بقلم: مصطفى بوكرن
بعد انتهائي، من قراءة كتاب "نظام التفاهة" لآلان دونو، تذكرتُ قصة وقعت لي، حين كنتُ مسافرا في القطار، من فاس إلى الدار البيضاء. بدأ الحديث ثنائيا، داخل مقصورة القطار، ثم تحول إلى نقاش جماعي، في القضايا الآتية: السياسيون لصوص، الأطباء جزارون، القضاة مرتشون. تعليمنا الخاص يسرق أموال الشعب، الحكومة عصابة، الأحزاب دكاكين سياسية، المنتخب الوطني فاشل. قنواتنا التلفزية رديئة، وسائل التواصل الاجتماعي كارثية. إسرائيل كيان دموي، أمريكا أختها من الرضاعة، العرب عملاء..
إذا أردتَ أن لا تشعر بوعثاء السفر، فما عليك إلا أن تناقش قضايا الدولة والمجتمع، بشرط أن يشاركك المسافرون. لم أشعر مطلقا بطول المسافة، وكأنها رمشة عين. كنتُ أتابع النقاش من بدايته، إلى أن صمتوا ليرتاحوا قليلا.
ناقشوا كل شيء إلا أنفسهم، والواجب الذي عليهم، فقررت أن أدلي بدلوي، وأذكرهم، أننا نشعر بأزمتنا، لكن القلة من تسأل: ما الواجب علينا؟، وهنا تذكرت تلك القصة، التي تحكي أن قطا دمويا، أكل كل الفئران، ولم يتبق منهم إلا القليل، فاجتمعوا لمواجهة خطر الإبادة. اقترح أحد الفئران شراء جرس، يوضع في عنق القط، وإذا ما هبّ لأكل أحدهم، يطلق الجرس صفارة الإنذار، فيهربون منه. جماعة الفئران، راقها هذا المقترح العبقري، لكنها لم تتوقع ما سيطلبه منها الفأر الخبير في حل الأزمات، حيث قال لهم بهدوء: من يضحي بنفسه، ليضع الجرس في عنق القط؟. لم يرد أي واحد منهم، التضحية بنفسه. مرت الأيام، فأكلهم القط جميعا، ولم يسلم حتى الخبير في الأزمات.
بعد أن حكيت للمسافرين القصة، ابتسموا، وراح أحدهم يحرك رأسه، ثم نطق قائلا: "إن الله لا يغير بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم". شعرت بأن حماسة النقاش بدأت تقل. كلما ذكّرتَ الإنسان بواجبه، يصبح واقعيا أكثر من الواقع. ويقل كلامه، ويبدأ في التفكير، في الخلاص، للخروج من الأزمة. ويصبح سؤال العمل، أهم سؤال.
هذا الحدث تذكرته، بعد أن أنهيت كتاب "نظام التفاهة" لأستاذ الفلسفة الكندي آلان دونو، الطبعة: الأولى، إصدار: 2020. ترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري. يرسم دونو صورة سوداء عن بلده كندا والغرب وأمريكا، حيث الرأسمالية، حولت الإنسان إلى عبد مستهلك، بل جعلته سلعة تباع وتشترى، وانقضت الشركات على السلطة، وتحالفت مع التافهين في الجامعات والإعلام والفن والتجارة والسياسة.
روى دونو قصصا كثيرة، تشرح "نظام التفاهة" العالمي، الذي هو أسلوب في حكم العالم. ذكر منها: قصة زلزل هايتي سنة 2010. يوضح دونو، أن المطلوب بعد الزلزال، هو كنس الدمار، وإعادة بناء البلاد. لكن اللجنة التي رأسها بيل كلينتون، المكلفة بإعادة إعمار هايتي، لم تقم بشيء من ذلك، لأن لها هدفا سريا آخر. أصبحت الحكومة شكلية، وتنعقد اللجنة دون حضور رئيس الحكومة، ولها صلاحيات واسعة. وكشف دونو أن الأهم في هايتي بعد الزلزال، لم يكن إعادة الإعمار، بل "برامج تعدين الذهب" وما يكلف ذلك، من أنهار المياه.
حكى دونو قصة غريبة عن بلاده، كيف تعاملت الحكومة الكندية مع كارثة بحرية ميجانتيك؟. انفجر قطار مليء بالنفط الخام في يونيو 2013، قتل 47 شخصا، ودمر مركز المدينة في كيبيك. قامت الحكومة والشركة بإعداد خطة، هدفها إخفاء المسؤول عن هذه الكارثة. وكانت الخطة استثمار الفنانين لإدارة مشاعر الناس، ونزع الصبغة السياسية من الكارثة. نُظّم حفل موسيقي طيلة الصيف بالقرب من بحيرة ميجانتيك، وتحولت ذكرى الكارثة، إلى مجرد أداء فني. وتمت تغطية مسرح الجريمة "بحديقة تذكارية" مصممة للسياح، ومعها منطقة تسوق مجاورة. وأصبح المكان مزارا سياحيا. وبهذا يؤكد دونو، كيف استطاع الرأسمال، أن يستعمل الفن للتلاعب بالجمهور في إدارة الأزمات؟
كلما واصلتَ قرأتَ الكتاب، ترى العالم أسود. دونو كاتب يساري، يعلن انحيازه للتحليل الماركسي، ما بعد الحداثي. يبذل مجهودا ليقنع القارئ، أن الشر الأكبر في العالم هو: "الرأسمالية". وهكذا، ينبري السؤال المحوري: ما العمل؟ كتب دونو عشرات الصفحات في تسويد العالم، وحين وصل إلى الحديث عن العمل، والواجب فعله، كتب صفحات معدودات، وقدم وصيته للقراء، قائلا: "اعمل، والتق مع الآخرين في تجمعات غير طائفية. تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، حاول خلق بنى تشبهنا". وختم بهذه العبارة: "كن راديكاليا".
اعمل، والتق مع الآخرين في تجمعات غير طائفية. تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، حاول خلق بنى تشبهنا
لو كان دونو مغربيا، لحكيت له قصة "القط والفئران"، ولسألته: هل تستطيع التضحية بنفسك من أجل إسعاد الآخرين؟ أم أنه مصيره سيكون، مثل مصير الفأر الخبير في حل الأزمات.
إرسال تعليق