أعده للنشر: مصطفى بوكرن
نهاية إدريس البصري كانت مهينة. توفي وحيدا في العاصمة الفرنسية باريس. الإعلام الرسمي "عتم" على الخبر، وجنازته حضرها وجه حكومي واحد هو وزير الداخلية. بعض أهل سطات وحدهم تأسفوا على رحيل "الصدر الأعظم".
" شفتي كيدارو ليه، خاص هاد الناس اللي خدامين دبا مع المخزن يفهمو". بهذه العبارة، ومعها الكثير من السب والشتم والحقد والتحسر، تحدث معتقل سياسي سابق وهو يعلق بعفوية على "الحياد السلبي"، الذي تعامل به الإعلام الرسمي وأغلب أقطاب "الشارع السياسي" المغربي مع نبأ وفاة إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق والوزير الأشهر على الإطلاق في مغرب ما بعد الاستقلال. مات الصدر الأعظم. وخرس لسان الإعلام السمعي البصْري. لن يكن المتحدث يقصد أن يشمت في الراحل، وإن كان يعتبره من جلادي الملك الراحل الحسن الثاني ومن أبرز المسؤولين عن "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان"، ويعتقد أنه لا يستحق الرحمة، بقدر ما رغب في أن يشمت في من صاروا يحتلون مواقع أقرب إلى الملك الحالي، وأشبه بتلك التي ظل يحتلها البصري قيد حياته، بغا يكول ليهم راه المخزن ما فيه ثقة غير حضيو ريوسكم.
البصري كالو مات
يوم الاثنين 27 غشت الماضي، النشرة الإخبارية المسائية للقناة الأولى، التي كانت أيام قوة إدريس البصري تسبح بحم الرجل صباح مساء، لم تجد على الراحل بأكثر من خبر سريع، علمن من باريس أن وزير الداخلية الأسبق السيد إدريس البصري توفي الاثنين بأحد المستشفيات بباريس عن سن يناهز 69 سنة، يقول مقدم النشرة نقلا عن وكالة المغرب العربي للإنباء، ليمر مستعجلا إلى أشياء أخرى. خبر الوفاة كان بالنسبة إلى القيمين على الإعلام الرسمي أقل أهمية من حرائق اليونان وضحاياها في القناة الأولى، ولا ستحق أكثر من سطرين في وكالة الأنباء الرسمية ! بني وعلي سير وخلي. هذا ما حدث مع البصري تماما رغم أن أفضاله على الكثيرين، بعضهم طبعا موجودون في قطاع الإعلام " ويمكن ما زالين فيه"، لا تخفى، ياك هوا اللي كان يصاوب التلفزة. "يصارب التلفزة؟؟ راه هو اللي صاوب البلاد كاملة"، يعلق أحد قيدومي الإعلام المغربي بعبارات تغلب عليها ضحكات من القلب.
القناة الثانة، وإن كانت أفردت حيزا أكثر للخبر، إلا أن تعاملها مع الوفاة في شْكل. للمرة الأولى في تاريخ " مغرب الإنصاف والمصالحة" "بل في التاريخ" تتحدث قناة مغربية عمومية عن كون إدريس البصري كان من المسؤولين عن الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان وعن تزوير الانتخابات. أوووواه، هاد الشي كاين فالمغرب؟ كيف طرا وجرا؟ ياك كالو ما نهضروش على الأسماء ديال "الجلادين"؟
ما حدث في النشرة المسائية لدوزين يوم وفاة البصري يذكر بأساليب القنوات الرسمية في الدول "المتخلفة جدا" التي تصبح على انقلاب عسكري وتمسي على آخر. فما أن يسقط حاكم حتى تجتهد في تعداد سيئاته وكشف عيوبه. وهكذا دواليك. يعني ديما مع الرابحة. في نشرة الظهيرة ليوم الوفاة مر الخبر متخفيا، وعلاش؟ "دوزناه أوف لأن الخبر تعطل" يقول مصدر من القناة الثانية. ولكن راه البصري مات فالليل واش ما وصلهومش ولا كيفاش؟ بالتأكيد أن القناة، ومن يديرها، كانت تنتظر أن يصير الخبر رسميا، وهذا، مثلما جرت العادة، لا يتم إلا بعد أن تبثه "وكالة المغرب العربي للأنباء"، وربما كانت أيضا في انتظار بعض التعليمات "أو التعتيمات" باش يعرفوك يفاش غادي يتعاملو معاه. "مكاين لا تعليمات ولا والو"، يؤكد المصدر نفسه. ولكن لماذا وضع الخبر في موقع متأخر؟ ولماذا، مثلا، تعبأ الإعلام الرسمي، وعلى رأسع دوزيم، بعد وفاة إدريس بنزكري؟ صحيح أنه لاقياس مع وجود الفارق طبعا، ولكن البصري حتى هو ماشي شخص عادي بالنسبة إلى المغرب. "بنزكري مات مسؤولا والبصري مات مواطنا"، يرد المصدر ببساطة. شوف وكان؟ "الموت ماشي حدث، الحدث هو الانتخابات"، يضيف المصدر ذاته. يمكن، منذ شيوع خبر وفاة إدريس ابلصري، تناسلت التوقعات، ظهر القائل إن الرجل سيدفن في مسقط رأسه بدوار لمناصرة في نواحي سطات، وظهر القائل أن الدفن سيتم في مقبرة "الشهداء" في العاصمة. كما ظهر من قال إن الملك محمد السادس سبق الجميع إلى تعزية عائلة البصري عبر الهاتف، ومن توقع أن يكون الأمير مولاي رشيد ممثلا للقصر في الجنازة، بل ظهر حتى من توقع تنظيم جنازة رسمية تليق ب"مقام" الراحل. كثير من التوقعات كانت خاطئا، فجثمان البصري دفن في الرباط في جنازة شبه عادية لم يحضرها من المسؤولية غير شكيب بنموسى، وزير الداخلية، وظهرت فيها وجوه حزبية قليلة، في مقدمتها محمد زيان ومحمود عرشان.
إيوا وعلاش ما كنتش جنازة رسمية؟ "الجنازة الرسمية ستذكر الضحايا بهذا الرجل" يقول مصدر مطلع، إيوا وعلاش ما دفنوهش فبلادو؟ "ولادو بغاوه يتدفن مع عظماء المغرب" يضيف مصدر. مصدر آخر يقول: "يلا داروه فسطات غادي يولي من أولياء الله الصالحين" يعلق مصدر آخر كان من بين من أكدوا، قبل يوم الدفن، أن جثمان البصري سيشيع في جنازة رسمية لأنه "صعيبة بلا ما دروس جنازة رسمية، راه كان مسؤول كبير ديال الدولة، يلا ما دارو ليه والو راه ميصاج للمسؤولين لخرين". إيوا ها هوما ما دارو ليه والو، واش بان شي ميصاج؟ الرسالة الوحيدة التي كانت واضحة هي ان خبر الدفن والجنازة، بالنسبة غلى دوزيم، أقل أهمية من ظاهرة النقل السري في الريض بضواحي الرشيدية ! العجب.
معارض الأعتاب الشريفة
منذ وصل الملك محمد السادس إلى سدة الحكم، نهاية يوليوز من عام 1999. اتضح أن هاجسه الأول هو التخلص من التركة الثقيلة التي ورثها عن والده الحسن الثاني. أشنو هي هاد التركة؟ ليست غير إدريس ابلصري الذي كان ظل الملك الراحل وكاتم أسراره وعينه التي لا تنام. إلى درجة أنها ما كانت تغفل حتى تحركات محمد السادس، ولي العهد آنذاك. سيأتي التاسع من شهر نونبر المشهود، ليستدعى البصري، على عجل، إلى القصر الملكي بمراكش، حيث كانت تنتظره المفاجأة: ما بقيتيش وزير الداخلية ! ما تسرب من كواليس القصر، بعد لقاء البصري بمحمد السادس، هو أن الأخير كان في حالة أشبه بحالة من تخلص لتوه من حمل ثقيل، بحال شي واحد كلع شي ضرصة ضاراه. العداوة بين الرجلين ما كانت خافية، فالجميع يعلم أن محمدا السادس ما كان يطيق البصري أبدا، أما الأخير فكان يعي أن نهايته وصلت بوفاة الحسن الثاني. لم تطل فرحة " أعداء" البصري، حتى جاء "حفل التكريم" الشهير ليحبط آمال من تنسموا يراح التغيير، لتأتي بعد ذلك قصة الهدية الملكية بمناسبة زفاف نجل البصري مكسرة ما تبقى من آمال. آآآو، آش وقع؟ ياك حيدو وعلاش دبا دايرين ليه التكريم ومن بعد عاطيه الكاضو؟ بلاتي، المسلسل كان في بدايته، وما سيحدث على مدى الشهور التالية أثبت أن العداوة قائمة.
ستمر شهور كثيرة، اختفى فيها البصري عن الأنظار. بعدها صار يظهر ويختفي، إلى أن سافر، بداية عام 2003، إلى العاصمة الفرنسية باريس في رحلة علاج "ضد التهاب الكبد" كان يفترض أن تكون قصيرة، لكنها طالت ولم تنهها غير عودته، يوم الثلاثاء 28 غشت الماشي، في نعشه، إلى مثواه الأخير. في فرنسا، سيتحول البصري من "خادم للأعتاب الشريفة" إلى معارض شرس. "المنفى الاختياري" حول الرجل من مزور للانتخابات ومفصب لمقاسات الأحزاب السياسية إلى منتقد لعدم نشر النتائج التفصيلية لأول انتخابات تشريعية في "العهد الجديد" (شتنبر 2002)، وحوله من مدافع شرس عن مغربية الصحراء إلى مطالب بـ "الاستفتاء" و"تقرير المصير" ومادح لجبهة البوليزاريو، وحوله من مهندس لخروقات حقوق الإنسان إلى منتقد لاعتقال مئات "الإسلاميين" بعد أحداث 16 ماي 2003. على هذه الأوتار، وأخرى من التي تغضب أصحاب "العهد الجديد"، ظل البصري يعزف طيلة شهور "منفاه" في باريس، يستقبل من الصحافيين المغاربة والأجانب من يعرف أنهم يغيظون السلطة في المغرب، ويلقي التصريحات والتلميحات التي لا يفك شفرتها إلا من جلسوا مكانه في الرباط، ويزور إسبانيا حين كان على رأس حكومتها خوصي ماريا أُثنار، وبين القول والآخر يمجد الملك الراحل دون أن يجرؤ يوما على "الطعن" في الملك الجديد الذي ظل يؤاخذه، بشكل غير مباشر، على أنه استعان بفريق من "الهواة"، فؤاد عالي الهمة على رأسهم. كان البصري يعي أن الملك الجديد يكن له ما يشبه "الحقد"، فهو لم ينس له أنه كان يحسب تحركاته ويلغ الشادة والفادة إلى والده الحسن الثاني. زعما كان كيبركك بيه، على حد تعبير إطار عسكري سابق. باوالي "تهديدات" البصري، توالت "المضايقات" عليه، فبدأت بفصة جواز السفر، واستمرت بمكحاكمة صهره عبد المغيث السليماني في إطار ما سمي بـ "ملفات الفساد في الدار البيضاء". وبالتلويح باعتقال ابنه هشام، وبحجز معاشه، وهو مللي شاف القضية حماضت كال بللي غادي ينشر المذكرات ديالو. "نهار مشا لفرنسا يتعالج مشى على نفقة الملك، لكن عوض أن يعود إلى المغرب استقر فيبارس وتحول من عظيم إلى معارض، ومنين كلس تما وبدا يخرج معلومة تلو معلومة ويعطي استجواب تلو استجواب قالوا له افعل ماشئت". يقول مصدر مقرب من فؤاد علي الهمة. إيوا وعلاش هاد العداوة كلها؟ "لأنهم دارو داك الشي اللي ما قدرش يديرو ولا ما بغاش يديرو. بحال مناقشة الماضي، فهو يدافع عن التعويض كحد أقصى في حين الملف بعده أخذ مسارا آخر بالإنصاف والمصالحة" يضيف المصدر ذاته. إيوا والمذكرات ؟ "كانوا كيكولو يكول اللي عندو، لانهم متأكدين بأن السيد عطا اللي عندو للناس اللي حماوه ففرنسا" يجييب المصدر. لم يستوعب البصري يوما أنه انتهى سياسيا، ولم يثنه عن ذلك حتى المرض، لذلك كان، كما يروي بعض من كانوا قريبين منه في باريس، ينتظر العودة قويا إلى المغرب في أي لحظة، ستتحقق له العودة لكنها كانت على النعش.
ردود فعل:
شيء ترحم شي تشفى
وجد محمد زيان، المنسق الوطني للحزب المغربي الليبرالي، في وفاة البصري فرصة من الفرص التي يتقن اصطيادها للهجوم على اليسار المغربي ومن فيه. كان أول من خرج إلى العلن ليقول، في أكثر من صحيفة، ما يفيد أنه يتمنى أن تخرج مذكرات البصري إلى الوجود، خلال الحملة الانتخابية الحالة. وعلاش؟ لو حدث ذلك لسحب كثير من الرموز السياسية ترشيحاتها. وا يلي، حتى لهاد الدرجة؟ زياد هو المسؤول السياسي الوحيد الذي انتقل إلى مطار الرباط ليكون في استقبال نعش الراحل. في المقابل خرج بعض أهل اليسار، وفي مقدمتهم، محمد بنسعيد آيت يدر وعبد الحميد أمين، ليقولوا ما يفيد إن البصري لم يترك شيئا يستحق عليه الترحم. مثل هذه التصريحات لم ترق الكثيرين، حتى من بين ضحايا "سنوات الرصاص" إلى جانب ذلك، جنح الكثيرون إلى الصمت وإن كان في قلوبهم كثير من الحقد على إدريس البصري. صحيفتا "الاتحاد الاشتراكي" و"العلم" خرجو من باب واسع ومنحوا خبر الوفاة حيزا ضيقا في أسفل صفحتيهما الأوليين "عدد الثلاثاء 27 غشت الماضي" دارو بحال "لوماتان" و"الصحراء المغربية". ما أشبه وفاة إدريس البصري بإعدام صدام حسين !
المصدر: مجلة نيشان، العدد:115، 1و7 شتنبر 2007، ص: 14.


إرسال تعليق