بقلم: محمد عابد الجابري
1- ركوب إسبانيا على الاستفتاء لإضفاء الشرعية على الدويلة المصطنعة.
أصبح الوضع خطيرا إذا، مع اكتشاف فوسفاط بوكراع قريبا من العيون، وظهر نوع من التفاهم بين الحكم في الجزائر والحكم الفرنكووي في مدريد على حساب المغرب ووحدة أراضيه لقد قررت إسبانيا منح نوع من الاستقلال الذاتي الأقاليم الصحراوية وضمنت، أو كادت، تحالف الحكم في الجزائر معها مقابل ممر إلى المحيط الأطلسي أو حصتين في فوسفاط بوكراع. و بالنسبة إلى المغرب لم يكن يتعلق الأمر بحسابات اقتصادية، فالخطر كان أعظم من ذلك أنه تطويق المغرب من الجنوب وفصله عن الصحراء وموريتانيا وأفريقيا. أما الاستفتاء الذي كانت تريد إسبانيا الركوب عليه لإضفاء الشرعية على الدويلة التي تريد صنعها، معتمدة في ذلك علي مبدأ "تقرير المصير" الذي أقرته الأمم المتحدة، فقد كانت نتائجه معروفه سلفا. كان هناك في الساقية الحمراء ووادي الذهب 80.000 جندي إسباني مقابل 50,000 من السكان لا يمكن أن يصوت منهم إلا النصف أو نحوه. هذا في حين كان أكثر من هذا العدد قد لجأ أهل إلى الشمال، هروبا من القمع الذي مارسته القوات الإسبانية خلال عمليات جيش التحرير ضدها. لقد كان "الاستفتاء" عملية المفضوحة يراد منها إضفاء الشرعية الدولية على وضع مزور من الأساس.
2- مسطرة تصفية الاستعمار عبر الاستفتاء لا تنطبق على المغرب
تلك هي الأخطار التي وعاها الملك الحسن الثاني، خصوصا أن الملك في المغرب يستمد شرعيته، أولا وقبل كل شيء، من كونه المؤتمن على وحدة المغرب أرضا وشعبا. إن الأمر يتعلق إذا، بقضية وطنية لا يجوز التخلي عنها ولا وضعها في مقابل مطالب حزبية حتى لو كانت هذه المطالب تتعلق برفع الظلم والمنع والقمع. لقد كان الاتحاد مقتنعا بأن مسلسل الإنقاذ لقضيتنا الوطنية سيطول، وأن الفرصة ستتاح له لربط قضية التحرير بقضية الديمقراطية.
قبل الاتحاد إذا خوض معركة استرجاع الصحراء. وكانت المشكلة التي لابد منها إيجاد وسيلة للتخلص منها، أو على الأقل لربح الوقت فيها، هي الاستفتاء الذي كانت إسبانيا تعتزم إجراءه تحت مظلة الأمم المتحدثة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1975، بينما كان المغرب ينادي باستمرار بأن الصحراء جزء من ترابه الوطني، وأن مسطرة تصفية الاستعمار بواسطة الاستفتاء لا تنطبق عليه. غير أن هذه الدعوى، وإن كانت صحيحة، فهي لا تصمد أمام مناورات الخصوم، خصوصا وهم متمسكون بشعار "تقرير المصير" الذي كان مبدأ أمميا معتمدا لا نقاش حوله.
فما العمل إذا؟
3- مقترح عبد الرحيم بوعبيد الخلاق.
هنا تأتي مبادرة الاتحاد الخلاقة. لقد اهتدى المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يحمل هم الصحراء على كتفه منذ لقائه التاريخي مع الملك الحسن الثاني في يونيو 1974، اهتدى إلى فكرة خلاقة اقترحها على الملك الحسن الثاني فوافق عليها: فكرة عرض القضية على محكمة العدل الدولية. وكاتب هذه السطور ما زال يذكر كيف شرح لنا المرحوم الفكرة وأبعادها قبل أن يقرر عرضها على الملك. قال المرحوم: نحن نقول إن الصحراء الغربية أرض مغربية وإسبانيا تدعي أنها وجدتها أرضا خلاء غير منضوية تحت أي حكم أو دولة، وبالتالي فالصحراء الغربية في نظرها مستعمرة كباقي المستعمرات ينطبق عليها مبدأ تقرير المصير كما ينطبق على غيرها ! ويضيف المرحوم عبد الرحيم: هناك إمكانية للطعن في هذه الدعوى والخروج من المأزق. ذلك أنه يمكن طبقا للقوانين الدولية وللقوانين المنظمة الأممية أن نقدم طلبا إلى الأمم المتحدة نفسها نطلب فيه بأن تطلب رأي محكمة العدل الدولي في هذا الأمر، أن تفصيل بين دعوى إسبانيا ودفوعات المغرب. ومع أننا لا نطمح في أن تنصفنا المحكمة مائة في المائة نظرا لاعتبارات متعددة، فإن إحالة القضية على محكمة العدل الدولية سينتج عنها تأخير "الاستفتاء"، إذ لا بد من وقت لكي يحضر كل طرف ملفه ولا بد من وقت للمرافعات ثم لا بد من وقت للقضاة كي يدرسوا الملف. وهكذا- يقول المرحوم- سنربح الوقت، ونحن في حاجة ماسة إليه.
4- قبول الملك الحسن الثاني لمقترح بوعبيد.
بمثل هذه العبارات شرح لنا المرحوم فكرته قبل أن يقدمها لجلالة الملك. وقد نالت القبول والاستحسان فصدر الأمر بالعمل على تنفيذها. وهكذا رفعت الحكومة المغربية بتاريخ 17 شتنبر 1974 طلبا إلى الأمم المتحدة تطلب فيه تحكين محكمة العدل الدولية، الأمر الذي فاجأ خصوم وحدتنا الترابية. فعلا، وجهت الأمم المتحدة في 13 ديسمبر 1974 سؤالا إلى هذه المحكمة مضمونه كما يلي: هل كانت الصحراء الغربية، قبل احتلال إسبانيا لها، أرضا تابعة لإدارة المغرب وواقعة تحت سيادته أم أنها كانت أرضا خلاء لا مالك لها؟ وقد طلب القرار الأممي الذي يخص طرح هذا السؤال من إسبانيا أن تكف عن القيام بأية مبادرة خاصة، أي أن توقف إجراء الاستفتاء. وكان هذا هو الكسب الأول، كسب الوقت.
5- انضمام موريتانيا إلى المغرب بمنحها الجزء المجاور لها من الصحراء تحت إدارتها.
رفعت القضية إذا إلى محكمة العدل الدولية. وبدأ كل طرف يعد ملفه، والأمر الأول الذي كان لا بد من الانشغال به هو موقف جيران المغرب الذين لا بد من أن تطلب محكمة العدل شهادتهم، والجيران المعنيون هم الجزائر وموريتانيا. أما حكام الجزائر فقد كانوا متواطئين مع إسبانيا كما ذكرنا، فلا مجال للانشغال بهم، وإذا كان لا بد من كسب موريتانيا إلى جانبنا. ولكن كيف، والعلاقات معها "باردة" يكسوها ضباب كثيف من عدم الثقة من جانب المسؤولين الموريتانيين منذ أن كان المغرب يطالب بها؟
هنا أيضا سيقوم المرحوم عبد الرحيم بوعبيد بمبادرة ستغير ميزان القوى لصالح المغرب. فعندما شارك المرحوم في الوفد المغربي لدى الأمم المتحدة التي كانت تناقش القضية، استطاع أن يقنع الوفد الموريتاني وبالتالي حكومته، على الوقوف إلى جانب المغرب. كانت الحكومة الموريتانية في وضعية حرجة إزاء مصير الصحراء الغربية، إذ كان عليها أن تختار بين جار هو المغرب، لم يتم بعد ترتيب علاقات معه بكيفية نهائية تبعث على الاطمئنان، وبين جار آخر هو دولة مصطنعة تسيرها إسبانيا والجزائر، وبقيام هذه الدولة ستصبح موريتانيا منخرطة في سلك "الأنظمة الثورية" والتي لن تتردد بالتالي في قلب الوضع في موريتانيا نفسها وتنصيب دولة مصنوعة فيها. ولقد كان هذا الاحتمال واردا على الأقل في ذهن الموريتانيين لما خبروه في الحكام الجزائريين من ميولات إلى الهيمنة خلال السنوات السابقة.
كان المرحوم عبد الرحيم يدرك وقع هذه المعادلة الصعبة على الإخوة الموريتانيين. والحل الذي سيكون في صالح المغرب يمكن في تقديم ضمانات حقيقية لموريتانيا تزيل مخاوفها من جارها المغرب. وهكذا اقترح المرحوم أن تدخل موريتانيا كشريك في القضية لأن الصحراء لا حدود لها وسكان الصحراء الغربية كانوا يتنقلون بين المغرب وموريتانيا كما يتنقل الإنسان في وطنه. ولذلك ارتأى عبد الرحيم أنه لا مانع من تلبية طلب الرئيس ولد داده بوضع الجزء المجاور لموريتانيا من الصحراء تحت إدارة الحكومة الموريتانية، وبذلك تنضم موريتانيا الشقيقة إلى المغرب فتدافع أمام محكمة العدل الدولية عن القضية نفسها مع المغرب. لا مانع لدى المغرب أن تتولى موريتانيا إدارة وادي الذهب كفاصل بينها وبين المغرب إذا كانت ترغب في هذا الفاصل. بل إن هذا الفاصل يمكن أن يتحول إلى وسيلة للاتصال بين المغرب وموريتانيا وذلك بإقامة تداخل اقتصادي وثقافي بين الدولتين في اتجاه المصلحة المشتركة. وافق الملك الراحل على هذا الاقتراح الذي رأت فيه الحكومة الموريتانية أنه سيجنبها الوقوع تحت ما تتوقعه من مشاكل لو نجحت إسبانيا والجزائر في اقتطاع الصحراء من المغرب. وحصل الاتفاق التاريخي بين المغرب وموريتانيا، الاتفاق الذي سيغير من معطيات القضية، بل من الخريطة السياسية في المنطقة كلها.
كان ذلك إذا هو مضمون اتفاق نيويورك الذي سهر عليه المرحوم عبد الرحيم بعد موافقة جلالة المرحوم الحسن الثاني عليه. وقد رد المرحوم عبد الرحيم على من كان يرى في هذا الاتفاق "تنازلا" عن حق المغرب في وادي الذهب فقال: "هناك من يقول إن هذه المناطق هي للمغرب لا لموريتانيا التي خلقت بالأمس. ونحن نعتقد أنه من الخطأ أن نسير اليوم في هذا الاتجاه. إن وطنية القرن العشرين وطنية متفتحة تأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي في القارة الإفريقية. إن التداخل بين المغرب وموريتانيا نأمل أن يتطور إلى قيام كونفدرالية بيننا وبينها".
وهكذا تقدم المغرب وموريتانيا أمام محكمة العدل بخطة موحدة . وقد وضع المغرب ملفه لدى محكمة العدل الدولية يوم 25 مارس 1975. ولم يكن من الممكن أن يستمر الحكام الجزائريون في التستر تحت الشعارات، لقد اضطروا إلى إعلان وقوفهم إلى جانب إسبانيا لدى محكمة العدل الدولية. وقد استغلت الجزائر وجود الأستاذ المحامي البجاوي الجزائري الجنسية عضوا في المحكمة فقام بكل ما يستطيع القيام بها لفائدة موقف حكومته. وهكذا أخذ يتضح مع الوقت أن الكسب المضمون الذي حصل عليه المغرب من تقديم القضية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي هو ربح الوقت. ولكن ربح الوقت ليس هدفا في ذاته، إنما هو وسيلة تمكن من التفكير والعمل في مجالات أخرى.
مصدر النص: في غمار السياسية، محمد عابد الجابري، ج3، ص127.

إرسال تعليق