U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

محمد عابد الجابري: مقترح اللامركزية في الصحراء الغربية 9/4




بقلم: محمد عابد الجابري


أولا: حصار دبلوماسي وحرب استنزاف... 


لم تمنع التطورات والمظاهر التي رافقت وتلتها الجهات الأخرى، من مواصلة التحرك ضد حق المغرب في استرجاع صحرائه، بل لقد أخذ يتضح يوما بعد يوم أن انسحاب إسبانيا من الصحراء لم يكن من أجل إرجاع الحق إلى أهله بل كان يحمل في طياته مؤامرة خطيرة على هذا الحق. لقد أبرز خصوم وحدتنا الترابية جبهة البوليساريو كجبهة تحرير "أرغمت قوات الاحتلال الإسبانية على الانسحاب"، و"تناضل" ضد ما أسمته "احتلال المغرب". ثم اعلنت هذه الجبهة عن قيام ما سمي بـ "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" بمباركة، بل تحت حضانة وبتوجيه من حكام الجزائر، وكان ذلك يوم 27 فبراير 1976.. وبسرعة البرق أصبح لهذه الجمهورية مملثون في عواصم العالم وسفارات تمولها وتوجهها وتقدمها للعالم وللمحافل الدولية الحكومة الجزائرية التي دخلت بالمكشوف في علمية مواجهة المغرب.


وتوالت وتحديات الحكم في الجزائر للمغرب على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري وشنتها عصابات البوليساريو المسلحة بأحدث الأسلحة بتدعيم مكشوف من القوات الجزائرية حرب استنزاف قوامتها القوات الملكية المغربية بكل ثبات وصبر في أرضية لم تكن قد اعتادت عليها من قبل ولم يكن لديها من السلاح الملائم ما يكفي. وأصبح الوضع يتأزم يوما بعد يوم على الصعيدين العسكري والدبلوماسي.


كان لا بد إذا من استدعاء اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد لاطلاعها على تطورات الموقف واتخاذ ما يلزم من القرارات. اجتمعت اللجنة يومي 17 و18 نونبر 1975، واستهلت أشغالها بالاستماع كالعادة إلى تقرير المكتب السياسي الذي ألقاه المرحوم عبد الرحيم الذي عرض فيه مستجدات الوضع. ومن جملة ما ورد في هذا التقرير قوله:


"ولا أخفي عليكم أننا قبل الإعلان عن المسيرة طالبنا بتكوين جيش شعبي للتحرير يتحمل كل مسؤولياته وأعطينا الدليل بالنسبة  لإخواننا أننا ربطنا فعلا ما تتوق إليه جماهيرنا في المغرب بما لازالت تريده إلى الآن لأن قضية التحرير وتوحيد التراب الوطني ليست وليدة 1974. إنها المشكل الجوهري الذي بقي مطروحا في بلادنا والذي يثبت عدم استكمال تحريرها وعدم تصفية الوجود الاستعماري في المغرب".


ثم أبدى تحفظات ومخاوف من التطورات المتتابعة وما يحاك ضد المغرب في الخفاء.


ولم يمر إلا أسبوع واحد حتى أخذت تلك التخوفات تتأكد! فقد أعلن الرئيس الجزائري المرحوم هواري بومدين في تصريح له لجريدة لومتانيتي الفرنسية، أعلن أن: "الصحراء جزء من منطقة أمن الجزائر"، ثم قارن المغرب بإسرائيل، واصفا وجوده في الصحراء بـ "احتلال توسعي"، كما أعلن عن رفضه لبناء المغرب العربي على أساس الدول، مكررا الشعار الذي كان قد رفعه قبل ذلك، شعار: "بدلا من مغرب الدول مغرب الشعوب"!


وتزامن مع ذلك كله تكثيف جبهة البوليساريو لعلمياتها داخل الصحراء، تلك العلميات الرامية إلى تهجير السكان بالقوة إلى تندوف. وبدلا من أن تتبنى الإدارة المغربية الحديثة العهد بالمنطقة سياسة تشعر السكان فعلا بأنهم قد تحرروا من الحكم الأجنبي، أخذت تمارس في الأراضي المسترجعة "السياسة الأمنية" نفسها التي سلكها أوفقير من قبل والتي دفعت بالشباب الصحراوي في أوائل السبعينيات إلى الهروب إلى الجزائر. وكان ذلك مما سهل على البوليساريو عملية تهجير السكان إلى تندوف.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخذ الحكم في الجزائر يكثف من خلال البوليساريو هجماته المسلحة على صحرائنا المسترجعة في حرب استنزاف مكشوفة. وقد تتورط القوات الجزائرية مباشرة في هجوم سافر على حامية أمغالا، ما اضطر معه الملك الراحل إلى توجيه رسالة إلى الرئيس بومدين يخيره فيما بين الحرب والسلم، مؤكدا أن المغرب لن يقبل حرب استنزاف وحيدة الجانب.


ثانيا: الاتحاد يقترح اللامركزية في الصحراء... 


وبالنظر إلى هذه التعقيدات استدعى المكتب السياسي اللجنة المركزية للانعقاد يوم 5 أبريل 1976 للنظر في أمر المشاركة في الانتخابات الجماعية من جهة، وفي المستجدات التي تعرفها قضية الصحراء من جهة أخرى. والجدير بالذكر هنا أن المرحوم عبد الرحيم ربط قضية الصحراء بقضية الديمقراطية، مقترحا قيام نوع من اللامركزية في أقاليمنا الصحراوية، قال في تقريره إلى اللجنة المركزية في ما يخص قضية الصحراء:


"... وبطبيعة الحال يجب علينا أن نعطي لإخواننا الصحراويين صورة عن المغرب غير الصورة التي يعرفونها اليوم، صورة التي تجعلهم يطمئنون على مستقبلهم. نعم إن على إخواننا في الصحراء أن يندمجوا في الشعب المغربي في كفاحاته، ولكن ليس من السهل التغلب على الرواسب التي خلفتها ثمانون سنة من الفراق. وفي هذا الإطار نرى أنه يجب التفكير منذ الآن في نوع من اللامركزية الواسعة التي يجب إقامتها في الصحراء، تجعل سكانها يقتنعون بأنهم يمارسون بكل اطمئنان صنع مستقبلهم كجزء لا يتجزأ من الشعب المغربي. إننا إذا فعلنا ذلك سنضع حدا للدعايات المغرضة التي تشوه نيات الشعب المغربي. إن إقامة نظام لامركزي ديمقراطي في الصحراء شيء أساسي وضروري لأن الوضع الجغرافي والاقتصادي والبشري يفرض ذلك".


ومن الجدير بالإشارة أن جريدة العلم انتقدت اقتراح المرحوم عبد الرحيم، وقالت عنه إنه "فكرة خطيرة"، وإنها "من إملاء الحزب الاشتراكي الفرنسي"، وإنها "كلام مصنوع"... إلخ. وفي اليوم التالي لنشر مقالة العلم، كتبتُ مقالة افتتاحية مطولة في المحرر للرد عليها، ونظرا للطابع السجالي لتلك المقالة نقتصر هنا على الفقراء التي تشرح موقفنا وهي كما يلي:


- إن الصحراء كانت دائما، وستظل دائما مغربية، ولكن هناك واقعا تاريخيا جغرافيا اجتماعيا لا يمكن نكرانه وإلا كنا كمن يدفن رأسه في الرمال، والصحراء مليئة بالرمال.


- فمن الناحية التاريخية كانت الصحراء المغربية تابعة للسلطة المركزية. كان السلطان يعين نائبا عنه هناك يكلفه مع المواطنين الصحراويين بالسهر على الأمن والقيام بمختلف الواجبات الوطنية، سواء تعلق الأمر بصد هجمات المعتدين أو بجمع الضرائب والالتزامات أو بتقديم البيعة وتجديدها، أي الإعلان عن الولاء والتبعية للوطن، للمغرب ككل، أي الإقرار بسيادة السلطان هناك في الصحراء حين يصبح مجسدا للسيادة الوطنية ككل. وفي ما عدا ذلك كانت هناك لامركزية تفرضها طبيعة المنطقة. نعم كان هذا شأن كثير من المناطق النائية في المغرب قبل الحماية، وكان ذلك سمة من سمات الدولة في القرون الوسطى. والدولة الحديثة تختلف عن الدولة الوسطوية بإحلال المركزية محل اللامركزية، ولكن هناك مركزية ومركزية! هناك المركزية الاستغلالية الاستبدادية وهناك المركزية الديمقراطية.


- من الناحية الجغرافية لا أحد ينكر أن إقليمنا الصحراوي واسع شاسع تستحيل مراقبة كل نقطة ترابية منه من طرف السلطة المركزية مهما بلغ عدد موظفيها ورجال الأمن العاملين بإمرتها. فلا يمكن إذا مقارنة إقليمنا الصحراوي بإقليم الشمال كإقليم طنجة. إن الإقليم الصحراوي صحراء مترامية الأطراف قليلة العمران، صعبة المواصلات فكيف يمكن عمليا السيطرة مركزيا على إقليم من هذا النوع.


- ومن الناحية الاجتماعية ما زال معظم سكان الصحراء المغربية بدواَ رحلا يتنقلون بإبلهم وخيامهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف، تنتظمهم نظم وعادات وتقاليد وأعراف هي نسيج وحدتهم الاجتماعية. إنهم وحدة في كثرة وكثرة في وحدة. فهل يمكن للحاكم المركزي أو لمساعديه أن ينتقل مع هؤلاء المواطنين الذي يرحلون بخيامهم وإبلهم باستمرار عبر مسافات طويلة؟ إن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبشرية في الصحراء تشكل نمطا خاصا: لا يمكن مثلا منع الحصراويين في إقليمنا المسترجع من الاتصال بالمصاهرة أو بالتجارة أو بغيرها مع السكان الصحراويين في موريتانيا أو في الجزائر، ولا يمكن إقامة حدود جمركية، ولا يمكن الإشراف على الحدود التي تربطنا مع الجزائر وموريتانيا إشرافا تاما. ومن يدعي ذلك فهو يجهل طبيعة الصحراء بسكانها وإبلها ونوعية المواصلات السائدة فيها.


- ومن هنا ضرورة نوع من اللامركزية الإدارية. فأهل الصحراء أعرف الناس بشعاب الصحراء وتنقلات سكانها وعلاقاتهم ببعضهم. والموظف الذي يرسل إلى الصحراء لن يتمكن من القيام بواجبه إلا إذا اندمج هو نفسه في حياة الصحراء، أي إلا إذا أصبح هو نفسه صحراويا. فهل تعترض الزميلة العلم على إسناد الوظائف الإدارية للمواطنين الصحراويين في إقليمنا الصحراوي؟ بطبيعة الحال لا نطالب بذلك الآن. فالوضعية هناك ما زالت تعاني تشويش الجيران، ولكن لابد من هذا أن تستقر الأمور نهائيا.


- ونأتي الآن إلى الناحية الاقتصادية، وهي الأهم، وهنا لا بد من شيء من الصراحة. إن المغرب، والعلم تندد بهذا كل يوم، يعاني من المضاربين والسماسرة و"الخطافين" الذي يريدون أن يستظلوا بظل شعار"الليبرالية" ولا يمانعون، بل يرغبون في أن يطلق عليهم اسم "البورجوازية الوطنية" هؤلاء ينهبون خيرات الشعب ويتصرفون فيها في ميادين غير منتجة، ميادين الاستهلاك الرفيع "اللوكس"، وتهريب الأموال إلى الخارج و... و... 


فهل تقبل العلم أن تمتد أيدي هؤلاء صحرائنا المسترجعة ليمتصوا خيراتها ودماء سكانها، مثلما فعلوا في المناطق الأخرى باسم المركزية أو مساعدة النظام الإداري والاقتصادي المركزي القائم الآن؟ وهل نسيت العلم أن الدولة نفسها عمدت في السنين الأخيرة إلى تقسيم البلاد إلى مناطق اقتصادية وبناء التنمية على أساس تصاميم جهوية؟ لا شك أن العلم تنتقد الشكل الذي تقرر وتنفذ به هذه التصاميم، ونحن معها في ذلك. لأنها تصاميم لا تصدرعن إرادة السكان المحليين الذين لا يساهمون في إقرار الاختيار والسهر على تنفيذها والمساهمة الفعالة النشطة في إنجازها. لماذا؟ أليس ذلك راجعا إلى أن التصاميم الجهوية تملى من فوق وتخضع للمركزية الاستغلالية؟ إن السؤال الوحيد المطروح هو التالي: هل سنترك إقليمنا الصحراوي سقط فريسة يمتص دمها كمشة من التجار والمضاربين والسماسرة وأصحاب المشاريع "الليبرالية" خارج الصحراء وداخلها، داخل المغرب وخارجه، أم أنه من الواجب علينا أن نفكر منذ الآن في تجنيب إقليمنا الصحراوي السقوط في حبائل هؤلاء كما سقطت فيها مختلف المناطق المحررة منذ 1956؟


"... حاصل الكلام أن مسألة المركزية واللامركزية يجب أن ننظر إليها من زاوية الاستغلال وعدم الاستغلال. إن اللامركزية المتفتحة التقدمية هي التي بمقدورها أن تحمي الجماهير الشعبية من الاستغلال..".


النص مقتبس، من مذكرات الجابري: في غمار السياسية: فكرا وممارسة، ص: 143.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة