بقلم: مصطفى بوكرن
قرأت للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا
ماركيز، "مائة عام من العزلة"، "الحب في زمن الكوليرا"،
"خريف البطريرك"، "عشت لأروي"، "ذكرى عاهراتي
الحزينات". أنتهي من القراءة، وأجد نفسي مغرما بعبقريته. لكن بعد أن أنهيت القراءة
الثالثة لروايته القصيرة "ذكرى عاهراتي الحزينات"، لم تبهرني حبكتها،
وتخيّلت أحداثا، لو ذكرها، ستكون مدهشة.
تحكي الرواية، قصة صحافي، أراد أن يحتفل
بعيد ميلاده التسعين، بإحياء ليلة ماجنة مع مراهقة عذراء. يشتغل الصحافي في جريدة
السلام، يكتب عمودا أسبوعيا، كل يوم أحد، ويحرر الأخبار غير المكتملة. يبوح
الصحافي بأسرار حياته الجنسية، منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، حيث ذهب إلى
فندق قديم، أراد التجسس على نساء الليل، ففاجأته إحداهن، واغتصبت عفته على سريرها.
اعترف الصحافي قائلا: "العاهرات لم يدعن لي وقتا للزواج". عاش حياة
ماجنة، ضاجع خلالها 514 امرأة، حين كان جسده في كامل لياقته، لكن بعدها، ترك حساب
العدد. خادمته التي تزوره بين الفينة والأخرى، لترتيب منزله، وإعداد الطعام، لم
يوقرها، فاجأها مرة من الخلف، فاستسلمت لإرادته.
أراد الاحتفال بعيد ميلاده، واتصل بصاحبة
الماخور روسا كاباركاس، فاستقبلت طلبه مسرورة، بشرط أن يمنحها قليلا من الوقت.
اقترحت عليه، طفلة عمرها أربع عشرة سنة، تعيل أسرتها، تطعم إخوتها الصغار، وتشتري
الدواء لأمها، المريضة بالروماتيزم. تشتغل في معمل القمصان، تخيط الأزرار. روسا
تمتلك نفوذا في المدينة، ولها علاقة قوية بالسلطة، يقول الصحافي عنها: "صحن
دارها كان جنة السلطات المحلية، بدءا من الحاكم، وحتى آخر مستخدم في
المحافظة".
صحن دارها كان جنة السلطات المحلية، بدءا من الحاكم، وحتى آخر مستخدم في المحافظة
تردد الصحافي الكبير في قبول هذا الاقتراح،
لكنه استسلم، عند سماعه حجج روسا، حيث وعدته بليلة حمراء حتى صياح الديكة. ذهب
العجوز التسعيني، إلى ماخورها، ركب طاكسي، طلب من السائق، أن ينزله أمام المقبرة،
موهما له، بأنه لا يريد زيارة بائعات الهوى. لكن السائق ، قال له: "كن حذرا،
يا سيّد، فبيت روسا، لم يعد يساوي ظل ما كان عليه". وجد الطفلة نائمة، وقد
تناولت حشيشة القط، لتذهب عنها المشقة والخوف.
كان الوضع السياسي في كولومبيا، إبان بداية
القرن العشرين، يسوده الفساد والدكتاتورية، وكانت الصحف الورقية خاضعة للرقيب.
يحكي الصحافي، أنه كتب مقالا حول الشيخوخة، فقرأه المراقب الرسمي، الذي يزور
الجريدة، في التاسعة ليلا. شطب الرقيب المقال، بمداده الأحمر دون مبرر. رفض
الصحافيون وجود المراقب، الذي يلقبونه: "رجل التاسعة البغيض"، لكنهم
قبلوه، ضميرا سيئا فيها.
يحكي الصحافي العجوز، أن دورية عسكرية،
تتأكد من هوية المارة، قبْل السماح لهم بالمرور، اعترضوا سبيله، فسأله أحدهم: ماذا
تعمل؟ أنا صحافي. منذ متى؟ قال له: منذ قرن. ونصحه في الأخير قائلا: انتبه لنفسك
كثيرا. يروي الصحافي، أن مصرفيا كبيرا قُتِل في ماخور روسا، فأنجز تحقيقا في الجريمة،
لكن "رجل التاسعة البغيض"، فرض الرواية الرسمية القائلة، بأنه كان هجوما
من قِبَل قُطّاع طرق ليبراليين !.
بدا لي، أن قصة الصحافي والسلطة، ينقصها
التشويق. يتضح أن غابرييل غارسيا ماركيز، يحكي واقعه المعيش، كما هو مدون في سيرته
"عشت لأروي". أظن أن المبدع، ليس هدفه أن ينقل الواقع كما هو. كان يمكن،
أن يبتكر قصة ممتعة، لو أرخى العنان لخياله، فيكون بحق، أديب الواقعية السحرية.
بكل تأكيد، تعرف السلطة السجل الجنسي للصحافي العجوز، لأن لها علاقة بروسا. ولذلك، لا فائدة من وجود "رجل التاسعة
البغيض" داخل الجريدة، بل عليه أن يتحول إلى رجل غير مرئي، لا يحده زمان ولا
مكان، يجمع أسرار الحصافيين، ويستعملها في الوقت المناسب، لتأليب الرأي العام
ضدهم، فتنهار مصداقيتهم الأخلاقية، ويرتاح من إزعاجهم.
ستكون نهاية الرواية رائعة، لو طلب المراقب الرسمي، من
روسا والطفلة العذراء، رفع شكاية ضد الصحافي، بتهم جنسية عديدة، فيسقط مغشيا عليه،
فيقترب من قبره. لكن نهاية الرواية، لم تخرق أفق انتظار القارئ، وكأنها تلمح إلى
الصحافيين، أن يحطموا رقم: 514.

إرسال تعليق