عبد الكريم برشيد:
إن الكتابة – في نماذجها الطيبة والحقيقية- هي شكل من أشكال السحر، وفي هذا يقول الشاعر العربي:
وذاك حرام قس كخطك بالسحر
فإن كان زهرا فهو صنع سحابة
كتبت فلولا أن هذا محلل
وإن كان درت فهو من لجة البحر
إن الكتابة إذن- رسما ومبنى- هي السحر الحلال، ولا يمكن أن تستقيم – بشكل حقيقي- إلا إذا استوفت جميع شروطها، وكانت رسالة وخطابا، وكان لهذا الخطاب كاتب يكتبه، وله قارئ يقرأ حروفه وعباراته، وله – أيضا- موضوع ومعاني يحملها، أو تحمله.
ففي كل كتابة – كيفما كانت وأينما كانت- يسكن الكاتب، ويسكن القارئ، وبينهما يمتد الصوت والصدى، وتتأسس الإشارات والعلامات، ويكون الحوار بينهما حوارا فكريا ونفسيا وروحيا، وتكون المعرفة والمكاشفة هما أساس الحروف وأساس الكلمات وجوهر المعاني والعبارات.
إن هذه الكتابة التي تنكتب هي بالأساس نشاط اجتماعي، يومي، فهي تتجدد بالأيام وفيها، وتحاول أن تساهم في تغييرها وتجديدها، وأن تجعلها تمشي باتجاه ما هو حق وحقيقة، وما هو عدل وجمال، وما هو أخوة ومساواة.
إن هذه الكتابة إذن لها علاقة حارة ومتدفقة وقلقة ومتسائلة، وذلك بحياة الناس وشؤونهم الصغيرة وبأسئلتهم الوجودية وبقضاياهم الاجتماعية المختلفة.
ولأن هذه الكتابة كانت دائما- وسوف تبقى- نشاطا حقيقيا، فقد اقترنت بالتوقيع دائما، وذلك بأسماء حقيقية لها وجود حقيقي، أسماء كتاب يعيشون معنا، ويقاسموننا نفس الأرض، ونفس السماء، ونفس الهم، ونفس الهواء، ونفس اللحظات، ونفس الساعات، ونفس الاختناق، ونفس الاحتراق.
ولأن فعل الكتابة قد ارتبط دائما بمولد الحضارات والمدنيات وبنشوء المعرفة والحكمة وبالوحي وبالارتباط بين الأرض والسماء، فقد كان دائما – وما يزال- فعلا يمثل الكشف والنبوءة، وكان أمانة ومسؤولية، وكان رسالة لها رسلها، وكان مسؤولية لها مسؤولوها، وكان سحرا لها سحرته، وكان شهادة لها شهودها وشهداؤها، وكان رحلة لها رحالاتها.
ولأن هذه الحال هي حال الكتابة، فقد كان من حق أي كاتب، تحترق أنامله بعد قلبه وكبده ودماغه وروحه، أن يوقع كتاباته. وأن يضع عليها بصماته الشخصية، وأن يكشف عن وجهه، وأن يعتز بما كتب ويكتب، وأن يعلن في الناس جهرا مسؤوليته عن كل ما سطرت أنامله، وأملت نفسه، وألا يتنكر لبنات أفكاره، وأن لا يخون شرف الكتابة وقدسيتها.
وكان شهادة لها شهودها وشهداؤها، وكان رحلة لها رحالاتها.
في الصحافة المغربية والعربية تصادفنا كل يوم أسماء متعددة ومختلفة، اسماء حقيقية مرة ومستعارة مرة أخرى، وقد يسأل سائل من الناس ويقول:
- ولماذا يعمد الكتاب إلى الأسماء المستعارة؟ وهل في هذا التخفي شيء من نكرات الذات والتواضع؟ أو هو الخوف من القارئ أو من الرقيب أو من الكتابة نفسها، وبذلك تكون الأسماء الأخرى شكلا من أشكال الهروب والتقية؟
أعتقد – شخصيا- أن كتابة يسكنها الخوف ليست كتابة، وقد تكون شيئا آخر يشبه الكتابة، أو يقترب منها، ولكنها – أبدا- لا يمكن أن تكون هي ... الكتابة.
شيء مؤكد أن الاختفاء خلف الأسماء الأخرى، هي نوع من أنواع الغش، وهو شكل من أشكال التدليس والتزييف، وهو طريقة غير سليمة للتهريب.. تهريب "بضاعة" مشكوك في أمرها.
إن الكتابة رسالة، ولا معنى لهذه الرسالة، إن لم تكن من طرف إلى آخر، وأن تكون ربطا بين معلومين وليس بين مجهولين أو بين معلوم ومجهول.
هناك استثناء طبعا والاستثناء لا يقاس عليه، وهو أن هذه الوسائل وشايات كيدية، من "فاعل خير" أو من كاب من عصابات إجرامية أو من "مافيا ثقافية" أو من كومندو نقدي وانتحاري، أو من كائنات مجهرية ليس لها في عالم الناس أسماء حقيقية، أسماء لها طول وعرض وعمق ولها جرس ورنين ولها مدلول تدل عليه.
إن الكتابة رسالة، ولا معنى لهذه الرسالة، إن لم تكن من طرف إلى آخر
إن صحافتنا الوطنية والعربية مصابة بمرض اسمه الأسماء المستعارة، وخلف هذه الأسماء تختبئ وجوه متعددة، وجوه غير وسيمة ولا مليحة ولا صادقة، وخلف الاقنعة الضاحكة كما نعلم قد تختفي الوجوه المكشرة والمقطبة والغاضبة، وخلف كثير من أقنعة العلم والفهم والحكمة والنضال قد تختفي كثير من الجهل وكثير من الأمية وكثير من العدوانية وكثير من النيات السيئة.
إن الكتاب الملثمين والمقنعين هم الوجه الآخر لرجال العصابات الملثمين، فهؤلاء يخفون وجوههم والآخرون يخفون أسماءهم، وهم كلهم يلتقون عند شيء واحد هو الاعتداء على الناس وعلى الواقع وعلى الحقيقة وعلى شرف الكتابة.
إننا نعرف وتعرفون أيضا، بأنه لا وجود لكتابة ليس وراءها كاتب، فكل فعل يرتبط بفاعله، وأنه أيضا ليس هناك كاتب ليس له اسم شخصي وعائلي يعرف به، ويستدل به عليه.
وليس هناك أيضا اسم حقيقي، في ديوان الكتابة الحقيقية، من غير أن يكون له إبداع حقيقي، وقد تكون التفاهة يتيمة والإسفاف مقطوعا من شجرة، ولكن الإبداع الجميل له والد حقيقي، ومثل هذا الوالد – المبدع والمؤسس- لا يمكن أن يتبرأ من عنوان نبوغه ودليل عبقريته ومن "مخلوقاته" الإبداعية، كما أن لا يمكن أن يكون بلا اسلاف، ينتمي إليهم، ويضيف عليهم شيئا من فكره ومن روح واقعه وعصره.
وليس هناك أيضا اسم حقيقي، في ديوان الكتابة الحقيقية، من غير أن يكون له إبداع حقيقي
وبناء على كل هذه المقدمات والبديهيات يمكن أن نخلص إلى النتيجة التالية، وهي أن لا وجود لمبدع، صنع اسمه، واسسه وركبه، حرفا حرفا، ونحته بأظافره على الصخر، يمكن أن يتخلى – وبسهولة- عن هذا الاسم، وأن يقنع بوهم الأسماء الشبحية واللاموجودة، والتي يمكن أن يكون لها أي جرس او رنين او أي معنى. ولهذا أمكن القول بان الأسماء المستعارة هي دائما وبالضرورة أسماء من لا اسماء لهم، ومن لا وزن لهم، ومن لا تاريخ لهم ولا جغرافية لهم. ومن كانت له في بورصة الإبداع اسهم محترمة، وفي بنك الكتابة أرصدة ثقيلة فإنه لا يمكن ان يفرص فيها، وأن يتنكر لها، وأن يلغيها بجرة قلم، أو أن يهرب منها إلى الأسماء الشبحية. ومن كان اسمه المتنبي – مثلا- هل يمكن أن ينكر اسمه، وأن يوقع باسم مستعار، وأن يصبح اسمه الجيلالي أو قدور أو الفاطمي؟
في شعر الملحون يصر الشاعر على ان ينهي قصيده بذكر اسمه ونسبه، ويكون هذا – في أغلب الأحيان- مقترنا بكثير من الاعتزاز بالنفس وبشاعريته وقريحته.
وفي مغرب اليوم، حيث يكثر الحديث عن المجتمع المدني وعن حقوق الإنسان – كما هو متعارف عليها دوليا- وحيث يتم ترسيخ دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات، وحيث تتم الدعوة إلى الديمقراطية والانحياز إليها. وذلك في الخطابات الرسمية والشعبية، حيث يصر الجميع على الحوار وعلى اخلاقياته وعلى الاحتكام إلى المواجهة – الواضحة والصريحة- وذلك في هذا المغرب الجديد والمتجدد، في ظل هذه المعطيات إذن، وفي ضوء هذه الشروط تصبح الكتابة بالاسم المستعار ردة إلى الخلف، وتكون خيانة لهذه اللحظة التاريخية وتخلفا عن روح وجوهر الواقع، وتكون أيضا تنكر لجوهر الإبداع الحق، والذي يؤثث فضاءاته الصدق، والشفافية والوضوح والمسؤولية أيضا.
إرسال تعليق