بقلم: محمد عابد الجابري
تنتمي المرة الأولى التي وقفت خلالها إلى جانب الشهيد المهدي بن بركة إلى فضاء المرحلة الأولى من نشاطي في صفوف الشبيبة الاستقلالية بالدارالبيضاء. كان ذلك سنة 1955، حين كان الشعب المغربي يستعد لاستقبال الملك الراحل محمد الخامس عند عودته من المنفى. كان الملك الراحل يومذاك في بارس، حيث أقام أياما قبل عودته، وكانت المفاوضات جارية بين الحركة الوطنية وفرنسا. وقبل عودة الملك ببضعة أيام، أي قبل 17 نونبر 1955، نظم حزب الاستقلال الذي كان يضم آنذاك القسم الأعظم من الحركة الوطنية، وكان المهدي عضوا في لجنته التنفيذية، مهرجانا بلمعب سيدي معروف بالدار البيضاء. وكنت يومذاك من شباب الحزب "حزب الاستقلال"، ولم يكن عمري يتجاوز التاسعة عشرة. كنت أنا وأربعة شبان آخرين من المكلفين بـ "الحراسة" في المنصة، وكان موقعي إلى يمين المهدي، حين بدأ يخطب.
لقد ارتبطت بنشاط الشبيبة الاستقلالية، وبالتحديد الشبيبة المدرسية (1)، ابتداء من عام 1952، حين التحقت ضمن مجموعة من التلاميذ الفيجيجيين بالمدرسة الثانوية العربية التي كانت تحت إشراف الحزب، في مدرسة عبد الكريم لحلو أولا، ثم في مدرسة سيدي محمد بن يوسف ثانيا، كما سبق أن ذكرت في حفريات الذاكرة. كان بعض زملائي من التلاميذ الفيجيجيين قد انخرطوا، بصورة أو أخرى، في حركة المقاومة. أما أنا فلم أنخرط فيها على الرغم من أني عشت في محيطها. كان ارتباطي بالشبيبة الاستقلالية عن طريق بعض أساتذة المدرسة التي أشرت إليها، وبالتخصيص المرحوم محمد الجندي الذي كان منفيا إلى الدار البيضاء من وجدة ومن رجال الحركة الوطنية، ومن خلاله كان ارتباطي بالمرحوم بوخريص، ومن ثم بجماعة "المسرح الملكي" بزنقة آيت أفلمان المتقاطعة مع زنقة المناستير. وقد كانت الشخصية الوطنية القيادية في هذا المجال هو المرحوم عبد السلام بناني. لقد تعرفت على هؤلاء كما يتعرف التليمذ على أساتذته.
هنا أيضا عشت نوعا من القرب أو قبل بداية القرب مع رجال الحزب وقادته في الدار البيضاء. هنا في هذا المجال لم أكن مجرد "مشاهد" كما كنت في مجال "المقاومة"، بل كنت أيضا من "العاملين"، أساهم مع الشباب من أمثالي وضمن لجان "التزيين" التي كان يشرف عليها المرحوم عبد السلام بناني وطاقمه. كان مركز الجماعة التي أنتمي إليها يقع إلى جوار "المسرح الملكي" والأزقة الضيقة المجاورة له. ولم يكن عملنا مقصورا على مواسم عيد العرش فحسب، بل كنا نقوم بنقل "نشرة الحزب" من موقع إلى آخر في الدار البيضاء. كانت المطبعة التي ننقل منها مناشير الحزب "مطبعة الأطلس" تقع في زقاق ضيق بحي درب عمر وهو حي التجارة بالجملة. وكنا نرتاد هذه المطبعة ونساعد في لف النشرة بعد طبعها، في رزم صغيرة نتولى نقلها إلى حيث نؤمر. وكانت جميع هذه التحركات تتم في سرية تامة. لقد كان أخطر شيء يتعرض له الإنسان في ذلك الوقت هو أن يلقى القبض عليه ومعه كمية من "نشرة الحزب". كان السجن هو المآل المحقق.
والغريب في الأمر - وأنا أعبر هنا عن الاستغراب على مستوى الذاكرة لأني لم ألحظ هذا في ذلك الوقت وإنما سعيت به لاحقا- هو أن إحدى الخلايا الأولى للمقاومة في الدار البيضاء قد خرجت من جوف هذه الجماعة التي كانت معروفة بـ "لجنة التزيين". والشيء نفسه يصدق على مركز آخر للحزب في درب السلطان، كنا نرتاده نحن الذين كنا نعد من شبيبة الحزب (2): الشبيبة المدرسية. كان هذا المركز يقع في بناية تطل على ساحة السراغنة إلى جوار درب "الشرفاء الطلبة" الذي كان مقرا لمعظم الفيجيجيين الوافدية على الدار البيضاء للعمل والتجارة، وكان الكثير منهم ينتمي بصورة أو بأخرى إلى المقاومة. بجوار هذا الدرب وبجوار زنقة القاهرة المتوازية معه، وفي الجهة المطلة على ساحة السراغنة، كان يقع مكتب "المقاطعة 11" التي كانت من أنشط فروع "الحزب" في الدار البيضاء. وكنت ممن يرتاد هذا المركز الحزبي الذي كان له الدور المهم في مسلسل التطور الذي حصل داخل الحزب.
(2)- ص:104.
النص مقتبس من غمار السياسة، لمحمد عابد الجابري، الكتاب الثاني، الطبعة الأولى، 2009، بيروت، الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
إرسال تعليق