بقلم: عبد الله بن بيه
لقد أردنا - في مرحلة المراجعات هذه في العالم الإسلامي والتي أملتها الثورات في منطقتنا، وهي ثورات تمظهرت بإزاحة أنظمة وإتاحة الفرصة لأنظمة، وأسفرت عن التشكل في أشكال وصور جديدة لم تكتمل بعد، إذ لا تزال في مختبرات التجارب ومفترق طرق التجاذب - أردنا تقديم تصور ما؛ إذ أنَّ تلمس الطريق الجديد وبروز مكنون التصورات والآراء المكبوتة في جو الحرية - الذي
أطلق العنان للآراء والأحكام وللأحلام، وأحيانا للأوهام- أوج حراكاً واحتكاكاً بين مختلف شرائح المجتمع، وهو حراك طرح من الأسئلة أكثر مما قدم من الأجوبة.
وقد يكون في هذا الواقع ما ينصر دعوى كانط القائلة بأنّ «الثورة قد تؤدي إلى سقوط الاستبداد أو التحرر من الاضطهاد، لكنها لا تؤدي قط إلى إصلاح حقيقي لأساليب التفكير؛ بل إن أوهاماً جديدة تظهر فتأخذ مكان الأوهام القديمة».
لذلك ارتأينا البحث عن أرضية تجديدية لفقه واقع المرحلة لسببين:
أولاً: قضية تطبيق الشريعة التي أصبحت برنامجاً سياسياً لبعض الأحزاب، مما جعلها تواجه بأسئلة الواقع، دون أنْ تحيط علماً بمصادرها ومواردها وجزئيات نصوصها وكليات مقاصدها؛ مما أدى من جهة إلى انفعال فيه شططٌ، وردّ فعل من الجهة الأخرى فيه خطأٌ وغلطٌ.
نفقت فيه سوقٌ ظاهريةٌ قلَّ علمُها وضاق فهمُها، فكادت أنْ تُفسد الدنيا والدين، وكفَّرت أكثرَ المسلمين، واعتدت على الأحياء والأموات، ونبشت في تخوم الأرض تبحث عن الرُفات، استظهروا بعض الجزئيات دون ردها إلى الكليات، فغاب عنهم الجمع والفرق والتعليل، فلم يصيبوا في التنزيل.
وقابلتهم نابتة علمانية - كرد فعل - كادت أن تودِّع الدين وتلوذَ بأذيال الغرب، بحثاً عن الخلاص، وفراراً من منطق لم تعهده ومنطلقات لم تعرف مداها، ومستقبل لم يُهيئه حاضرها، فأصبحت الشعوب على شفير هاوية المفاصلة؛ لانحياز كل فريق إلى فسطاط المنابذة.
ثانياً: إلحاح واقع متغير باحث عن أجوبة عملية في قضايا متنوعة تمس حياة الأمة في شتى المجالات والميادين في وقت واحد وفي كل مكان.
والذي يهمنا هو التأصيل للقضايا الفقهية - التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة، - والتي يجب أنْ تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مَفرِق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والكشوف العلمية، والعلاقات الدولية والتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات، والتطاول إلى فضاء المعتقدات.
وقد أصبحت الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات جزءًا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية، كل ذلك يدعو إلى التجديد في الأصول لتصحيح الفروع حتى تكون سليمة لأنها مبنية على أصول صحيحة، «فلا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه؛ إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول ». كما يقول أبو حامد الغزالي.
النص مقتبس من كتاب: تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، للشيخ عبد الله بن بيه، مركز الموطأ، الطبعة الرابعة، 2018، ص: 13، 14، 15، 16.
إرسال تعليق