بقلم: مولود السريري
هذا منهج أقامته السلطة السياسية العباسية ومن قبلها الأموية على وفق مزاجها، وما يحصل لها مصالحها، ورغباتها، فانحرفت عن جادة الصواب. إذ أقصت الآراء الإسلامية الأخرى التي لا توافق رؤيتها، وأزالت النظر العقلي الاعتزالي، الذي هو أحرى بالاعتبار وأجدر بالاصطفاء، لقيامه على إعمال العقل مقدما، وجلعه النص تابعا له على ميزان الحسن والقبح، والذي لو عمل به المسلموم لكانوا على غير ما هم عليه اليوم من الضعف والتأخر والهوات وسوء الحال في الاقتصاد والسياسة والحكم والمعرفة.
هذا كلام من يتحدث عن شيء لا يعرفه، وإنما يتخيله على وفق وهمه، والواقع يشهد على ذلك؛ إذ ما هي العلامات التي تخالل المنهج الإسلامي الأصيل هذا، ودلت على الصوغ السياسي له؟!
هل يمكن لمنهج في كل أحواله وجزئياته ينتهي إلى النص القرآني أن ينبني على ما يخالف ذلك من فكر سياسي أو غيره، وإذا كان الأمر كذلك، فما البرهان الذي قام عليه وقضى به؟
ألا يعلم العلماني أنه يحمل القول الاعتزالي ما لا يحتمل في كل الجزئيات التي يقتبس هذا القول منها، ومن ذلك مركزية هذا القول في علم الكلام الإسلامي والنظر العقلي الفسلفي؟
ألا يعلم العلماني أن مقومات استشراقية افترائية في الشأن الإسلامي صيغت على وفق هوية أصحابها العقدية؟
لا جرم أن مثل هذا القول العلماني يساق في مجالس السذج ومن لا علم عنده بالعلوم الإسلامية فيروج عنده وينفق، لكن من كان على دراية بهذه العلوم أصولها وفروعها، وطرق بنائها لا يلتفت لمثل هذه الأوهام، إذ هو على دراية بمقدار فهم هؤلاء السياسيين لهذه العلوم. وما يتأتي لهم التأثير فيها إذا حاولوا ذلك.
العجيب أن العلماني لا ينفك متحججا بمسكله -التفكيك-، ثم لا تجده يفكك مثل هذه المقولة - صياغة المنهج الإسلامي بالسياسة- بالنظر في إمكانيتها وصور هذا الإمكان، ومصدر هذه المقولة.
وبدهي أن كل من طرقت مثل هذه المقولة سمعه وكان من أهل العلم الشرعي سيرد على باله "النص" الشرعي، وطرق فهمه، وكيف حصل في شأنه هذا التأثير السياسي، لأن هذا هو أصل المعرفة الإسلامية كلها، فينطلق نظره باحثا بإمعان في هذا الموضوع، فلا يكاد يرى شيئا، ثم يعرج على علم الكلام فيقول لعله موضع هذا التأثير، فيجد أنه ينتهي إلى العقل والنقل على ما هما عليه في واقع الحال، ثم يلتفت إلى الفقه فيجد أنه مردود إلى أصول ترجع كلها إلى القرآن، والإجماع لا مطمع في وقوعه إلا إذا كان مستندا إلى القرآن.
نعم، في الفقه يجد أن ضبط شأن الحكم السلطوي - وما يلزم أن يكون عليه من حال، وما يجب أن يقيد به الحاكم من قيود عملية وتشريعية، بحجره عن الظلم والطغيان والاستبداد- أمر غير مصروف إليه البحث والنظر الفقهي على خطورته وسمو شأنه، ومثله أحوال الأسرة، وما يجب أن توضع فيها من أحكام مخصوصة- كباب أحكام الأسرة مثلا- تضبط أفعال أفرادها، وتبين حكم كل فعل من أفعالها، درءا لتعدي الحدود، والوقوع في الظلم.
إذا كان الأمر الحكمي هو الذي قصد بأنه موضع أثر فيه القول السياسي، وإرادة الحكام المذكورين، فهذا ليس من باب التأثير في المنهج الإسلامي هذا، وإنما هو من باب صرف العمل به في هذا الموضع، مع بقاء جريان قواعده فيه وصلاحيتها لبناء الفقه فيه، الذي يتقضي واقعه بناءه فيه.
خلاصة القول أن هذا الادعاء العلماني في شأن تسييس المنهج الإسلامي الأصيل المتفق عليه لا دليل عليه، وبذلك فإنه لا يلتفت إليه إلا من لم يكن على دراية بحقيقة هذا المنهج، ومآخذد.
مرجع النص: نقد أصول القول العلماني، مولود السريري، ص:85.
إرسال تعليق