كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية، أو بعبارة أدق، تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة، لأن الدولة هي الوجه الموضوعي القائم في حين أن الحرية تطلع إلى شيء غير محقق.
ماذا تعني التربية إذا لم تعن معاناة سلطة الأب أو الأم أوالحاكم أو الخالق؟
ماذا تعني الحرية إذا لم تعن نقيض المعاناة المذكورة، أي الوعي بحدود موضوعه على التصرف؟
من عاني السلطة، أية سلطة، يسمع في نهاية المطاف كلمة دولة التي تتجمع فيها ينابيع جميع السلطات. يعيش المرء طوال حياته، وحتى مماته، دون أن يتساءل مرة واحدة عن مضمون الدولة، ذلك ما يقع بالفعل لأغلبية الناس، وذلك أيضا ما يتمناه أصحاب السلطة، لكن لا يحتمل أن يحيي المرء دون أن تطرق سمعه كلمة دولة. ما أكثر الأسئلة التي يطرحها الأطفال والتي تستتبع جوبا واحدا: هذا أمر من الدولة !! لماذا نقف عند الضوء الأحمر في الشوارع؟ لماذا نذهب إلى المدرسة ونحن أطفال؟ لماذا نؤدي الضرائب ونحن رجال؟ لماذا لا ندخن في القاعات العمومية؟.. إلخ. إن القانون العام عندما يعرف الدولة لا يزيد على تسجيل هذا الواقع الاجتماعي، هذا المعطى الإنساني الأول، هذه المعاناة التي لا يستثنى منها أحد، حيث يأخذ الدولة كإحدى الظواهر الإنسانية العامة.
تواجهنا الدولة أول ما تواجهنا كأدلوجة، أي كفكرة مسبقة، كمعطى بديهي، يطلب منا أن نقبله بلا نقاش، كما نقبل خِلقتنا وحاجتنا إلى الأكل والنوم واتكالنا على العائلة أو العشيرة. نقبل إذن، من ضمن ما نقبل بدون نقاش، وجود دولة وضرورة الانقياد لأوامرها التي يشخصها دائما فرد قريب منا: الشيخ، المعلم، الأب. ولا يجدي في شيء أن نتصور حالة سابقة لظهور الدولة. حتى لو وثقنا بوجود تلك الحالة، فإنها لن تنفعنا في فهم الدولة القائمة حاليا، كما أن حالة الكون قبل ظهور الإنسان لن تنفعك في إدراك فيزيولوجية الإنسان الحالي. من الخطأ تصور شخص لم يسمع البتة بأي رمز من رموز الدولة لنركب من أمثاله دولة. إن أية عملية تركيبية من هذا النوع تحمل في ذاتها خطأ مبدئيا يستحيل التغلب عليه فيما بعد. الأجدر بنا أن ننطلق من الدولة كواقع مزامن للإنسان الذي نعرفه الآن، لأننا نريد أن نعرف الدولة التي يواجهها ذلك الإنسان، لا غيره.
الدولة إذن سابقة على التساؤلات حول الدولة.
أدلوجة الدولة سابقة على نظرية الدولة.
النص مقتبس من كتاب مفهوم الدولة، عبد الله العروي، الناشر المركز الثقافي العربي، الطبعة العاشرة، 2014، ص: 5، 6.

إرسال تعليق