بقلم: عبد الفتاح كيليطو
بعد تعرضهما للخيانة من قبل زوجتيهما، غادر الملك شهريار وأخوه شاه زمان القصر، وبادرا حتى "ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا". عند وصولهما إلى ساحل البحر، رأيا جنيا يطلع منه حاملا على رأسه صندوقا زجاجيا، يسحب منه علبة، ومن العلبة تخرج "صبية غراء بهية".
فتح صندوق ما يحمل بالفعل عدة مفاجآت، من الممكن أن نعثر فيه على كنز، أو حتى على امرأة. من المحتمل أيضا أن تنفلت منه كل شرور الإنسانية ألف ليلة وليلة أو صندوق باندورا.
يتسلق شهريار وأخوه أعلى شجرة كبيرة ويختفيان بين الأوراق وهما وجلان من الفزع، بينما الجني، منهوك القوى، يضع رأسه على ركبة أسيرته وينام. وترفع عينيها نحو أعلى الشجرة وتلمح الأخوين فتجبرهما على النزول وعلى مجامعتها، ثم تخرج من جيبها كيسا يحتوي على عِقد مؤلف من خمسمائة وسبعين خاتما: "أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قررن هذا العفريت، فاعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران". تخبرهما، فيما يمكن أن يبدو تسويغا لتصرفها، بأن الجني اختطفها ليلة عرسها. "لم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء". هي ذي خلاصة قصتها.
التشابه ملحوظ بصورة شديدة بين الجني وشهريار، وكذلك بين الصندوق الزجاجي والقصر. المشهد المعروض للمسافرين بمثابة مرآة يتمعنان فيها ما قُدِّرَ لهما. لا ننسى أن الأمر يتعلق هنا بالحكاية الأولى من حكايات الليالي، طبعا بعد قصة المصاب الذي حل بالأخوين. إنها حكاية خارج الألف ليلة وليلة، مما يحتم القول إن الصبية هي الساردة الأولى في هذا الكتاب. هي التي تدشن دورة الحكايات، متقدمة على شهر زاد التي لم يكن لها شأن إلا فيما بعد. يتجلى هنا بالمناسبة حذق المؤلف المجهول لـ "الليالي"، وربما بصورة أكثر دقة حذق المؤلفين الذي نسجوا هذه الحكاية المتفردة وهم يفكرون في معمار الكتاب وصياغته المتشكلة من منعرجات ومنعطفات. تمهد الصبية لظهور شهر زاد وتعلن برقة ونعومة شكل ومحتوى ما سيكون عليه الكتاب: خواتم في كيس.
خمسمائة وسبعون خاتما. ليس ألفا، لكن الوجهة نحوها مفتوحة. هناك تشديد على العدد الكبير من الخواتم، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يذكر بملحوظة مثيرة لبورخيس: "أن تقول "ألف ليلة"، معنا أن تتحدث عن لا نهائية من الليالي، ليال بلا عد، لا تحصى. أن تقو ل"ألف ليلة وليلة"، معناه أن تضيف ليلة إلى لا نهائية الليالي". أضافت الصبية من جانبها إلى مجموعتها من الخواتم خاتمي كل من شهريار وشاه زمان، ومن ثم ضمت وحدتين أخريين إلى لا نهائية الخواتم.
هكذا تنبئ الخواتم منذ الاستهلال وفي مفتتح الكتاب بـ الليالي العديدة التي ستحييها شهرزاد. تمتلك الصبية الأسيرة "ستظل مجهولة الاسم" ألف خاتم، وتمتلك شهرزاد ألف حكاية. لنلفت الانتباه، في هذا الصدد، إلى رسوخ بنية الاختفاء والانغلاق: يختفي الأخوان بين أوراق الشجر، الصندوق الزجاجي له حسب النسخ أربعة أو سبعة أقفال، الصبية داخل العلبة، والعلبة داخل الصندوق، والصندوق في قاع البحر... ألا يحيل كل هذا إلى كتاب الليالي، إلى حكاياته التي تحتوي أخرى تضمر بدورها حكايات إضافية، وهكذا دواليك؟
تذكر الصبية اختطافها، غير أنها لا تروي مغامراتها مع الألف عشيق وعشيق. لمن قد تقود بذلك في الواقع؟ للأخويين الميتين من الخوف؟ لا هي ولا هما يمتلكون ما يكفي من الوقت. للجني الرهيب؟ مستحيل. ما في مستطاعها أن ترويه يبدو كما لو أنه كتاب لم يكتب بعد، ولن يكتب أبدا، لكنه مع ذلك يوجد كبذرة في حكايتها. يمكن أن يكون، إذا ما تم تدبر الأمر، هو الكتاب ذاته الذي يضم حكايات شهرزاد.
النص مقتبس من كتاب: من نبحث عنه بعيدا، يقطن بقربنا، عبد الفتاح كيليطو، ترجمة إسماعيل أزيات، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2019، ص: 9، 10، 11.
إرسال تعليق