U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

حمزة النهيري يكتب: الكنبوري... ناقد ظالم!

 



بقلم: د. حمزة النهيري


يحاول بعض الإسلاميين اليوم تصوير فكر محمد عابد الجابري على أن مشروعه في نقد العقل العربي هو مشروع لهدم القرءان والسنة، والحق يقال إن الجابري أضاف للفكر الإسلامي مجالات رحبة للتفكير وأزاح نقع الغبار عن إشكالات كثيرة في طرائق مقارباتنا للتراث والحضارة العربية الاسلامية ولم يكن بذلك التصور الذي يراد ترويجه، وهو صاحب المقولة الشهيرة التراث نملكه ولايملكنا ويقصد به المنتوج الفكري للفقهاء والفلاسفة الإسلاميين الذي لا يعد مقدسا أو منزها عن الخطأ و النظر المتغير ، ولم يدع إلى قطيعة تامة مع التراث كما فعل العروي واركون، وموقفه من القرءان الكريم موقف المسلم الذي يعتبره وحيا إلهيا وليس تراثا، وإنما أراد أن يقرأ القرءان بالمعارف التي اكتسبها ومحاولة توظيفها في فهم أعظم نص مقدس في الوجود، ورغم أنني لا أتفق مع أطروحة الجابري في رباعيته، خصوصا العقل الأخلاقي الذي كتبت عنه دراسة مطبوعة مشهورة-وأنا بصدد إعداد طبعة ثانية مزيدة ومنقحة بحول الله وقوته-، إلا أن الإنصاف العلمي يرغمك على الاعتراف بمقارباته الفكرية وأهميتها في الفكر الإسلامي المعاصر، وأنه ضخ دماء جديدة للفكر الإسلامي بما كتبه وحرره، وعلى العقل المسلم اليوم خصوصا من الأكاديميين والمفكرين أن يتحرروا من النظرة التقزيمية التي يكيلونها للمخالفين لهم في توجهاتهم الفكرية و النظرية.


فمن يحاول تجريد الجابري من خارطة الفكر الإسلامي وتبخيس مجهوداته لم يتحرر من النظرة الاقصائية الدوغمائية التي تزدري بكل عمل ونقد مخالف لتوجهاتنا، وقد كنت دائما انتقد الخط الفكري العلماني الاقصائي الذي يكيله العلمانيون للفلاسفة والمفكرين الإسلاميين. وأنا أيضا انتقد بشدة الانتقائية المقيتة والتصوير البشع الذي يقوم به بعض الكاتبين الإسلاميين لمشروع الجابري مدغدغين عواطف الناس الدينية التي تميل مع طروحاتهم بغير علم ولا بينة، والعدل في ديننا يقتضي عرض الأفكار بمعزل عن التقزيم و التبخيس الايديولوجي، ولايمكن لأي كاتب موضوعي أن يخرج الجابري رحمه الله عن خارطة الفكر الإسلامي وبوثقة المفكر ين الاسلاميبن، وهذا كله نقوله بغض النظر عن مخالفاتنا له التي حررناها ويعرفها من قرأ بعض ماكتبناه عنه.


وغالب النقد هو استعجال في قراءة المتون الجابرية بنظرات تراثية أيديولوجية ضيقة.


والفكر الإسلامي مدين للجابري في مقارباته الفكرية، ولو لم تكن تلك المقاربات لما وجدنا أعمالا إبداعية كتجديد المنهج في تقويم التراث لطه، و ونقد نقد العقل العربي لجورج طرابيشي.


وينبغي التنبيه إلى أن كل من خاض في الفكر الإسلامي وكانت له فيه بصمة علمية فهو محسوب عليه، بغض النظر عن انتمائه الديني وخطه الأيديولوجي.


يمكن القول بكل اطمئنان وإنصاف ان كتاب العقل الأخلاقي العربي للمفكر المقتدر محمد عابد الجابري رحمه الله من أهم الكتب المعاصرة التي أرخت للفكر الأخلاقي الإسلامي العربي في العصر الحديث، وقد كان عمله في هذا الكتاب قائما على وظيفتين مزدوجتين حيث تجلت الوظيفة الأولى في القيام بدور المؤرخ الذي يؤرخ للنظريات الأخلاقية، وذلك عن طريق البحث عن المصادر ثم عرضها على طاولة النقد والتقويم والتصنيف، ثم الوظيفة الثانية التي تقوم على التحليل و المقارنة والنقد.. وقد صرح الجابري في كتابه هذا عن غايته من هذا الكتاب فقال:


"لقد أردنا ان تكون أحكامنا تحمل معها مستنداتها، أردنا أن تكون هذه المستندات متنوعة تنطق باسم كيان العقل الأخلاقي العربي ككل، أعني كما تكون داخل الثقافة العربية الاسلامية العالمة بمختلف منازعها وموروثاتها".


وختم مقدمته بقوله: " عسى أن نكون قد تمكنا فعلا من بدء النظر في الفكر الأخلاقي العربي ونظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجته، والله ولي التوفيق".


فهو يصرح بأن الثقافة العربية الاسلامية أنتجت الفكر الأخلاقي العربي بمختلف تلوينات مدارسنا الفكرية الاسلامية.


لقد أظهر الجابري في مقدمته لهذا الكتاب عن منهج علمي رصين في تتبع مسار الفكر الأخلاقي في الحضارة العربية الاسلامية ومايقابلها في الفكر الغربي، فقد أظهر رحمه الله عن معرفة جيدة بالفكر الأخلاقي الغربي، كما أظهر عن معرفة بالتراث الإسلامي الأخلاقي، ولم يغفل الكتب المعاصرة التي تناولت هذا الموضوع، ومن أظهر الأمثلة على ذلك تناوله لكتاب الأخلاق عند أحمد أمين و ماكتبه الشيخان الجليلان (عبد الله دراز-حسن حبنكة الميداني) ، وقد أحسن في توصيف هذه الكتب وعرضها مع وضعها في سياقها الذي كتبت فيه، ولم يبخس من أعمالهم كما أراد البعض تصويره للناس.. الذين في غالبهم لم ينظروا في هذا الكتاب نظر الدارس المستبصر، وإني لشاكر للناقد الظالم و المستعجل الناقد لفكر الجابري، انه حفزني على قراءة ثانية لكتابه الفذ، بعد أن قرأته منذ سنوات مضت إذ كان كتابه موضوع دراستي في مرحلة الماجستير..


يرى الجابري أن الاتجاه الفكري القائم على وجود أخلاق إسلامية أصيلة في القرءان خاصة يقوم على أساسين اثنين:

-قسم يتبنى نفس القضايا التي يناقشها الفكر الأوروبي(وهي مقاربة العلامة عبد الله دراز رحمه الله)..


-قسم يحاول التحرر من تأثير الفكر الغربي واستخراج الأخلاق الأسلامية من القرءان والسنة بدون ربطها بأي فلسفة أخلاقية أخرى.. (وهي مقاربة العلامة حسن حبنكة الميداني رحمه الله).


وهي كلها كتب مطبوعة ومتوافرة، مع ضرورة التنبيه إلى أن كتاب دراز أصله مكتوب بالفرنسية و ترجمه عبد الصبور شاهين رحمه الله، وهو موجه بالأصالة إلى المفكرين الغربيين، وقد أحسن الجابري في وصف منهجه في هذا الكتاب بما يدل على أنه قارئ منصف وموضوعي.

كما وصف كتاب الشيخ حسن حبنكة بكل موضوعية وتجرد يشكر عليه.

لقد تناول الجابري في مقدمة كتابه العقل الأخلاقي مراحل تطور الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي وجعلها في أربعة مراحل كان فيها مطلعا على التراث الإسلامي القديم والحديث.


ومن يقرأ الكتاب كله و مقدمة الكتاب بتمهل يدرك ذلك جليا..(اطلع على مخطوطات وكتب أشار إليها في كتابه..).


وخلاصة هذا المقال المقتضب ومايليه بحول الله تعالى من مقالات هو الزعم بأن قارئ كتاب العقل الأخلاقي العربي سيخرج بفوائد علمية لاتعد ولاتحصى، وأنه كتاب مهم في خارطة الفكر الإسلامي المعاصر لاينبغي تجاوزه، بغض النظر عن الموافقة والمخالفة لما يطرح، فالقراءة الموضوعية للكتاب تجعلك تدرك أنك تقرأ لعقل رجل عالم بما يكتب ويقول، ومفكر إسلامي كبير، وليس لصبي يافع يهوى التشغيب على العلماء والمسارعة في النقد.

ويمكن القول بأن ماكتبه المستشار طارق البشري رحمه الله من نقد لهذا الكتاب، يعد من أهم المقاربات النقدية الموضوعية التي تناولت كتابه هذا ، وقد أشرت إليها واستفدت منها في كتابي سؤال الدين والأخلاق بين مشروعي طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري.

لقد خصصت كتابي السالف الذكر للحديث عن مفهوم الدين والأخلاق في فكر محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، وناقشت مواضيع كثيرة كموضوع المصلحة و (الديني والسياسي) وأساس الأخلاق هل هو العقل ام النقل!) وغيرها من الموضوعات المنتقدة في كتابه..، لكن الإنصاف يجعلني أشيد بكتاب الجابري في محاولته تأريخ الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي من خلال دارسته التحليلية النقدية لنظم القيم في الثقافة العربية الاسلامية ..




تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة