U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

الدولة في خدمة الأخلاق



بقلم: عبد الله العروي


تقرر المقالة الأولى أن الغاية المقدرة للبشر ليست من عالم المرئيات، وأن الحياه الدنيا هي بمثابة تجربة يجتازها المرء لم يعرف قيمته وما يستحق من جزاء في حياة أخرى محجوبة عنه الآن وغير متناهية.


توجّه الدعوة الى الوُجدان الفردي لكي ينفصل عن قوانين الحياه الدنيا الخادعة العابرة ويتهيأ الحياة الآخرة، حياة والسعادة الأبدية. هناك إذن هدف محدد وهناك المخاطب. وعلى المخاطب أن يضع دائما ذلك الهدف نُصب عينيه في كل لحظة من حياته الأرضية. كل ما سوى المخاطب، الذي هو الوجدان الفردي، وكل سوى الهدف، الذي هو السعادة الأبدية في عالم غيبي، إنما هو برق خادع. فالظواهر الكونية مؤقتة عابرة، وبالأحرى، التنظيمات الاجتماعية التي مِن ضمنها الدولة.


الدوله تنظيم اجتماعي، فهي اصطناعية، لا يمكن أن تتضمن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدنيا كلها. تتعلق القيمة بالوجدان الفردي، إذ يتجه نحو الغاية المقدرة له. إذا كانت الدولة في خدمه الفرد، لكي يحقق غايته، فهي مقبولة شرعية، مع أنها تبقى اصطناعية ومؤقتة مثل جميع الكائنات. إذ هي تجاهلت الهدف الأسمى أو عارضته، إذ هي منعت الفرد من أن يلبي الدعوة الموجهة الى وُجدانه أو ضايقته، فهي مرفوضة ولا شرعية. سيئة، وليدة الطبيعة الحيوانية في الإنسان. قد تكون الدولة صالحة بالنظر الى متطلبات الحياة الحيوانية، لكنها إذا تعامت عن الهدف الأسمى الذي يتطلب تنفيذ قانون معين، فهي شر باطل.


إذا كانت الدولة في خدمه الفرد، لكي يحقق غايته، فهي مقبولة شرعية، مع أنها تبقى اصطناعية ومؤقتة مثل جميع الكائنات



في كل الأحوال. تبقى الدولة في مرتبه ثانوية، لكن إذا قبلت أن تخدم الفرد الذي يتهيأ لتحقيق الهدف الأسمى، فإنها تكتسب قيمة مستعارة من غاية ماورائية. حينذاك تخضع لقانون سابق، تقبل أن تخدم غاية لم تحددها هي. تتهيأ لتضمحل حيث يعود من واجبها أن تحرر الفرد ليقوم بعمل أهم مما تطالبه هي به. من واجبها أن تنكمش أكثر ما يمكن وأن توسع النطاق الذي لا يحتاج الفرد إليها فيه.


تبرر الدولة وجودها بأنها تقوم بالماديات؛ تخدم الفرد، لكن ليس من حقها أن تحجب عنه الغاية التي يحيا من أجل تحقيقها.



من الواضح أن هذه المقالة لا تترك أي مجال معرفي تنشأ فيه نظرية خاصة بالدولة. توجد فيها طبعا نظرة الى الدولة بحيث توضح موقع الدولة في الحياة الاجتماعية والبشرية والكونية. لكنها نظره مستوحاة من أفكار مسبقة حول الغاية من حياة الإنسان وحول واجبات الفرد تجاه تلك الغاية.



تنشأ في هذه التربة الفكرية نظرية أخلاقية هي التي تحدد موقع الدولة بالنسبة لحياة الإنسان كلها. وبالفعل يقدم الاتجاه الذي نحن بصدده دائما، الأخلاق على السياسة، جاعلا من الدولة وسيلة في خدمتها. فيتكلم عنها في حاشية ملحقة بنظرية الأخلاق.


وبالفعل يقدم الاتجاه الذي نحن بصدده دائما، الأخلاق على السياسة، جاعلا من الدولة وسيلة في خدمتها



على مستوى أكثر تجريدا، فإن الشريعة، في هذه المقالة، هي مجموع القيم المتولدة عن الغاية العليا، والتي يعمل الفرد على تحقيقها؛ الأخلاق هي مجموع طرائق السلوك التي تتجسد فيها تلك القيم. تخاطب الشريعة في آخر تحليل الفرد، والأخلاق هي أخلاق الفرد. عندئذ، لا معنى للكلام عن أخلاق الدولة: تخاطب الشريعة الدولة بصفتها وسيلة لتبليغ الدعوة إلى الفرد. هناك تمييز دائم بين الفرد وبين الدولة، بين قانون الوجدان الفردي "القانون الجواني" وبين القانون الذي تصدره الدولة "القانون البراني". ليس من الحتمي أن يتعارض القانونان باستمرار: قد يكون قانون الدولة خاصة بالحياة الحيوانية في الإنسان التي هي ضرورية لحياة الروح، وقد يكون فقط تذكيرا بقانون مضمن في الشريعة، ولن يكون آنذاك تعارض. لكن يبقى التمييز بين القانونين قائما بحيث لا ينغمس أبدا بكليته الوجدان الفردي في الدولة.



نطاق الدولة هو باستمرار نطاق الحياه الحيوانية في الإنسان إذا رفضت أن تبرحه فهي شريرة؛ إذا تجاوزته أصبحت شرعية، إذ تستعير قيمة من الشرع ومن الأخلاق. القيمة، كل القيمة، في الأخلاق، أي في الوجدان الفردي، مخاطب الدعوة الوحيد. الدولة الفاضلة هي التي تربي الفرد على الاستغناء عنها، وتوجهه لخدمة ما هو أسمى منها.


لقد تعددت في التاريخ أشكال هذه المقالة، من الرواقيين الى أنصار القانون الطبيعي، من أوغسطين الى فقهاء الاسلام.

يتبع...


مرجع النص: مفهوم الدولة، عبد الله العروي، ص:14، 16.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة