بقلم: فتحي المسكيني
وقد طفق الفلاسفة، منذ كانط خاصة، يبلورون ملامح الإيمان الحر بوصفه أفقا للنقاش الروحي الذي لا يحتوي على أي محتوى ديني محدد. وهو إيمان فلسفي بلا دين رمسي إلا عرضا. وهو لا يحتاج إلى أي طقوس دعوية أو كنسية.
يفترض الفلاسفة أن الحداثة هي الأفق الذي جعل فكرة الإيمان الحر تبلغ درجة الاتساق المعياري المنشود الذي يحولها إلى مبدأ فلسفي موجب. وعلى خط يمتد من سبينوزا إلى باديو، ومن كانط إلى هابرماس، ومن نيتشه إلى فوكو، يمكن بيسر واضح رسم ملامح فكرة فلسفية متماسكة عن الإيمان (1) الحر: وهو حر في معنى أنه حر من سلطة الأديان التقليدية، وليس فقط في معنى حرية المعتقد. إلا أنه منذ أزمة الحداثة، التي وصفها فرانسوا ليوتار تحت عنوان أزمة السرديات التأسيسية، ظهرت جماعات دينية تدافع عن "عودة الديني" في عصر ما بعد التنوير، ويبدو أن هدفها الاستراتيجي هو الاستيلاء الرمزي على فكرة الإيمان الحر الذي حققه الفلاسفة بوساطة برادايم الذاتية، والشروع في ترجمتها الأداتية في دعوى حق الاختلاف الديني بناء على افتراض صامت وغير مفكر فيه بأن "المؤمن" الإبراهيمي هو "ذات" بالمعنى الحديث.
وثمة مفارقة هنا لا بد من الوقوع فيها تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدين والذاتية. فمن جهة، تدعي الفلسفة الحديثة منذ كان (أي: فسفة الذات) أن الدين لا يمكن التفكر فيه إلا في "حدود مجرد العقل" بوصفها مصدر المعنى الوحيد في أفق الحقيقة؛ ومن جهة، إن الدين التقليدي يقوم أساسا على الإيمان بالغيب؛ أي بما يتخطى العقل البشري الذي هو عقل متناه بلا رجعة. إن "عودة الديني" لا تعني، إذا، سوى أن "المؤمن" الديني يجوز له الدفاع عن "عودة الدين" باسم "الحق الذاتي" في تقرير مصيره الأخروي. وذلك يعني أن الذات من حقها ألا تؤمن بنفسها. وهو يجعل المتدين التقليدي محكوما عليه سلفا بأن يكون مؤمنا بلا ذات، ما يدفعها إلى التساؤل: هل توجد حقا "ّذاتية دينية"؟
وهذا أمر من شأنه أن يخرب أفق المعنى الذي رسمه فلاسفة الحداثة بوساطة مبدأ الذاتية، وعلينا أن نسأل عندئذ: هل يمكن استعمال حرية الضمير من أجل تقويض اعاء الصلاحية الذي ترفعه الذات الحديثة عن نفسها؟ وما الفرق عندئذ بين حرية الضمير والإيمان الحر؟
وعلى الرغم من أن كانط قدم الدين التنويري بأنه لا يمكن أن يكون إلا "الدين في حدود مجرد العقل"، لم يتردد في توصيف الإيمان الممكن (2) داخل أفق دين العقل بأنه "إيمان حر" أو "إيمان الأحرار". ولاشيء يمنعنا من قراءة عبارة الإيمان الحر بأن إيمان "بلا حدود"؛ أي بلا حدود بالمعنى الديني. وهنا تنقلب موازين المناقشة: إن حدود العقل ليست سالبة؛ فما هو محدود بالنسبة إلى العقل هو موجب؛ أي له موضوع أخلاقي ممكن في أفق البشر. لكن حدود الدين التقليدي تعني شيئا آخر: إنها حدود سالبة؛ ما هو محدود بالنسبة إلى الدين يعني ما هو مأمور به أو منهي عنه أو محرم أو مكروه أو معاقب عليه، وذلك باسم وصايا أو عقائد تتجاوز حكمتها أو ضرورتها أفق فهم البشر، وهي حقيقية بلا رجعة.
ولذلك ليس من المصادفة في شيء أن الإيمان ما بعد التنويري المعاصر (في عصر عودة الديني) أطلق على نفسه شعارا مخصوصا وطريفا هو معنى "الإيمان بلا حدود". وهي عبارة على قدر وضوحها الساطع تنطوي على غموض فلسفي لابد من استنطاقه.
وما يستبشر له الفلاسفة (وإن كان ذلك مع تحفظات معيارية كبيرة) هو أن شعار "الإيمان بلا حدود"، قد انتشر بشكل مثير في الكتابات الدينية المعاصرة التي أنتجها الغرب عن نفسه بعد أزمة الحداثة. ويجدر بالمتفلسف أن يقول فقط: لا يمكن أن يوجد "إيمان بلا حدود" إلا إذا كان "إيمانا حرا"؛ إذ تدعي جماعات دينية أمريكية معاصرة أنها تطور برنامج "الإيمان بلا حدود" صراحة. ويمكننا أن نسرد عناوين مقالات أو كتب عديدة. لكن طرافة العنوان تكمن في كونه قد تحول إلى شعار عملي ورمز ميداني تعتمد (3) عليه جماعات ومؤسسات عالمية بهدف بناء نوع جديد من الثقة في أطروحة الإيمان بلا دين نظامي، تحررها من الاحتكار او التوظيف اللاهوتي وتعيدها إلى الأحياء الأحرار بعيدا عن أي وصاية أخروية موقوفة على ضمائرهم.
لنقل هو وعد فسفي بفكرة الإيمام الحر حاولت جماعات دينية معاصرة أن تتملكه بطرق غير فلسفية ودينية في مفرداتها، نذكر منها على سبيل المثال/ جماعة تسمى "الكنيسة الكونية التوحيدية" (Unitarian Universalist church)، ومناط أمرها يقوم على فكرة "الإيمان المختار"، إلا أنه ليس إيمان "الشعب المختتار"، أو إيمان السلطات الدينية القائمة، فهو إيمان خارج التصور اللاهوتي للوحي؛ بل إن كل مؤمن هو في "مسار" وحي لم ينقطع، وهو لا يفهم من الوحي إلا طاقة البحث عن المعنى التي يشعر بها. بيد أن من المستساغ فلسفيا أنها جماعات تطلق على الدين "الوحد" و"الكوني"، الذي (4) تعدو إليه، اسم "الإيمان الحر" (free faith)، وهو حر ليس فقط في معنى أنه منعتق من السلطات الدينية؛ بل خاصة في كونه يتأسس على "التفكير الحر" (free-thinking)، ذاك الذي تحركه حاجة روحية إلى الشعراء أكثر من علماء اللاهوت. بهذا الشرط فقط يمكن الحيث عن "الدين الحر" (free religion)، والحقيقة أنه فلسفيا لا يوجد دين حر إلا في شكل مفارقة (5).
(1)- ص:11
(2)- ص:12
(3)- ص:13
(4)- ص:14
(5)- ص:15
الإيمان الحر أو ما بعد الملة، مباحث في فلسفة الدين، للمفكر التونسي فتحي المسكيني، الناشر: مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى، 2018.
مقال من الكتاب:
- تحرير الإيمان من الأديان التقليدية
إرسال تعليق