U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

مصطفى بوكرن يكتب: هل يستطيع المُدرِّس أن يكون مربيّاً؟





بقلم: مصطفى بوكرن


يخلد العالم في الخامس من أكتوبر اليوم العالمي للمدرس. بعد أكثر من عقد من الزمن في هذه المهنة، اتضح لي، أن فن التدريس يمكن تعلمه، ومواجهه تحدياته، لكن التحدي الكبير: هل يستطيع المُدرِّس أن يكون مربيا؟ كيف للمدرس أن يبدع حلولا لوضعيات سلوكية جد معقدة بمقاربة تربوية؟ كيف سيتعامل مدرس اليوم مع جيل من المعطوبين تربويا دون أن يجد نفسه في ورطة؟


هذه حكاية واقعية، أرويها لكم، بمناسبة اليوم العالم للمربي، وليس المدرس.

 

دخل إلى القسْم، كتب في الدّفْتر ما طلبه منه الأستاذ بسرْعة، وبعْد خمْس دقائق، قام منْ مكانه، وقف بين الصّفّيْن، صرخ بصوْته الخشن "أستاااذ هنا غادي"، وهبّ مغادراً القسْم، بمبرِّر الذّهاب إلى البيْت للمذاكرة، اسْتعْداداً لامْتحان المراقبة المُسْتمرة في اللّغة العربية الذي سيجْتازه التلاميذ في الفتْرة المسائيّة بيْن السّاعة الثانيّة والرّابعة، لكنّ الأستاذ رفض، لم يرفض طلب التلميذ أنْ يغادر القسْم، بلْ الأسْلوب الذي اخْتاره لمخاطبة الأسْتاذ، والذي يُحرّض جميع التّلاميذ على المغادرة، أجابه الأستاذ قائلا: تحمّل مسؤوليتك، تسمّر التلميذ في مكانه، بدأ يُفكر في ما سمِعه، رجع إلى مكانه، بعد دقيقتيْن، صرخ قائلا: أستاذ "باغي نمشي إلى المرحاض"، أجابه الأستاذ بكلمة واحدة: لا..



قفز التلميذ من الطّاولة الموجودة وسط الصّفّ الرّابع، يُحاذي جانبه الأيْمن الحائط، تحدّى الأسْتاذ، وخرج، في هذه اللّحظة، وجد نفسه في حالة اخْتبارٍ قويّةٍ لما قاله "تحمّل مسؤوليتك"، قبْل أنْ يُقدم على فعْل ما، يعْرفُ جيّداً الوضْع الإداريّ للثانوية، فهي مهْترئة، لقلّة الأطر الإداريّة، في يوْمٍ من الأيّام قال له مدير الثانويّة: هل تعْرف الثوْر المذْبوح أجابه مصْطفى: نعم، قال له: دعْ الثوْر المذبوح حتى يسْقط، وإيّاك أنْ تضع يدك عليْه، لوْ فعلْت سيُحمِّلونك مسْؤولية موته! يُدرك الأستاذ أنّ كلّ الأطر الإداريّة في الثانوية، تتهرب منْ كلّ مشْكلةٍ تقع، ويُرْسلون إشارات للأسْتاذ أنْ يدبّر مشاكله مع التّلاميذ دون أنْ تصل إلى الإدارة، فحتّى لوْ كتب تقريراً، وعُرض التلميذ على المجْلس التّأديبيّ، فإنّه يعْلم علم اليقين النّتيجة النّهائيّة، ثمّ إنّ هذا التلميذ، يدْرس في الثانية باكلوريا شعبة الآداب، حصل على نقطة ستة في الجهوي...



هذه المُعْطيات؛ جعلتْه يتصرّف، وفْق هدفٍ معيّنٍ، أنْ يعيد الاعْتبار لنفْسه، وأنْ يُعلّم التلميذ درْساً ترْبويّاً، عنْوانه الكبير "منْ تعجّل شيْئاً قبْل أوانِه عُوقِب بحرْمانه"، هو يريد الخروج منْ القسْم على السّاعة الحاديّة عشْرة وبضْع دقائق، قبْل زملائه، يتعجّل الخروج، قبْل الأوان، ليذْهب إلى البيْت ليراجع دروسه.


قرّر الأستاذ أنْ يكْتب تقريراً، حوْل سلوك التلاميذ، الذي يتنافى مع قانون القسْم، طلب منْ التّلميذة المُكلّفة بملفّ الحضور، أنْ تحمل التّقرير إلى المدير، خرجت من القسم، وعادتْ بعْد دقائق، قالت إنّها لمْ تجدْ المدير، لمْ يُصدّقها الأستاذ، لأنّ التلاميذ يتضامنون، فيما بيْنهم في مثل هذه "الأزمات" !، شكرَ الأستاذ التلميذة، لكيْ لا تشْعر بحرج، تكذيبها أخذ التقرير، وذهب إلى مكْتب المدير، لمْ يجدْه، أخْبره البوّاب، أنّه ذهب إلى المقْهى، رجع إلى الحارسة العامّة المكلّفة بتلاميذ الثانية باك آداب، دخل إلى مكْتبها، أخْبرها بما حدث، تتفاعل معه غيْر مبالية به، مركّزة بصرها في شاشة حاسوبها، تقول للأستاذ "افعلْ ما تشاء"، إذا أردتْ أن تتْرك التّقرير في مكتبي أوْ تسلّمه للمدير، فالأمْر سيّان، لأنّك أنْت منْ تتحمّل المسْؤولية.



قرّر في الأخير، أنْ يسلمها التقرير، عاد إلى القسْم، تابع إلقاء الدّرس، بعْد لحظات، جاء التلميذ مُسْرعاً، لأنّ أصْدقاءه أرْسلوا له رسالةً هاتفيّة تُخْبِره بما فعله الأسْتاذ، فتح الباب، صرخ وسط القسم، سادت حالة من الهلع في صفوف التلميذات، ارتبك الأستاذ، وقف التلميذ أمام الأستاذ بعيني ثور حمراوتين، قائلا بصوت قوي مرعب، وضرب بقبضة يده على سطح المكتب: "علاش كتبتي بي تقرير"..



في هذه اللّحظة، فكر الأستاذ بسرْعة البرْق، لوْ تحدّثُ مع التلميذ أمام زملائه، لنْ أصِل إلى شيْءٍ، والتلْميذ بطبيعته، حينما يرى زملاءه يتابعونه، يريد أنْ يظهر جسارته، قام الأستاذ من كرسيّه بهدوء، هدّأ منْ روْع التلميذ قائلا: يا ولدي سأسْحب التّقرير، لا تقلق اهْدأ، وضع يده على كتفه وأخْرجه من القسْم، ما إن ابْتعدا عن باب القسْم بمتْريْن حتّى صار التلميذ حمْلاً وديعاً، ثمّ ذهب به إلى مكْتب الحارسة العامّة، طلب منْه أن يجْلس على الكرسي، ومنحه قنّينة ماء، وقال له: أنا أحبّ الحوار، أعْشق حلّ المشاكل بالعقْل وليْس بالصّراخ، بعد أن انتهي من حصة التدريس على الساعة الثانية عشرة، سأجلس معك على انفراد، ونتحاور إلى الثانية بعد الزوال، صمت التلميذ وعاد الأستاذ إلى القسم، ليتابع حصته، يحْمد الله، أنّ الحدث مرّ بسلام، لأنّه أمام مراهق هائجٍ مدْمن على "التّدخين أو الكالا" يغْضب، يصرخ، يريد الذّهاب إلى البيت بسُرعة، الأستاذ هادئ مستفز بهدوئه، يتكلم جملة ثم يصمت.


جلس الأستاذ في مكتبه، جمع مستلزماته، شرب قليلا من الماء، ينتظر قدوم التلميذ، ها هو التلميذ يدخل، ألقى التحية على الأستاذ، طلب منه أنْ يجلس في الطّاولة التي تقابل مكْتبه، جلس التلميذ ثمّ رفع الطاولة بيديه وقرّبها من المكتب.


الأستاذ سيلْعب لعبته مع التلميذ الهائج المائج، يتحدّث ببطء بهدوء مستفز، يقول للتلميذ: من فضْلك أرجع الطّاولة إلى مكانها، لا يليق بك أنْ تفْعل ذلك، يجدُ التلميذ نفْسه محاصراً، لأن القسْم فارغ، منْ زملائه الذين يُشجّعونه على العناد، جلس التّلميذ ينْتظر ماذا سيقول الأستاذ، يصْمت الأستاذ طويلاً، ثمّ يسأله عرّف بأسرتك، الأب الأمّ الإخْوة، التلميذ يُفكّر في موضوع واحد، ما مصير التقرير؟ هل التقرير سيُلْغى؟ هل سأجْتاز امْتحان العربيّة في الفتْرة المسائيّة إذا ظلّ التقرير قائما؟ الأسْتاذ لا يذْكُرُ التقرير، يناقش قضايا تتعلّق بآداب الحوار، واحْترام قاعة الدّرس، وحسْن السّلوك والمعاملة مع الأستاذ، وفي كلّ لحظة يتساءل التلميذ الهائج: التقرير أأستاذ؟ يجيبه الأستاذ: التقرير قضية هامشية...


السّاعة تشير الثانية عشرة والنصف، في هذه اللّحظة، انْفجر التلميذ من هدوء الأستاذ، نطح الطّاولة برأسه بطريقةٍ هسْتيريّةٍ، ظهرتْ على جبْهة التلْميذ آثار النّطح، والأستاذ هادئ يتكلّم ببُطْءٍ، وصل الأسْتاذ إلى ما يريد، كتب ورقة السّماح بالدخول إلى القسم في الفترة المسائية، وسلّمها إلى التلميذ، علّق التلميذ قائلاً في آخر اللّقاء: سبْحان الله يا أستاذ تُشْبِه ابْن عمّتي في مدينة الدّار البيضاء يتعامل بهدوء كبير مع التلاميذ !
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة