سبق، عن منهج تشخيص الأنصاري، للواقع المغربي، حيث أوضح أن "الفجور السياسي" أسهم في الانهيار الاخلاقي، وواقع الحركة الإسلامية، من جهة التصور حيث "تضخم العمل السياسي" ومن جهة الممارسة ارتهن لردات الفعل، ثم شرّح البنية الداخلية لأبناء الحركة الإسلامية، الذي يعيشون انهيارا في التدين و الأخلاق "العقارب الخضراء السامة" إلا بعض الاستثناءات.إذن، الأنصاري رسم صورة سوداء عن الواقع المغربي وحال الحركة الإسلامية. فما الحل للانتقال من حالة الانهيار في التدين والاخلاق والتصور والممارسة؟

     يقترح فريد الأنصاري العودة إلى القرآن الكريم، قراءة، تدبرا، تلقيا، تداولا في النفس والمجتمع لبناء العمران في الإنسان والسلطان، باعتبار القرآن رسالة وجدانية روحية من رب الأرض السماوات، لإنقاذ إنسان هذا الزمان الذي انكمشت روحه، وانهارت أخلاقه، وفسدت مسلكياته.

     وهذه العودة، هي عودة بقيادة علماء الشريعة، جمعوا بين العلم والعمل، بين الفقه والأخلاق، علماء انتصبوا لقيادة الأمة من خلال"تنظيم فطري" لا يعتمد على المساطر والقوانين واللقاءات التنظيمية الداخلية، ولا المؤتمرات لانتخابات القيادات، بل هو تنظيم عموده الفقري العبادات، من خلال الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة..، ومقره المركزي المسجد، حيث يؤمه المصلون من كل الناس، فيلتحقون بمحراب الإيمان، ويرتقون في مدارج السالكين إلى الله.

     وهؤلاء الذين سيتخرجون من "مدرسة القرآن" سينتشرون في كل مجالات الحياة التعليمية و الثقافية والاقتصادية و المالية..، فيقدمون القدوة الحسنة، والمثال الأخلاقي النبيل، فيؤثرون في الناس، ويلحقونهم بحياض القرآن والدعوة إلى الله، فيتوسع التنظيم الفطري، ويعم خيره ومعروفه على جميع الناس، لأن القرآن مادته، و العلماء الصالحون قادته، فيبنون الوجدان النفسي للفرد، ويربون الوجدان النفسي للمجتمع.

     وبهذا المنهج الذي يعتمد على مقولة "من القرآن إلى العمران"، سينقل المجتمع المغربي الذي يعيش حالة من "الفجور السياسي" إلى حالة "الفطرانية الروحية"، وستتحرر الدعوة من الإسلامية من قبضة الحركة الإسلامية التنظيمية، لتصبح في ملك المجتمع، فيشكل حركة الإسلام. كيف يمكن نقد هذه المقولة " من القرآن إلى العمران" التي تنبني عليها هذه الرؤية الإصلاحية؟

     كنت أشرت في ما سبق أننا لا يمكن أن نقرأن "المنتوج الفكري" لفريد الأنصاري إلا إذا استحضرنا، هذه المحددات السبعة:"1- جغرافية: ابن الراشدية حيث القيم الأخلاقية مشابهة لفطرة الطبيعة الصحراوية، 2-ثقافية: الأنصاري الروائي والشاعر، 3-علمية: الانصاري المتخصص في أصول الفقه ودراسة المصطلح التراثي، 4- حركية: تحولاته من السلفية إلى السياسية إلى الصوفية، 5- إيمانية: الانصاري الباحث عن الحقيقة في الواقع الاسطنبولي، 6- رسمية: الأنصاري القيادة العلمية للمجلس العلمي التابع للدولة، 7- مهنية: الانصاري الأستاذ الجامعي القدوة". فهل مقولة "من القرآن إلى العمران" حقيقة فكرية وعلمية مجردة أما انها "فكرة إيديولوجية" متأثرة بسيرة صاحبها في الواقع؟

     هذه المقولة تريد أن تقنع المتلقي بأن مشروع الأنصاري ينطلق من القرآن أولا ثم إلى بناء العمران / الواقع ثانيا. فهل الأنصاري فعلا انطلق من القرآن لبناء مشروعه العمراني؟

     إن الأنصاري لم ينطلق من القرآن، بل انطلق من الواقع، هذا الواقع الذي شخصه من خلال كتابه الفجور السياسي، دراسة حالة في التدافع الاجتماعي، حيث قدم الواقع المغربي واقعا يعيش انهيارا أخلاقيا وضعفا في التدين، واعتبر أن جهات في المغرب هي مؤسسات علمانية وفرانكفونية لها اهداف ثقافية وتربوية تريد تخريب أخلاق المجتمع المغربي، وأوضح أن الحركة الإسلامية فقدت وظيفتها التربوية وبدأت تشتغل خارج حلبة الصراع مع العلمانيين، كما أنه انطلق من الواقع السلوكي للحركة الإسلامية حيث أن ابناءها أصبحوا لا يلتزمون بالكثير من الأخلاق، وانتشر فيهم "الاستصنام".

     إذن، الأنصاري لم ينطلق من القرآن لبناء مشروعه الإصلاحي، بل انطلق من "الواقع المشخص" الذي صوره بأسلوبه الأدبي الرائع، ثم انتقل إلى القرآن، وقدم الصورة المثالية للإنسان فردا وجماعة تتناقض مع الواقع الذي شخصه، وحشد كل جهوده العلمية المتينة من فقهه للأصول وفقهه للغة، وغاص متأملا بروحانية في القرآن الكريم، ليصول ويجول في محراب الجلال والكمال، وكانه في حالة انفعالية متمردة على الواقع المنبوذ.

     انطلق الأنصاري من "الواقع المشخص" إلى "القرآن" ثم يعود إلى الواقع الذي يناقض الواقع المشخص، وهو "واقع العمران القرآني الفطراني الجميل". بمعنى آخر انطلق من التاريخ بتعقيداته، ثم حلق مع القرآن ثم عاد إلى التاريخ، لكنها عودة إلى التاريخ الفطري المثالي النموذجي الجميل و الرائع، لا يعيش تناقضا ولا صراع "الطوبى". ولذلك مقولة "من القرآن إلى العمران" تتناقض مع منهج الانصاري في بناء مشروعه الإصلاحي فهو :"انطلق من الواقع إلى القرآن إلى العمران/ الواقع المنشورد". ولكن لماذا اختار هذه المقولة:" من القرآن إلى العمران"؟

     معروف في كل الحركات الإصلاحية في التاريخ أنها تنطلق "دعوة مثالية" جميلة، متعالية عن تناقضات الواقع الإنساني وإكراهاته، لأن الغرض من هذه الدعوة هو استقطاب أكبر عدد من الأتباع اليائسين من تناقض الواقع وبؤسه الأخلاقي، لأنهم يبحثون عن "حلم في المستقبل" أو "جنة في الآخرة"، يريدون ان يعيشوا في الدينا حياة الطمأنينة و السلام.

     لكن هذه الدعوات المثالية، حينما تشتبك مع الواقع وتنقضاته، ستكون سياسية، باعتبار أن اتباعها منخرطون في المجتمع عبر كل مجالاته الاقتصادية والاجتماعية..، حينذاك، تلك القيم المثالية، سيختبرها الواقع المر والمعقد، وتبدأ في الانتقال من "المطلق الدعوي" إلى "النسبي التاريخي".

     فريد الأنصاري رحمه الله نجح بشكل كبير، في التأثير في جمع كبير من الإسلاميين اليائسين من واقعهم المغربي ومن واقع الحركة الإسلامية، هؤلاء الذي يحلمون بمجتمع أخلاقي رائع وجميل تسود فيه المحبة والأخوة.

     لكن هؤلاء، بتتابع وقائع التاريخ، يجدون انفسهم في مأزق، أن التاريخ حالة تدافع وصراع، وليس حالة صوفية مثالية جميلة تعاش في السماء، فمنهم من يراجع نظرته للأشياء، ومنهم من يجد نفسه في تناقض مريع، والسبب "الدعوة المثالية" المتعالية عن حقائق التاريخ.

     الأنصاري، انطلق من الواقع/ التاريخي، لكنه تجاهله، ليهاجر إلى القرآن ويبشر بالعمران المنشود المناقض للتاريخ/ الواقع.

     والحال أن التجربة الإنسانية في التاريخ، هي تجربة نسبية غير مثالية، فالإنسان في حالة جهاد مع نفسه، وفي حالة تدافع مع غيره، فهناك جدل مستمر، ولا يعيش حالة الحب والسلام والوئام،، فالسلام يوجد في الجنة:"أدخلوها بسلام آمنين" أما الدنيا فهي دنيا الكبد والمعاناة والمقاومة.

     هذه المقولة "من القرآن إلى العمران" هي مقولة خطية، لكن الإنسان في التاريخ يتفاعل مع الغيب والطبيعة، ليس بطريقة خطية، بل بطريقة جدلية مستمرة، فالغيب لا يسلبه فاعليته، وهو لا يحل في الغيب.


5- من فقه النص إلى فقه التاريخ.


تحدثنا فيما سبق، أن مقولة "من القرآن إلى العمران" هي مقولة تنسجم مع أي دعوة دينية، تخاطب اليائسين والمحبطين، الذين يحلمون بعالم "القيم النبيلة والمثل العليا"، وإلا فإن الأنصاري قبل أن ينطلق من القرآن، انطلق من تشخيص واقعي للحالة الاجتماعية للمغرب، ثم قدم تشخيصا للبنية الداخلية للحركة الإسلامية.

     في هذه التدوينة، نعمل على بيان "الإشكال المنهجي" الذي اخترق "مشروع فريد الأنصاري" رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجعله الله في أعلى عليين مع الشهداء و الصدقين وحسن أولئك رفيقا.

     قبل بيان هذا الإشكال نطرح هذا السؤال: موضوع "الحركة الإسلامية" وواقعها، هل هو موضوع تاريخي أم موضوع نصي؟ أو بمعنى آخر هل ينتمي موضوع الحركة الإسلامية إلى فقه التاريخ أم إلى فقه النص؟

     للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى التدوينة الثانية، التي حددنا فيها المعايير السبعة لقراءة فريد الأنصاري، ومن هذه الشروط، شرط تخصصه الأكاديمي، ففريد الأنصاري، باحث في الدراسات الإسلامية، تخصص أصول الفقه، تخصص المصطلح الأصولي، قدم أطروحة الدكتوراه في موضوع:"المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي".

     وكل قارئ مدقق لأطروحة فريد الأنصاري، سيصل إلى خلاصة، أن الشاطبي تلبس الانصاري، في عقله ووجدانه، وهذا واضح من خلال أسلوب كتابته التي مزجت بين لغة علمية رصينة وأسلوبه الأدبي الماتع. الأنصاري رحمه الله، هو عالم أصولي فقيه.

     فإذا كان الأنصاري ذلك كذلك، فإن موضوع الاشتغال "الحالة الاجتماعية" للمغاربة، والحركة الإسلامية المغربية، هذا موضوع لا ينتمي إلى فقه النص بل ينتمي إلى فقه التاريخ، وفقه أصول التاريخ دولة وأمة وحركات اجتماعية، والقوانين التي تؤطر نشاتها وأوجها وانهيارها.

     لكن فريد رحمه الله رحمة واسعة، تعامل مع موضوع الحركة الإسلامية، والحالة الاجتماعية المغربية، والإشكالات السياسية، من موقع الأصولي الفقيه، لا من موقع المؤرخ المستوعب لقوانين العمران، فلو سلمنا بسلامة شعاره :"من القرآن إلى العمران"، فيمكن القول إن الأنصاري قدم قراءة تجديدية متميزة للقرآن في بعدها الإصلاحي، باستخلاصه "كليات الإصلاح"، لكن عجز عن تقديم قراءة تاريخية للعمران المغربي دولة ومجتمعا، وكل ما قام به أن قدم قراءة عميقة في "فقه النص" لكنه أسرع الخطى في "فقه العمران".

     والدليل على ذلك، هو كتابه التشخيصي الأول؛ المعنون ب"الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي"، حينما نطالع هذا الكتاب، يدبج مقدمته بكليات، وهذا الكليات تنتمي إلى "فقه النص" لا "إلى فقه التاريخ" تنتمي إلى "فقه القرآن" لا "فقه العمران"، مع العلم أن موضوع كتاب "الفجور السياسي" هو في موضوع "العمران التاريخي" وليس موضوعا في "فقه النص القرآني"

     فقدم لكتابه بهذه المقدمات: الكليات الشرعية أدلة قطعية، التدين هو الغاية من الدين، تفشي المنكر سبب رئيس في هلاك الأمم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي.

     هذه الكيات هي كليات مستنتجة بمنهج الاستقراء لكل الجزئيات من نصوص القرآن و السنة، لصياغة قانون مفسر لفقه النص.

     ولكن موضوع العمران المغربي، ليس موضوعا في "النص" بل هو في "التاريخ" فكان عليه، أن يذكر الكليات المستخلصة عن طريق الاستقراء، من خلال جزئيات العمران المغربي، ثم بعد ذلك ينتقل إلى "البيان الاستقرائي" بجزئيات من الواقع التريخي ثم "التأكيد الاستقرائي".

     الأنصاري انطلق من كليات مستقرأة مستنتجة، من نصوص القرآن والسنة، ثم حينما وصل إلى "البيان الاستقرائي" لهذه الكليات، قدم جزئيات من الواقع التاريخي، ثم خلص إلى "التأكيد الاستقرائي" للكليات التي انطلق منها، وهذا هو "المازق المنهجي" الذي وقع فيه الأنصاري. من الناحية المنهجية، الكليات المستقراة من النص، ينبغي أن تبين بجزئيات من النص، لتاكيد هذه الكليات. والكليات المستقرأة من التاريخ، ينبغي ان تبين بجزئيات من التاريخ، لتأكيد هذه الكليات.الأنصاري انطلق من كليات مسقرأة من النص، وبينها بجزئيات من الواقع الفركفوني و العلماني المغربي، وتخبط الحركة الإسلامية في الواقع، ليخلص إلى تأكيد كلياته النصية. والسبب في هذا الخلط، أنه يضع "العمران التاريخي" في "فقه النص" لا "في فقه التاريخ".

     ويرجع كل هذا الخلط، إلى الإسقاط الخاطئ لرؤية الشاطبي في فلسفة النص، على فسلفة التاريخ.
قراءة الحركة الإسلامية، تحتاج إلى ابن خلدون 808هـ، لا إلى الشاطبي 790هـ، وهما معا ينطلقان من نفس الأصول العلمية، لكن موضوع الاشتغال يختلف "النص" ليس هو "التاريخ".


6- التنظيم الفطري في بطن الدولة.


تحدثنا فيما سبق، على أن المرحوم فريد الأنصاري قدس الله روحه، أنه وقع في "خلل منهجي" حيث اعتبر "العمران" أنه ينتمي إلى مجال "فقه النص القرآني" والحقيقة أن العمران ينتمي إلى مجال "فقه العمران التاريخي".

     عدم استعابه لطبيعة الموضوع "الحركة الإسلامية والمجتمع المغربي" أنه موضوع تاريخي وليس موضوعا نصيا، فعمل على بيان العمران في القرآن، باستعمال أدوات القراءة النص القرآني، ولم يستعمل ادوات قراءة العمران التاريخي، لبين لنا القوانين المتحكمة في الحركة الإسلامية والمجتمع المغربي.

     فريد الانصاري رحمه الله، شكل عالما متخيلا من خلال تدبره لنصوص القرأن الكريم وتذوقه، وانغمس في هذا العالم ثم حلق إلى الأعالي دون أن يعود إلى العمران التاريخي الذي يريد إصلاحه. ولذلك، كانت افكاره غريبة، ومن هذه الأفكار:"التنظيم الفطري".

     التنظيم الفطري، هو تنظيم تعبدي، مقره المركزي، اماكن العبادة المساجد عبر الصلاة الخمس، ثم الصيام والزكاة والحج، فهذا تنظيم فطري رباني، لا يقوده من انتخبوا، عبر صناعة الفرز الآلي "الديمقراطية" بل عبر الفرز الطبيعي، فمالك والشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل، لم يحوزوا صفة الإمامة عبر "الانتخابات الديمقراطية" بل حازوا ذلك، بعلمهم وصلاحهم، وتقواهم وإصلاحهم للمجتمع.

     يرسم الانصاري رحمة الله عليه هذه الصورة الرائعة والفطرانية الجميلة للمجتمع الإسلامي أنه مجتمع المحبة والسلام والوحدة والطمأنينة، ينظم نفسه كما ينظم مجتمع النحل حركاته، وفق قانون صارم لا يتخلف.

     ولكن الأنصاري يعلم أن هذا التنظيم الفطري هو تنظيم في الخيال، لأن هذا التنظيم التعبدي في تاريخ المسلمين، كان ينظمه المجتمع ويحميه السلطان، وهذا التنظيم لم يكن مثاليا، بل كان متفاعلا مع واقعه التاريخي والثقافي والحضاري (يرجع إلى كتاب الدولة الإسلامية لامحمد جبرون) بل إن هذا المجتمع، كان يعرف الحرب والسلام، والتفرقة والوحدة، بل إن مجتمع الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، اختلفوا وحارب بعضهم بعضا بالسلاح، لكن مجتمع الصحابة ظل متماسكا بوحدته.

     بمعنى آخر، إن الافكار المثالية، حينما تعيش في الواقع التاريخي، تتصدع، وهذا من طبيعة التناقض الذي يعشه الإنسان في نفسه" جسد، روح، عقل" وفي واقعه "الخير والشر"، فهناك حركة مستمرة وصراع مستمر.

ثم إن الانصاري يقترح التنظيم الفطري في القرن 15 هجري، و في القرن 21 ميلادي، لنسلم جدلا أن المجتمع نظام نفسه تنظيما فطريا:

-         يجتمع هذا المجتمع في المساجد للصلوات الخمس ويتزكى روحيا..ولكن اليوم من يدير المساجد إنها الدولة؟!

-          يعيش المجتمع اجواء رمضان الرائعة..ولكن من يعلن بداية رمضان ونهايته، واين يصلي الناس التراويح...إنها الدولة؟!

-          الآن المجتمع سيقوم بجمع الزكوات، ولتقوم بهذه العملية تحتاج إلى ترخيص، ومن يعيطك الترخيص إنها الدولة؟!

-         وأعظم مجتمع فطري هو مجتمع الحج...ولكن لتذهب إلى الحج، على القرعة ان تختارك، وإذا ذهبت إلى الحج من يستضيفك..إنها الدولة؟!

     بمعنى آخر ما يسمى التنظيم الفطري، هو تنظيم في بطن دولة المخزن، لأنها بسطت يدها على كل شيء بما في ذلك الدين، ولها مشروع تأهيل الشان الديني، وأن الدين مجال خاص لإمارة المؤمنين، وترعاه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، و الرابطة المحمدية للعلماء، والمجالس العلمية الإقليمية. إلا إذا كان المقصود بالتنظيم الفطري، الخروج من قبضة الدولة، وتشكيل "كيان موازي" له مساجده، وله منهجه الخاص في الاشتغال، فهذا ليس تنظيما فطريا هذا "تنظيم سري" يريد "الانقلاب على الدولة القائمة"، لأن مخرجات هذا التنظيم ليس حزبية، ولكنه في قلب السياسة، وفي قلب الصراع السياسي، وإن تدثر بالخطاب الروحاني التربوي.

     إذن، فريد الأنصاري رحمة الله، وهو يشيد "العمران القرآني" في خياله، غير متدبر للعمران التاريخي، الذي أصبحت الدولة هي "مادته الظاهرة" والقابضة على كل شيء، بل إن هذه الدولة ليست وحدها بل هي في قلب نظام دولي، منظم بنفس الطريقة. ولكن، أقول إن الأنصاري رحمة الله عليه، صاغ خطابه الرائع والجميل، كأي دعوة مثالية تظهر في البداية ولو كانت ملحدة "كالشيوعية"، من اجل حشد الاتباع، لكن حين الاصطدام بتعقيدات الواقع، يصبح المثالي في مازق، ويصبح في حاجة إلى الواقعية.

7-   من التضخم السياسي إلى التضخم الروحاني

     تتكون الجماعة من مجموعة من الأفراد، وطبيعة العلاقات بين هؤلاء الأفراد، تؤثر فيهم، وتكشل الصورة العامة للجماعة. فنحن نتحدث عن الفرد، ثم علاقة الفرد، ثم الجماعة. الفرد الإنسان، مكون من ثلاثة عناصر أساسية، الروح، العقل، الغريزة، طبيعة الفرد، مركبة ومعقدة، فهو يعيش بداخله جدلا يوميا بين هذا الثلاثي، وفي كل لحظة يحسم الجدل، أحدهما، إما الغريزة، وإما العقل، وإما الروح، وذلك الحسم هو الذي يشكل هوية الفرد الإنسان. إذا كان الإنسان الفرد، يعيش جدلا يوميا، بسبب تركيبه، فكيف سيعيش هذا الجدل في جماعة، عدد أفرادها يقدر بالعشرات ثم المئات ثم الملايين ثم الملايير. أي؛ أن الفرد المركب يربط علاقات مع أفراد على درجة عالية من التركيب، وهنا تكمن تعقيدات الظاهرة البشرية، فهي ليست ظاهرة بسيطة، يسهل تفسيرها كباقي الظواهر المادية.

     ماذا يقترح الإسلام لتحقيق السلام والطمانينة الفرية فتنعكس على العلاقات؟

     الإسلام يقترح فكرة في كلمة واحدة هي :"التقوى"، والتقوى تعني أنك في علاقة شفافية عمودية بينك وبين الله، الذي يطلع على أسرارك، فتكون صادقا معه، فينعكس صدقك في علاقتك مع الآخرين، فكلما علمت أن الله سبحانه وتعالى يراك، وأنه يوما ما سيحاسبك، تجتهد لتكون شفافا مع نفسك ومع غيرك. وهذا يسميه ابن خلدون "الوازع الداخلي" او بلغة معاصرة "الضمير"، أي أن مختلف المشاكل في العلاقات بين الناس، يمكن ان تحل باستهداف الإنسان "بخطاب روحاني" يذكره بالله، فلا يغش، ولا ظلم، ولايسرق...فيعم السلام بين الناس. لكن الإنسان الفرد المعقد المركب والذي يربط علاقات مع افراد في درجة عالية من التركيب، قد يخف عنده "الوازع الداخلي" فينتشر الغش، والظلم..

     في هذه الحالة، يتم الانتقال من خطاب "الوازع الداخلي" إلى خطاب "الوازع الخارجي"، ومعناه أن الإنسان لكفه عن إتيان المنكرات، لابد من تخويفه وزجره "بالقانون"، من فعل كذا: دخل إلى السجن ويعاقب. إذن، الإنسان يمكن تنظيم علاقته بينه وبين غيره، عبر الوازع الداخلي، الضمير، ويمكن تنظيم علاقته بينه وبين غيره عبر الوازع الخارجي، القانون. فالضمير له علاقة بالروح، والقانون له علاقة بالعقل، وهذا الخطابان، لهما رؤية للإنسان، تطمح لضبط العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان.

لنطرح هذا السؤال: في التجربة النبوية كيف كان ينظم النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع، هل بالروح/ الضمير، أم بالعقل/القانون؟

     لو تأملنا التجربة كاملة، سنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم، جميع بين الاثنين، لكي لا ينهار المجتمع في هاوية الغريزة، وحسب كل مرحلة تاريخية، يكون منسوب الروح أعلى او منسوب العقل أعلى، حسب طبيعة المجتمع، فإن آمن المجتمع بالله واليوم الآخر، تخف الحاجة إلى الوازع الخارجي/ القانون، وإن بدأ المجتمع يقل إيمانه، تخف الحاجة إلى الوازع الداخلي وتصبح الحاجة إلى الوازع الخارجي القانون. بمعنى أن التوازن والوسطية و الاعتدال هو الأساس. الآن في واقعنا المعاصر، أيهما أصبح طاغيا على الآخر؟

     تنظم المجتعات المعاصرة نفسها "بالقانون" أي، بالعقل حيث ان العقل له القدرة على الترجيح بين المصالح و المفاسد حسب مرجعية كل جماعة، أي، أن الوازع الخارجي هو الاولى، فمثلا: لمحاربة الغش في الامتحانات، لن تحاربه بإلقاء موعظة تذكر الناس بالله، قد يتاثروا لكن حين الامتحان يرمون ذلك وراء ظهورهم، إذن الحل هو الوازع الخارجي القانون.

     لنرجع إلى فريد الانصاري، مشروعه هو دعوة لإعادة تنظيم المجتمع وفق الوازع الداخلي "الإيمان بالله واليوم الآخر" وذلك بتركيز النظر في خطاب الروح، ليقوم المجتمع بالمبادرة، ويفجر كل طاقاته، للنجاح و الفلاح، ولذلك، قال أن الحركة الإسلامية تعيش "تضخما سياسيا" اي انها اعطت الاولوية للوازع الخارجي/ القانون لتنظيم المجتمع، ولم تعط الاولوية للوازع الداخلي، ولذلك لو ركز على هذا الوازع ، ولن تكون الحركة الإسلامية في حاجة إلى حزب سياسي.

     لكن مشكلة فريد الأنصاري، من كثرة حديثه على "التربية الروحية" بما هي طريقة في سياسة المجتمع وفق الوازع الداخلي، ظن الكثيرون أنه يهون من شان "التربية السياسة" بما هي طريقة في سياسة المجتمع وفق الوازع الخارجي.

     فالتضخم السياسي، حقيقة لا جدال فيها، لكن واجهه فريد الانصاري بتضخم "في التربية الروحية"، والأصل أن المجتمعات تساس بوزاعين "الوازع الداخلي والوازع الخارجي"، ولذلك قيل:"إن الله يزع بالسلطان (وازع خارجي) ما لايزع بالقرآن (وازع داخلي)"، لأن المجتمعات، مركبة ومعقدة، قد نحميها من الوقوع في قبضة الغريزة، بالعقل، أو بالروح.

     ويمكن أن أقول، إن مشروع حركة التوحيد والإصلاح هذه رؤيته الأصلية، الجميع بين "الوازع الداخلي" الحركة الدعوية، وبين "الوازع الخارجي" الحزب" لكن معطيات الواقع غلبت كفة الحزب على الحركة، والحركة لازالت تقوم بمهامها التربوية والدعوية.

     فحسب طبيعة المجتمعات، قد يكون منسوب الروح عاليا، وقد يكون منسوب العقل عاليا، المهم عدم الوقوع في قبضة الغريزة!


:خلاصة


إن الأنصاري رحمه الله، هو عالم عامل، أصولي عامل، فقيه عالم، شاعر عامل، روائي عامل، كاتب عامل...، أي؛ أنه كان مهموما بسؤال: ما العمل؟ مالذي ينبغي فعله في القرن 15 هـ والقرن 21 ميلادي؟ فقد إجابة لهذا السؤال، من خلال قراءته للقرآن أولا، ثم للواقع ثانيا، واقترح مشروع الفطرية.
إن تكريم الأنصاري، هو تكريم بنقد مشروعه الإصلاحي باستمرار، لا من أجل هدمه وتبخيسه، بل من أجل الإفادة منه، لأن النقد هو تنسيب للفكرة لتنسجم مع الطبيعة المركبة للإنسان في الواقع والتاريخ، أما تبجيل الفكرة ورفعها إلى السماء، هو سلوك وجداني عاطفي، يريد عزل الفكرة عن الواقع وتعقيداته الصاخبة.
الأنصاري رحمه الله مدرسة تربوية وفكرية وعلمية، كان الأنصاري مشروعا عمليا على الأرض، لكنه في النهاية يبقى إنسانا، يصيب ويخطئ، فما اصاب فيه نثمنه وما اخطأ فيه نتجاوزه، وهذا منطق النقد الاستعياب والتجاوز، لا التقليد الجامد المتحجر.



5









تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة