بقلم: مصطفى بوكرن
يدعو الصراع بين علماء الشريعة في الخليج إلى وقفة تأمل، لفهم الفقيه وتصرفاته، في ما له علاقة بالقضايا السياسية الساخنة. ويمكن النظر إلى هذا الموضوع، باختيار أسماء أهم الرموز الفاعلة فيه، نذكر منها: يوسف القرضاوي، أحمد الريسوني، محمد الحسن ولد ددو، عبد الله بن بيه، فاروق حمادة.
تشترك هذه المجموعة في الانتماء السني، والإقامة الدائمة أو المتقطعة في بلد الاستقبال. القرضاوي مصري مقيم في قطر، والريسوني مغربي يتردد على قطر باستمرار، وولد ددو موريتاني، هو بين قطر وتركيا. أما عبد الله بن بيه، موريتاني مقيم في الإمارات، وفاروق حمادة سوري الأصل، له جنسية مغربية، مقيم في الإمارات.
يشترك هؤلاء في القرب المباشر أو غير المباشر من أمراء الخليج، فعبد الله بن زايد يدور في فلكه بن بيه وحمادة، ويرعى المؤسسات التي يشتغلان فيها، مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، مجلس حكماء المسلمين، منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، فرع جامعة محمد الخامس بأبو ظبي. أما تميم فله علاقة وطيدة بالقرضاوي، ويدور في فلكها أحمد الريسوني، وولد ددو، وترعى قطر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
ما يختلف فيه هؤلاء، انتماؤهم أو تعاطفهم السياسي، القرضاوي من علماء الإخوان المسلمين، غير أنه ترك تنظيمهم، وأصبح مؤثرا فيهم بعلمه الشرعي. أما أحمد الريسوني، شيخ المقاصد، فهو مؤسس وزعيم حركة التوحيد والإصلاح، التي لا علاقة لها بجماعة الإخوان المسلمين من جهة التنظيم، وإن تربى مؤسسوها على الكتابات الفكرية لسيد قطب.. إلى أن قاموا بمراجعات، سهلت لهم الاندماج في مؤسسات الدولة المغربية. أما ولد ددو فهو من أهم المرجعيات العلمية في موريتانيا، وهو موسوعة في علوم الشريعة، ومؤثر في الحركة الإسلامية الموريتانية. لكن عبد الله بن بيه، عرف عنه، تقلده لمناصب كثيرة في وزارة العدل الموريتانية، ويعرف الآن، بدعوته للتجديد في أصول الفقه، وإعلان الحرب على الحرب، ويوصف بالفقيه الصوفي. أما فاروق حمادة، الهارب من نظام البعث السوري -في سبعينيات القرن الماضي- إلى المغرب، فقد أكرم المغرب ضيافته، وتم تكليفه بهندسة شعبة الدراسات الإسلامية، وقد وصفه الدكتور عبد الواحد الإدريسي، في مقال على هسبريس، قبل أيام، بحافظ المغرب الأقصى وناصر السنة الفضلى.
هذه المجموعة كانت تجمعها علاقات متينة. عبد الله بن بيه كان نائبا ليوسف القرضاوي في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وفاروق حمادة كان أستاذا لأحمد الريسوني في جامعة محمد الخامس بالرباط. وبن بيه وولد ددو يشتركان في الوطن. لكن التطورات التي عرفتها المنطقة العربية بعد ما سمي "بالربيع العربي"، شتت هذه المجموعة، وانعكس ذلك، على كل ما يدور في تيارهما.
ما تعرفه هذه المجموعة من خلافات حادة، في موضوع سياسات الدول داخليا وخارجيا، تحرض على الدراسة، لفهم طرق تنظيم خلافاتهم في ما بينهم. هذا فاروق حمادة يكتب مقالة: "الحاكمية في فكر الإخوان.. منطلق التطرف والعنف"، حيث قال: "إن التأصيل لهذا العنف عند هذه الحركات المتطرفة، داعش وأخواتها، يستند إلى هذا الفكر الذي يتبناه الإخوان المسلمون"، وأورد أدلة تثبت ذلك، من خلال كتابات السيد قطب. ردّ الريسوني على حمادة قائلا: "فاروق حمادة قد أصبح أحد الشيوخ المتحولين وأحد الباعة المتجولين…، لكن ما لم أكن أتوقعه، وما زلت لا أستوعبه، هو أن يصبح من عَبَدَة الشيطان". علق عبد الله بن بيه على العلاقة الجديدة بين الإمارات وإسرائيل بقوله: "هذه المبادرة من الصلاحيات الحصرية والسيادية لولي الأمر شرعاً ونظاماً"، فخرج الريسوني ناقدا قوله، الذي اعتبره، يندرج ضمن "النظرية الفرعونية" التي تصاغ بألفاظ جديدة: السياسة الشرعية، وتقدير المصالح، والعلاقات والاتفاقيات الدولية، كلها اختصاصات حصرية لولي الأمر.
ما تعرفه هذه المجموعة من خلافات حادة، في موضوع سياسات الدول داخليا وخارجيا، تحرض على الدراسة، لفهم طرق تنظيم خلافاتهم في ما بينهم.
لو أراد باحث أن يدرس هاته الآراء من منظور أصولي فقهي، سيغلق الباب على نفسه، دون أن يدرك أن هذا الاختيارات لا يؤثر فيها الدليل فقط، بل ما ذكرناه سابقا. ويؤثر فيها أيضا، طبيعة الدولة الوطنية، وبينة النظام السياسي العربي في علاقته بالمؤسسة الدينية. ولا يخرج عن ذلك، التحولات التاريخية التي عرفتها "المؤسسة الفقهية" والمحيط الحاضن لها. وهنا نجد أنفسنا، إزاء مقال المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي عن "فلسفة الفقه"، التي تدعو إلى استثمار العلوم الإنسانية الحديثة في دراسة التأثيرات النفسية السياسية والاجتماعية على الإنتاج الفقهي. وبهذا سنجد أن أصل المشكلة بين هؤلاء المختلفين قابعة خارج علوم الشريعة، وربما قد تكون في مكان ما، تتطلب حضور المحقق كونان.

إرسال تعليق