U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

هل يمكن أن توجد في المغرب أحزاب حقيقية؟





 بعد الاستقلال، واجهت المغرب معضلة كبرى، تم حلها بالدم والسجون. كانت المعضلة التناقض الحاد بين الأحزاب السياسية نفسها، والتناقض الحاد بين الأحزاب الوطنية والملكية. لم يتم حسم هذا التناقض بأدوات ديمقراطية عقلانية، بل بأدوات القوة الصلبة، وبعد حين تم استعمال القوة الناعمة في تفكيك الأحزاب السياسية، وخلق أحزاب إدارية موالية. بمعنى آخر، استعمل المخزن أسلوب العصا والجزرة.


من المستحيل في المغرب، وجود أحزاب حقيقية، تؤطر المواطنين وفق مشروع مجتمعي يخالف ما تبشر به السلطة، وعازمة على الوصول إلى الحكم، وتسير القطاعات الاستراتيجية. لأن الملكية في المغرب، شبهها الحسن الثاني بالحَكم في ميدان كرة القدم، فهو يركض، في كل رقعة الملعب، ويحذر، ويؤدب..، وبمعنى آخر، هذا الحكم، هو الذي وضع قواعد اللعب، وهو الذي يسهر عليها. وقريب من هذا المعنى اختار إدريس البصري في كتابه رجل السلطة اقتباسا من خطاب للملك الحسن الثاني ألقاه بمناسبة الاحتفاء بفوج الحسن الأول، الذي تخرج من مدرسة تكوين الإطارات التابعة لوزارة الداخلية نونبر 1967، قال الحسن الثاني: "أن تقودوا الرعايا أن تكونوا في الصف الأول في البناء.. في الترميم.. في التخطيط... في الفلاحة.. في الصناعة...في التشجير... في التجارة..".

إن الحزب القوي في المغرب، هو وزارة الداخلية، وهي الجهاز التنفيذي الحقيقي، لتنزيل برامج السلطة. ويحكى أيام زمان، أن الحكومة لا تجتمع إلا إذا حضر إدريس البصري، وخرق هذا العرف عبد الرحمن اليوسفي، كان يبدأ اجتماعاته، ولا ينتظر إدريس البصري، الذي خصه بتكريم حين تم التخلص منه، جر على اليوسفي نقدا عاصفا، لكنه اعتبر ذلك، أن هذا التصرف لا يخص البصري فقط، بل كل من غادر الحكومة.

وقد اتضح بما لا يدع مجالا للشك، أن القياد، هم الذين نزلوا إلى الميدان لتدبير جائحة كورونا. وأكد هذا التصرف شيئا ثابتا في حكم المخزن، أن وزارة الداخلية هي كل شيء في المغرب.

كان بنكيران صادقا حين قال: "وزارة الداخلية تسكنها روح، لست أنا من سيغيرها". وهذه الروح، قديمة جدا، وليست حديثة. الإعداد المسبق لنتائج الانتخابات قديم. يحكي عبد الواحد الراضي، أن وزير الداخلية بنهيمة في انتخابات 1970، استدعى عبد الرحيم بوعبيد، ليخبره بالمقاعد التي سيحصل عليها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل الانتخابات، فرفض بوعبيد هذا التصرف، وغادر اللقاء، وقامت الوزارة بالتزوير وحصل الحزب على 15 مقعدا، وسخر الحسن الثاني من هذا التزوير، لأن وزارة الداخلية لم تنتبه إلى المستوى العلمي لهؤلاء الجامعيين.

وهذه الروح لم تنقرض، ففي انتخابات 1997، يحكي الاتحادي عبد العزيز النويضي المحامي المشهور، أنه كان يشتغل مع نوبير الأموي كمستشار قانوني دون مقابل مادي، وفكر نوبير في أن يهيئه لمجلس النواب، واصطحبه معه بمناسبة لقاء بينه وبين إدريس البصري، دون أن يكون النويضي يعرف وجهته، علم في الأخير، أن الاموي والبصري سيجريان معا حوارا اجتماعيا، سماه النويضي "بالحوار الحقيقي"، وكان البصري وفيا لما التزم به، وبالموازاة، اقترح إدريس البصري على النويضي الترشح، ووعده بالفوز، لكنه رفض، وغضب من تصرفه نوبير الاموي.

روح وزارة الداخلية، يمنع ظهور أي حزب قوي، بمختلف الاساليب الصلبة والناعمة، لأن ذلك يهدد الحضور السياسي للمؤسسة الملكية، التي تبني مشروعيتها وشرعيتها على الإنجاز في أدق تفاصيل حياة المغاربة.

ويحكي كتاب اليوسفي كما عشناه، أنه تم تزوير انتخابات 1997، ليكون الاتحاد الاشتراكي في المرتبة الأولى، وقبل اليوسفي بمخرجات هذه الانتخابات السياسية، لأن هناك صفقة كانت بينه وبين الحسن الثاني ظاهرها إنقاذ المغرب من السكتة القلبية وباطنها تيسير انتقال الحكم وتأمينه، لأن اليوسفي قبل بالنسق السياسي، فكيف سيرفض مخرجاته؟!

لم تكن وزارة الداخلية غائبة عن التحكم والتدخل القبلي في الانتخابات، بحسب ما تمليه السياقات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، مع ضبط توازنات الحقل الحزبي، أن لا يتغول حزب على الآخر، وإنقاذ الأحزاب الآيلة إلى الانقراض في المؤسسات التمثيلية.

ولذلك، حين نعلق على هذه الأخبار منفردة، دون وضعها ضمن النسق السياسي المغربي، فإننا لا نصل إلي شيء. ليس مهما رفض البيجيدي لهدية مهندسي الانتخابات، ومطالبة المستشارين الثلاثة بالاستقالة، فهذا التصرف من القيادة المستقيلة لا هو بتاريخي ولا هو بغير مسبوق، المهم هو تلقي الإشارة، التي مفادها، أن السلطة لازالت في حاجة إلى الحزب، وانهياره الانتخابي، لا يعني التخلي عنه، فكما أن السلطة قدمت هدايا كثيرة للحزب، حيث شكل بنكيران الحكومة الأولى في شهر، في عز قوته، في المقابل منعت عنه هذه الهدية في عز قوته بعد فوزه في انتخابات 7 اكتوبر 2016، وظل يرواح مكانه لمدة خمسة أشهر، فإن السلطة، لن تتخلى عن الحزب إذا انهار انتخابيا، ستمنحه هدية، رسالتها: إننا نحتاجكم.

لا أحد من الأحزاب يحصل على مقاعده، التي تمثل شريحة مجتمعية، بمجهوده الخاص. ليس الشعب من يمنح ويمنع، بل وزارة الداخلية، أو المخزن، الذي لا يوجد مقابله في أي لغة أخرى، فهذا يشبه عبادة الإله، فكل بلد يختار اسما له، كما يقول المؤرخ عبد الله العروي. وهنا تحدث الفيلسوف طه عبد الرحمن، عن الأبعاد الغيبية في السياسة، التي تستعمل وسائل الدين في تدبير أمور الناس، كما يوضع ذلك في كتابه روح الدين.

إن المسألة لا ترتبط بجزئيات تفصيلية، بل المسألة تؤكد استمرارية طقوس المخزن في التعامل مع رعاياه، فهو يمنح الهدايا، ويمنع العطاء، بحسب التقلب بين الرضا والسخط، وهذا له علاقة بالثقافة الابوية للنظام، وقد قال هذا بنكيران في خطاب انتخابي بتطوان شتنبر 2016، قال: "محمد السادس بانا وحنا ولادو" وكرر ذلك في خطابه الشهير بالواليدية مارس 2017.

من المفارقات، أن البيجيدي مقتنعا بهذه الثقافة الأبوية، التي تؤطر النسق السياسي المغربي، لكنه يرفض أحيانا مخرجاتها، ويقبلها أحيانا، حسب المزاج السياسي، لذلك حين سألت الصحافية بنكيران عن معاشه، قال هو: "هدية من سيدنا"، لكنه علق على نتائج انتخابات مجلس المستشارين: "هدية السارق لا تقبل"، وكأنه يعتقد أن في المغرب دولتين: دولة تمنح هدية المعاش الاستثنائي، ودولة أخرى، لا علاقة لها بالأولى، تمنح هدية المستشارين الثلاثة. بغض النظر عن الجزئيات والتفاصيل، بل الأمر يتعلق بجوهر السلطة.

سيكون موقف البجيدي تاريخيا وغير مسبوق إذا رفض هذه الثقافة، ويدافع باستماتة عن الديمقراطية، لكنه لن يستطيع: "يضع رجلا هنا، ورجلا هناك". يقبل بالمخزن كنسق ويرفض مخرجاته!.

أما الأحزاب الأخرى فهي منسجمة مع نفسها، ليست حزبا بالمعنى الحقيقي للأحزاب، يمكن ان تصبغ من تشاء بلونها، حين يكون المصبوغ شخصية مهمة، ستؤدي وظيفة للمخزن. ولذلك، لو كان حزب التجمع الوطني للاحرار ديمقراطيا، فإن اختيار وزرائه يتم عبر مساطر ديمقراطية، ويتم إعداد لائحة للمستوزرين، بالترتيب، في قطاع ما، حتى إذا وقع للوزير المعين مكروه ما، أو اقيل، يتقدم الحزب باسم المستوزر الذي في المرتبة الثانية..، وهذا يتطلب وقتا وجهدا ونقاشا، لكن السلطة تكره هذه التعقيدات، لأنها تريد من الحزب أن يكون ميسرا وسريعا في التفاعل دون تقعيدات، ولذلك تم إعفاء الرميلي بسرعة، وجيء بأيت الطالب بسرعة البرق.

سيكون موقف البجيدي تاريخيا وغير مسبوق إذا رفض هذه الثقافة، ويدافع باستماتة عن الديمقراطية، لكنه لن يستطيع: "يضع رجلا هنا، ورجلا هناك". يقبل بالمخزن كنسق ويرفض مخرجاته!.


هذه الأحزاب الإدارية تقبل بالنسق المخزني، وبمخرجاته الغريبة، عكس البيجيدي يقبل بالنسق ويشاغب على المخزجات بين الحين والآخر، حسب موقعه السياسي.

كم كان الملك محمد السادس واضحا في خطاب افتتاح البرلمان حين قال: "فالأهم ليس فوز هذا الحزب أو ذاك، لأن جميع الأحزاب سواسية لدينا". لكن حزب العدالة والتنمية يصر على أنه لا يشبه باقي الأحزاب، وفي كل مرة تحنته السلطة، لأنها تريد من الأحزاب جميعا، القيام بخدمات مؤقتة في مراحل معينة، ويتناوبون على المشاريع الملكية، في تنفيذها، دون ان ينسب حزب لنفسه، أنه هو الذي حقق الإنجازات الخيالية، لأن المشاريع الاستراتيجية، تتطلب من حزب ما، أن يظل في الحكومة مدة 20 سنة على الأقل، فلا يكفي أن تطلق مشروعا إصلاحيا، كإصلاح صندوق المقاصة مثلا، بل عليك أن تتابع الإصلاح عبر مسار طويل، وتعالج العوائق التي تواجهه، وهذا ليس من وظائف الحزب السياسي المشارك في الحكومة، بل من وظائف الملكية، الذي تتابع الأوراش. ولذلك أصر قادة البيجيدي على إصدار بلاغ، ليقتبسوا منه نسبة النمو التي ستصل إلى خمسة في المائة، ونسبوها إلى حكومة العثماني، وهذا في التقاليد المخزنية، أمر غير مستحب، لكن لا يمنع من قوله، ليثبتوا أنهم حزب لا كباقي الأحزاب.

ويظل الجدل قائما، لم يحسم بعد، بين التقليد والتحديث، ويتضح أن تقاليد الحسن الثاني، لازالت حاضرة بقوة، لكن بأسلوب ناعم.

كان بنكيران يقول: "إذا عاش النسر عاشو ولدو"، يشبه بالدولة بالنسر، لكن الحقيقة التاريخية، بمنطق هوبزي، تقول: "يعيش النسر بأكل أبنائه"، وكم كان الروائي العبقري كافكا ذكيا حين شبه الدولة بالماكينة، التي أكلت أحد عمالها!.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة