بقلم: مصطفى بوكرن
كتبتُ ليلة توقيفه، مقالة بعنوان: "لماذا تم استقبال سليمان الريسوني في أجواء روحانية؟". استحضرتُ يوم الجمعة، بأبعاده التعبدية، ولحظات ما قبل الإفطار، المسلم يستجمع طاقته الروحية، لشهود آذن المغرب، بقلب خاشع، ولسان ذاكر، متشوقا إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة. تذكرت أن الحدث وقع بعد ليلة القدر المجيدة، فيجتهد المؤمن في الدعاء، ويردد المأثور النبوي: "اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني"، كما أنه يأتي قبل عيد الفطر، يستعد المسلم لإخراج زكاة الفطر، تقوية لصيامه وتضامنا مع المحتاجين، ويشهد صلاة العيد، داخل المنزل، مع الأسرة الكريمة.
قرأت هذا الحدث، قراءة روحانية، وتخيلت نفسي، قطبا من أقطاب الصوفية، يؤول ما يراه العامة تأويلا مخالفا. وتذكرت قصة الخضر في سورة الكهف، حيث قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار دون مقابل، لها دلالات غير التي أفزعت موسى عليه السلام. عشت حالة روحانية، تساعدني على تأويل توقيف سليمان الريسوني، تأويلا مخالفا، فكتبت المقالة، لنشرها على صفحتي الفيسبوكية.
منذ أن بدأ النشر على الفيسبوك يدخل السجن، اخترت طواعية، دون أن أنتظر قانونا، فرض رقابة ذاتية على نفسي، لأن النشر على الإنترنت يحرض على البوح. غير أنني وجدت أن هذه الرقابة، تضعف أحيانا، فاضطررت أن أجعل صديقا محاميا رقيبا علي، والذي أختلف معه، باستمرار في الكثير من القضايا الفكرية والسياسية، وكلما نقشنا قضية، تحول مجلسنا، إلى استديو للاتجاه المعاكس. أخذت هذا القرار، وفوجئ صديقي بذلك، لأنني كنت أنفر من انتقاداته، كلما نشرت مقالا، فأقول له بهدوء: هذا رأيك، لكنه لا يلزمني. كان يقابل ردي بابتسامته الهادئة، ممزوجة بقليل من الغضب.
كنت أمر بوضع صعب في البداية، كتبت مقالات كثيرة، فرفضها، دون أي مبرر، ويكتب أحيانا، تحت مقالاتي عبارة مستفزة: سد فمك. وكلما ناقشت قضية من قضايا الشأن العام، أو علقت على شخصية عامة، يواجهني بهذه العبارة: دخل سوق راسك. ساورني الندم في البداية، لكن لا مفر من هذا الاختيار، رفض النشر باختياري، أهون من اعتقال، بتهمة عجيبة، تستجلب تعاطفا لحظيا، ثم أترك أسرتي للألم والمعاناة.
أحيانا، أخالف توجيهاته، وأحيانا ألتزم بها. هذا المقال: "لماذا تم استقبال سليمان الريسوني في أجواء روحانية؟". كتبته بشغف، وأرسلته إليه، فجاءني الرد هكذا: أولا: عليك أن تحترم انتهاء الحراسة النظرية، وتنتظر بلاغ الوكيل العام للملك، بل أن تنتظر قول القضاء كلمته في الملف كاملا. ثانيا: لا أتفق مطلقا مع هذا الأسلوب في الكتابة. وختم قائلا: تحمل مسؤوليتك، لا تكتب عن سليمان الريسوني، الموضوع معقد. صدمني برده، وتبدد ذلك، الشغف الذي كتبت به المقال، شرحت له فكرة المقال، فرفضها بشدة.
تحمل مسؤوليتك، لا تكتب عن سليمان الريسوني، الموضوع معقد.
جلست أنتظر، قرأت بلاغ الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف، تابع الصحافي في حالة اعتقال، بتهمتي: "الاحتجاز" و"هتك العرض بالعنف". تحول الانتظار إلى كابوس، وكأننا أمام لغز محير، من عالم الغيب. لا يمكن كشف حقيقته، إلا ببعثة نبي جديد، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. هاتفني صديقي المحامي، ليؤكد لي، صواب توجيهاته، وظل يطلب مني الانتظار وعدم التسرع. لكن قلبي، يحدثني بشيء آخر، ويحرضني على الكتابة، والبوح بما فيه دون أن أرهن نفسي لعذاب الانتظار. في قلبي سؤال يؤرقني: من بين كل الجرائد الورقية، جريدة واحدة، اسمها أخبار اليوم، صحافيوها، يتعاقبون على الاعتقال بتهم أخلاقية، فهل هذا صدفة؟ ! لو أجبت بنعم، يجب أن أومن بالصدفة، كنموذج لتفسير العالم، وسأصبح ملحدا، لا أومن إلا بالسببية الذاتية، دون وجود فاعل.
ما أصعب أن تكتب والخوف يلاحقك، وإذا اقترن الخوف بقضية، الخفي فيها أكثر من الظاهر، سيصبح بناء موقف، لحظة عذاب نفسية. ولا نجاة من ذلك، إلا بالسؤال، وهيهات أن تظفر بالإجابة بسهولة. لم أرسل هذا المقال إلى صديقي المحامي، لأنني أعرف، أنه سيرفضه. اخترت أن أشرح لزوجتي فكرة المقال، أجابتني عند سماع الاسم دون تردد قائلة: والله ما نجيب ليك القفة. غضبت، وناشدتها أن تقرأه أولا، ثم تحكم، امتنعت عن مناقشتي. تذكرت صحافيا عزيزا، ناقشت معه القضية، وفهم أنني أستشيره، وقال لي: ابتعد، ناقش الكلام النابي لرضوان بنعبد السلام، أو سكر رفيق بوبكر، أو شاتمة الرسول بوشكيوة. ازداد ضغطي، وتخيلت نفسي، كما لو أننا نعيش في سنوات الرصاص، مع العلم، أن ما كتبته، هو مجرد حكاية، لكاتب يعاني، وكل ما يتمناه محاكمة عادلة، وحماية جميع أطرافها من التشهير. ما هذا الرعب الذي سيطر على النفوس؟ !
إرسال تعليق