U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

محمد عابد الجابري يكتب: تحرير الصحراء الغربية بجيش التحرير أم بالمسيرة الخضراء؟ 9/3

 




بقلم: محمد عابد الجابري


أولا: لجنة تقصي الحقائق... ومسيرة أكادير


ليس ثمة شك في أن "المسيرة الخضراء" التي نظمها الملك الراحل الحسن الثاني ستبقى علامة بارزة في نضال المغرب شعبا وملكا من أجل استكمال وحدة ترابه الوطني، ولن يكون بإمكان أي مؤرخ لهذا النضال تجاهل هذا الحدث التاريخي الذي كانت له أصداء عالمية واسعة، والذي يرجع إليه الفضل في ما حدث من نكسة في مناورات خصوم وحدتنا الترابية ومن تقدم على صعيد مسلسل نضال المغرب من أجل استرجاع صحرائه.



ذلك أمر لاشك فيه. ولكن مهمتنا هنا ليست كتابة التاريخ على الطريقة التي يسلكها التاريخ الرسمي. إن المجال هنا مجال الذكريات، مجال النبش في ملفات الذاكرة، من أجل إحياء ما يهمله التاريخ الرسمي عادة.


أصدرت الأمم المتحدة قرارا بتاريخ 13 دجنبر 1974 يطلب من محكمة العدل الدولية -وفقا لطلب المغرب- النظر في ما إذا كانت الصحراء الغربية قبل الاحتلال الإسباني مرتبطة بالمغرب، كما يؤكد هذا الأخير، أم أنها كانت أرضا خلاء كما تدعي إسبانيا؟ وفي إطار هذا القرار طلب المغرب وموريتانيا من الأمم المتحدة 15 - 16 أبريل 1975، إرسال لجنة لتقصي الحقائق في الصحراء ومحيطها لمساعدة محكمة العدل الدولية. وعندما علمت الحكومة الجزائرية بذلك وجهت الدعوة إلى اللجنة نفسها لتتقصى الحقائق بوصفها جارة معنية. شكلت الأمم المتحدة اللجنة المطلوبة، وكلفت بمهمة تقصي الحقائق في الجهات المعنية في الفترة ما بين 22 و27 مايو 1975. وأن تبدأ إسبانيا لتصل إلى المغرب يوم 23 مايو 1975 وتنزل في أكادير. وبهذه المناسبة قرر الاتحاد الاشتراكي، في إطار تعبئة الجماهير الشعبية لإظهار إجماع الشعب المغربي على استرجاع صحرائه، تنظيم مسيرة كبرى في أكادير، وعقد مؤتمر إقليمي للاتحاد بالمناسبة نفسها تعبر فيه الأقاليم الجنوبية عن موقفها من قضية وحدتنا الترابية.


هكذا صدرت جريدة المحرر يوم مايو 1975، وهي تعلن ما يلي على ثمانية أعمدة:


"في إطار التعبئة العامة لتحرير الأراضي المغتصبة:
الاتحاد الاشتراكي ينظم اليوم مسيرة شعبية بأكادير.
المؤتمر الإقليمي الاستثنائي بإقليم أكادير ينعقد تحت شعار النضال الملموس من أجل تحرير الصحراء".


وفي عدد الغد صدرت المحرر بالعناوين التالية على ثمانية أعمدة:
"مسيرة شعبية ضخمة ينظمها الاتحاد الاشتراكي أمس في أكادير. المؤتمر الإقليمي الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي بأكادير يطالب بخوض حوب تحرير شعبية لاسترجاع أراضينا المغتصبة".


المؤتمر يشدد على ارتباط العمل الجماهيري للتحرير بتصفية الجو السياسي وإقرار ديمقراطية حقيقية".


وقد وصف مراسلنا هذا الحديث الكبير - أعني مسيرة أكادير- فكان مما ورد في تقريره ما مخلصه:


نظم فرع الاتحاد بأكادير بمناسبة المؤتمر الإقليمي الاستثنائي مسيرة ضخمة انطلقت من مقر الاتحاد وعلى رأسها عبد الرحيم بوعبيد ومسؤولون اتحاديون وعدد كبير من قدماء المقاومين وجيش التحرير، إضافة إلى وفود من مدن آسفي وطنطان وكوليمين مع جماهير غفيرة من مدينة أكادير والناحية. لقد جالت المسيرة معظم شوارع المدينة لتلتحق في النهاية بفندق الأطلس حيث كانت تقيم اللجنة المكلفة بتقصي الحقائق. وكانت الجماهير تهتف بشعارات التحرير من بينها "حرب التحرير الشعبية هي طريق الحرية".


أما البيان الذي أصدره المؤتمر الإقليمي، فيعد أن سجل مناورات الحكم الإسباني والحكم الجزائري، وبعد أن ذكر بالدور الذي قام به جيش التحرير المغربي في أواخر الخمسينيات من أعمال بطولية مكنت من تحرير أراضينا الصحراوية، باستثناء جيوب شاطئية احتمى بها الجيش الإسباني، وبعد أن أبدى تخوفه من المناقشات والمناورات التي تتخذ موضوعا لها قضيتنا الوطنية، سجل إجماع الجماهير المغربية ومنظماته مؤكدا:


"أن تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب والمناطق المحتلة في الشمال لا يمكن أن يتم بالاعتماد على المساعي الديبلوماسية ومقررات المنظمات الدولية مهما كانت حججنا التاريخية والجغرافية والسياسية سليمة ومهما كانت مساندة القوى الديمقراطية والتحررية عبر العالم. ويؤكد أن هذا التحرير لن يتم إلا بتعبئة الجماهير الشعبية لمواجهة الاستعمار المباشر وغير المباشر وذلك بخوض حرب تحرير شعبية. كما يؤكد أن هناك ارتباطا جدليا ما بين تحرير المناطق المغتصبة وتحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية لضمان مساهمة الجماهير في وضع استراتيجية صحيحة... كما يطالب بالإسراع بتصفية الجو السياسي في البلاد بإطلاق سراح جميع المعتقلين... ويوجه نداء حارا للمواطنين بإقليم أكادير وطرفاية وأبناء الصحراء للعمل على تعبئة شعبية حقيقية لجماهير الأقاليم المتاخمة للصحراء المغتصبة وداخل الساقية الحمراء ووادي الذهب تعبئة في إطار الوطنية الصادقة والاختيار الديمقراطي الاشتراكي التحرري ويطلب من كل فروع الاتحاد الاشتراكي أن يشكلوا لجانا لليقظة قصد الإعداد لمواجهة المستعمر وأعوانه".


كانت لجنة تقصي الحقائق قد زارت مدريد قبل مجيئها إلى أكادير، وصادف ذلك أن أعلنت المحكمة الدولية عن قبول تعيين المغرب مندوبا عنها في المحكمة، وفي الوقت نفسه بدأت منظمة "الاتحاد الوطني الصحراوي" المنادية بمغربية الصحراء تقوم بمناوشات عسكرية ضد القوات الإسبانية وجماعة البوليساريو التي كانت قد سقطت في تلك الفترة أيضا في حضن الحكام الجزائريين... في هذه الظروف التي يلفها غموض كثيف وبالضبط في اليوم الذي حدده الاتحاد لمسيرة أكادير 23 مايو 1975 فاجأت الحكومة الإسبانية برئاسة فرانكو الجميع بتصريح تعرب فيه عن "رغبتها في الانسحاب من الصحراء بكيفية تلائم السكان وتسلميها إلى أي مطمح شرعي في البلدان المعنية في المنطقة، مع العمل على الحفاظ على مصالحها". وبعد أيام سيتضح الموقف عندما طرحت منظمة البوليساريو، في ندوة بباريس، ولأول مرة، فكرة الانفصال عن المغرب وتكوين دولة مستقلة، وهو الموقف نفسه الذي عبرت عنه المنظمة نفسها لبعثة تقصي الحقائق الأممية عندما زارت الجزائر وقادتها الحكومة الجزائرية إلى تندوف حيث كانت مخيمات البوليساريو. لقد تبين أن التحالف الإسباني الجزائري، فضلا عمن يتفق معهما في الخفاء، سيشوش على رؤية محكمة العدل الدولية، وبالتالي فالقرار لن يكون حاسما لفائدة المغرب، بل لابد من أين يكون فيه "ولكن.. !". وقد صار ذلك شبه مؤكد بعد أن بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء لجنة لتقصي الحقائق، والصحراء لاتزال تحت الإدارة الإسبانية، الأمر الذي أثار مخاوف المغرب. وقد تأكدت هذه المخاوف عندما ما تشرب مضمون التقرير الذي أعدته، وتبين أنه في غير صالح المغرب مئة في المئة.



ثانيا: الاتحاد يتحفظ ويؤكد: لا بديل عن جيش التحرير..




لم تمر سوى أسابيع حتى أخبرنا المرحوم عبد الرحيم، في المكتب السياسي، أن جلالة الملك الراحل قد أخبره عن نيته في تنظيم مسيرة سلمية، تضم مئات الآلاف من أفراد الشعب المغربي رجالا ونساء، للعبور بصورة سلمية إلى الساقية الحمراء.


درسنا الفكرة وانتهينا إلى نتيجة وهي الطريقة الوحيدة المضمونة لاسترجاع أقاليمنا الصحراوية، الطريقة المعترف بها دوليا، هي حرب التحرير الشعبية، أي تكوين جيش للتحرير يحرر الصحراء من القوات الإسبانية، وقد كانت إسبانيا في وضعية مأزومة داخليا بعد نجاح ثورة البرتغال وقيام تنظيم ثوري مماثل في إسبانيا نفسها "الأمر الذي سيجعل حدا لنظام فرانكو"، كما سيكون من مهام جيش التحرير قطع الطريق أمام تنظيم البوليساريو الذي صار واضحا آنذاك أنه قد أصبح مرتهنا لحكام الجزائر.


قررنا إذا إبلاغ جلالة الملك بعد اقتناع والاتحاد بفكرة المسيرة وإلحاحه، في المقابل، على تأسيس جيش للتحرير يقوم بتحرير الصحراء وتصفية الاستعمار فيها على غرار ما حصل في المغرب في الخمسينيات وفي غيره من البلدان التي كانت مستعمرة. استقبل الملك الراحل المرحوم عبد الرحيم الذي شرح له وجهة نظر الاتحاد في الاتجاه الذي اتخذته القضية في محكمة العدل الدولية والمناورات الإسبانية وتواطؤ الجزائر معها وإدخالها "البوليساريو" في المعادلة، البوليساريو الذي لم يعد يدعي أن هدفه تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني بل لقد بات ينادي بدولة مستقلة... إلخ. وأبلغ المرحوم عبد الرحيم جلالة الملك أن الاتحاد لا يرى بديلا من تكوين جيش التحرير.



كان جلالة الملك الراحل واعيا لجميع هذه الأخطار والملابسات، ولكنه كان ينظر أيضا من زاوية أوضاع وملابسات أخرى محتملة، فكان رأيه أنه ليس من الحكمة توزيع السلاح في الصحراء، فقد يرحل به بعض الناس إلى الشمال ! ولذلك فهو يفضل انتظار النتائج الدبلوماسية والمضي في تنظيم المسيرة الخضراء.


اما نحن فقد كنا ننظر إلى المسيرة تضم مئات الآلاف من المغاربة، والتي سيكون عليها أن تقتحم الحدود، بوصفها سلاحا ذا حدين: ذلك أنه من المحتمل جدا أن القوات الإسبانية ستعترض طريقها، وفي هذه الحالة سيكون على الجيش الملكي أن يهب للدفاع عن المواطنين العزل فكيف سيكون مصير هؤلاء وهم يعدون بمئات الآلاف إذا حصل اشتباك حقيقي بين القوات المغربية والقوات الإسبانية؟ ثم إن اقتحام الحدود بواسطة المسيرة لن يتعدى كيلومترات معدودة، إذ من المستعبد أن تصل المسيرة إلى العيون والسمارة وبوجدور ! فماذا سيكون عليه الموقف إذا قامت الجزائر بمؤازرة من إسبانيا بدفع جبهة البوليساريو إلى استيلاء على المناطق التي لن تصلها المسيرة وأعلنت فيها عن دولتها؟ في هذه الحالة سيكون المغرب قد حرر بضع كيلومترات بواسطة المسيرة في مقابل دولة مصطنعة تساندها إسبانيا والجزائر وتستولي على معظم الأراضي في الصحراء؟



لهذه الاعتبارات وغيرها ولاطلاع الهيئات المسؤولة ومن ورائها الجماهير الشعبية على الأخطار التي تتهدد وحدتنا الترابية قرر المكتب السياسي استدعاء اللجنة الإدارية الوطنية للانعقاد قصد دراسة الموقف. بالفعل عقدت اللجنة الإدارية يوم 15 شتنبر 1975 دورة استثنائية وأصدرت بيانا نشرته المحرر في اليوم التالي، إلى جانب نص التقرير التوجيهي القوي، والواضح جدا، الذي القاه المرحوم عبد الرحيم في أعضاء اللجنة. لقد ذكر المرحوم بتطورات قضية الصحراء منذ الاستقلال، كما ذكر بالظروف التي انخرط فيها الاتحاد في مسلسل استرجاع الصحراء، محللا الوضعية كما كانت في تلك الظروف الحرجة، فأخبر اللجنة الإدارية بطلب المكتب السياسي بإنشاء جيش للتحرير تشرف عليه هيئة عليا تضم عسكريين من الجيش الملكي وممثلين عن المقاومة وجيش التحرير وآخرين عن الأحزاب، هيئة تضع استراتيجية متكاملة للعمل السياسي والدبلوماسي والعسكري بواسطة جيش للتحرير. وقد أخبر المرحوم أعضاء اللجنة أن المكتب السياسي أعد مشروع بيان يعرضه عليهم للمناقشة والمصادقة. وجاء هذا البيان ضافيا يتناول مختلف التطورات التي كانت قد عرفتها قضية وحدتنا الترابية إلى ذلك التاريخ. وقد ركز بالخصوص على اقتراح تكوين هيئة وطنية للتحرير الوطني وتشكيل جيش التحرير... وقد نشرت المحرر ذلك البيان تحت عناوين منها:


اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد: "لندخل معركة التحرير فورا، فالوقت لا يرحم، وليتحمل الجميع مسؤوليته.
الأخ عبد الرحيم يقول: رغم المأزق الحالي يمكن إنقاذ الموقف بالدخول فورا في معركة التحرير".


وتتوالي الأيام بسرعة وتطورات القضية تسير باتجاه معاكس: مناورات، تحالفات، تصريحات... كلها تنال من حق المغرب في استرجاع صحرائه واستكمال وحدة أراضيه. ويطلب المرحوم عبد الرحيم مقابلة جلالة الملك ليؤكد له أن الطريق الوحيدة لتحرير الصحراء بعد التطورات الأخيرة هي تكوين جيش التحرير. كما أعرب المرحوم لجلالته عن استعداد الاتحاد الاشتراكي لتأسيس جيش للتحرير تحت مسؤوليته يكون تحت المراقبة المباشرة للجيش الملكي. لكن رد جلالته كان أن القوات المسلحة الملكية مستعدة للتدخل عندما يقتضي الأمر ذلك، وأنه لا بد من تنفيذ المسيرة أولا.



استدعى المكتب السياسي اللجنة الإدارية الوطنية مرة أخرى لعقد اجتماع طارئ يوم السبت 11 أكتوبر 1975. كان الهدف من الاجتماع إخبار المناضلين والرأي العام الوطني بالتطورات المستجدة. وعلى رأسها اطلاع الاتحاد على وثيقة خطيرة قدمت إلى الأمم المتحدة تكشف عن المخطط الذي اتفقت عليه إسبانيا مع حكام الجزائر بخصوص صحرائنا المغتصبة. وهذه الوثيقة عبارة عن بيان وجهته إلى الأمين العام للأمم المتحدة المجموعة التي كانت تسمى بـ "مجموعة الكويرة" المنتمية إلى البوليساريو والتي اضطرت إلى الفرار إلى دكار بعد القمع الوحشي الذي تعرض له أفراد من البوليساريو احتجوا على استحواذ الشرطة السياسية الجزائرية على قضية الصحراء.


ونشرت المحرر نص الوثيقة ولخصت مضمونها في عناوين كبيرة جاء فيها: "وثيقة تفضح أسرار وخطورة معاهدة التواطؤ بين الحكام الجزائريين والفاشية الإسبانية. معاهدة عسكرية ضد المغرب في الشمال ومن أجل الحماية العسكرية لكيان مصطنع في الصحراء. توزيع الغنيمة اقتصاديا بين الجزائر وإسبانيا من حيث المعادن والصيد البحري. توفير ممر للجزائر إلى المحيط الأطلسي عبر الساقية الحمراء من أجل نقل حديد تندوف. موظفون سامون جزائريون مستعدون للإدلاء بشهادتهم أمام الهيئات الدولية. استحواذ الشرطة العسكرية الجزائرية على البوليساريو".



ثالثا: الاتحاد مستعد لتكوين جيش للتحرير يتحمل مسؤوليته.




خصص المرحوم عبد الرحيم خطابه لشرح هذه الوثيقة الخطيرة. كما أخبر اللجنة الإدارية عن توقيع اتفاق في العيون بين المدعو ولد سيدنا والوالي زعيم البوليساريو على مقاومة المغرب. وأن عناصر من البوليساريو أخذت تحل محمل القوات الإسبانية. ثم تعرض للوثيقة المشار إليها فلخص مضمونها وشرح أبعادها وانتهى إلى القول:

"إننا في سباق مع الزمن والموقف يتطلب الدخول فورا في معركة التحرير". وأضاف: "إن الموقف جد حرج ولم يعد يتحمل الانتظار. إننا نعتقد أن المعركة ستطول. ولكن ينبغي ان تبدأ من اليوم. إننا نؤكد بأن جيش التحرير هو الجهاز الذي سيقوم بما يمكن إنجازه في ظرف وجيز جدا، وأنه لا بديل لهذا الحل. وإذا كانت هناك حلول مقدمة وفيها فعالية فإننا لا يمكن إلا أن نساندها وأن نعمل على نجاحها ولكن لحد الساعة لم تظهر أية حلول أخرى مقنعة، حلول من شأنها أن تضعف الجيش الاستعماري وتحبط مخططه في المدى القريب. لذلك، فإننا نطالب بتكوين جيش التحرير في أقرب وقت. إن الظرف موات جدا خصوصا واتخاذ مبادرات ضد الجيش الاستعماري ستخلق ظروفا مواتية داخل إسبانيا نفسها وتجعل الطامعين يكشفون عن مخططاتهم ونياتهم الحقيقية في وقت تتم فيه مداولات الأمم المتحدة حول شعار: "تقرير المصير". إننا مقتنعون كل الاقتناع بضرورة الاستعجال وتكوين جيش التحرير فورا. ونعتقد أن تأسيس جيش التحرير يطرح المسؤولية التاريخية. ونضيف بأن إلحاحنا على هذا الحل لا دافع له سوى الغيرة على بلادنا وتوفير شروط الانتصار الذي هو انتصار وطننا وشعبنا بأجمعه. ونؤكد للجميع أنه ليس لدينا نيات ولا حسابات حزبية ضيقة. ومن هذا الإطار، ونظرا لضخامة المسؤولية المطروحة على عاتق كل مواطن في هذه البلاد. فإن الاتحاد الاشتراكي يؤكد أنه لا يتردد في القول بأنه لو أتيحت الفرصة لتحمل مسؤوليته في هذه المهمة الوطنية الكبرى، ولو مكنته الدولة من الوسائل المادية الضرورية لما تردد في تحمل مسؤولية تكوين جيش للتحرير، ولما تردد في القبول المسبق بجميع المتطلبات والتضحيات التي يستلزمها الكفاح التحريري". ثم أضاف "وأؤكد أننا مستعدون لتحمل كل المسؤوليات التي يقتضيها تحرير أراضينا المغتصبة".


تلك فقرات من خطاب المرحوم عبد الرحيم في اللجنة الإدارية الوطنية المنعقدة يوم السبت 11 أكتوبر 1975.


رابعا: محكمة العدل الدولية تقول: نعم... ولكن !




وتأتي التطورات اللاحقة بعد أيان فقط لتؤكد صحة توقعات الاتحاد وصدق مخاوفه ! فقد وضعت اللجنة الأممية لتقصي الحقائق تقريرا ألحت فيه على "َضرورة استشارة السكان ليقودوا مستقبلهم حسب طرق قد تحددها لجنة أممية أخرى". وكان ذلك في 15 أكتوبر 1995 ! وقد أعقبه مباشرة يوم 16 أكتوبر قرار لمحكمة العدل الدولية تقول فيه: نعم... ولكن ! نعم: "الصحراء لم تكن أرضا سائبة، هناك علاقات بيعة لبعض القبائل إزاء سلطان المغرب" ولكن : "ليست هناك علاقات سيادة ترابية قد تؤثر على تطبيق مبدأ تقرير المصير وتعبير السكان عن إرادتهم".


كان هذا الموقف المزدوج من طرف محكمة العدل الدولية منتظرا، ولذلك جاء رد فعل المغرب مباشرة بعد الإعلان عنه رسميا: فقد القى جلالة الملك الراحل خطابا تاريخيا على أمواج الإذاعة والتلفزيون، أعلن فيه أن اعتراف محكم العدل الدولية بوجود روابط البيعة بين ملك المغرب وأهل الصحراء يبرر تنظيم مسيرة شعبية إلى هذه الصحراء. كان ذلك مساء يوم 17 أكتوبر 1975، مباشرة بعد إعلان محكمة العدل الدولية قرارها.


كانت المسيرة حدثا شعبيا عظيما برهن من خلاله الشعب المغربي عن تشبثه بمغربية الصحراء. ومع ذلك لا بد من القول إننا في الاتحاد الاشتراكي لم نكن نرى أنها يمكن أن تقوم مقام جيش التحرير، وأنا م سيحدث خلال المسيرة أو بعدها ليس معروفا ولا ممكنا توقعه. ولكي يظهر الاتحاد تحفظه إزاء التطورات السياسية والعسكرية التي ستفرض نفسها بعد المسيرة قرر المكتب السياسي عدم الدخول في منافسة مع الأحزاب الأخرى التي قفزت إلى الواجهة بمناسبة المسيرة ولذلك لم يرسل وفدا حزبيا رسميا، بل اكتفى بدعوة مناضليه وجماهيره للمشاركة الفردية المكثفة في المسيرة. وهذا ما حدث فعلا. أما على صعيد المكتب السياسي، فلم يشارك سوى محمد منصور بصفته الشخصية. وقد أدلى عند دعوته بتصريح لجريدة المحرر قال فيه: "بعد نداء الاتحاد بشأن التطوع للمسيرة تسجلت مثل المواطنين لأن حزبنا لم يشكل وفدا رسميا".


انطلقت المسيرة فعلا يوم 6 نونبر 1975 كما كان منتظرا، وأحدثت رجة إعلامية كبرى، في إسبانيا وفي العالم أجمع، فكان لا بد للحكومة الإسبانية من أن ترد الفعل. وقد تمثل رد فعلها في ما هددت به من قبل في رسالة إلى الأمم المتحدة من أنها ستسلم إدارة الصحراء إلى "أي مطمح شرعي". وبالفعل سلمتها إلى المغرب وموريتانيا بموجب اتفاقية أبرمت بين البلدان الثلاثة في مدريد بتاريخ 14 نونبر 1975 وقد تم ذلك في إطار من الشرعية الشعبية تمثلت في حضور أغلبية "الجماعة" التي هي بمثابة برلمان لسكان المنطقة. ثم بدأ إسبانيا في إجلاء قواتها، بينما أخذ المغرب في إرساء إدارته في الساقية الحمراء. اما وادي الذهب فقد تسلمته موريتانيا.


مصدر النص: في غمار السياسة، لمحمد عابد الجابري، ص: 133.

مواضيع ذات صلة:


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة