بقلم: فتحي المسكيني
الإيمان الحر هو ذاك الذي يريد تحرير العلاقة البشرية بفكرة الله من سلطة الأديان التقليدية التي وقفت في شكل "الملة" وإعادتها إلى العقل البشري بما هو كذلك. ولذلك هو إيمان ليس له من معنى خارج أفق الإنسانية. والإيمان الحر هو إيمان "الفرادى" الذين تخلوا عن أي التزام دعوي تقليدي باسم هذا الدين الرسمي أو ذاك.
لكن المؤمن الحر ليس ملحدا أو "لا-دينيا". فهو مختلف مثلا عن نوع الناس الذين يطلق عليهم في أمريكا اسم (nones)؛ أي أولئك الذين ليس لهم مذهب ديني. المؤمن الحر ليس مجرد "مؤمن غير نشط"، أو مؤمنا يكره الدين المنظم أو المؤسسات الدينية أو لم يحسم بعد، بل هو مؤمن حر؛ أي لم يعد معنيا بأي مناظرة رسمية مع أو حول الدين التقليدي.
ومنذ نيتشه ودعوته إلى أخلاق ما وراء الخير والشر، يقف الإيمان الحر ما وراء الاعتقاد والكفر بالمعنى التقني الذي يضبطه اللاهوت أو الفقه في العصور الوسطى، نعني في عصور دولة الملة. لكنه، في المقابل، لم يتخل عن انتمائه العميق إلى مصادر ذاته. هو لا يزال ينتمي إلى نفسه كما ورثها، أو كما وقعت عليه في نمط الكينونة الذي يستند إليه في بلورة ملامح هويته. وهو لا يعول على أية حرية لا تتحرر من داخل مصادر نفسها، ضدها وبها في آن؛ إذ لا تحتاج المجتمعات ما بعد الدينية إلى الإلحاد؛ بل فقط إلى تحرير الإيمان من الأديان النظامية، وذلك يجب إعادة الإيمان إلى أصحابه الحقيقيين، وحمايته من منطق الملة مهما كانت رواسبها فينا.
ومن هنا تسأل الباحثون ما بعد المحدثين عن دلالة المسيحية بعد "نهاية الكنيسة"؛ أي في عصر "ما بعد الدين"؛ حيث يمكن انتظار "ولادة يقظة روحية جديدة". وعلينا أن نتحمل النوع نفسه من الأسئلة: ما تكون دلالة الإسلام بعد "نهاية الملة"؛ أي بعد انحسار مفهوم الشريعة بالمعنى الفقهي؟
وقد نجازف هنا ببعض إجابة مؤقتة: إن الإيمان الحر هو شكل غير ديني أو ما-بعد- ديني (إيتيقي/روحي/أدبي بالمعنى الأقصى للكلمة) من الاستئناف للطريقة الأصلية التي تلقى بها الناس ظهور الأنبياء، نعني أنهم لم يأتوا لفرض عقائد جاهزة على عقولهم، بل فقط لاقتراح أسلوب حر؛ أي "شخصي"، في احتمال لغز أو سر الحياة داخل العالم.
إن ما يجازف به الإيمان الحر، الذي ترضى به الفلاسفة، هو أنه إيمان بلا تملق دنيوي للمؤمن التقليدي، ولا فضول أخروي ترضى عنه الفقهاء؛ ذلك أن صناعة الآخرة في كل ثقافة توحيدية هي فضول حول المتفقهون إلى آلة استبداد أخلاقي على الأبرياء؛ وكل شخص هو عامة ميتافيزيقيا شخص بريء إلا من موته. ولذلك، إن أول رهان للإيمان الحر هو تحرير الموت من دلالته الأخروية وإعادته إلى تناهيه البشري لدى أي كان. وبهذا المعنى على كل تفكير حر أن يحذر من أي مؤسسة دينية تستعمل واقعة الموت أو فكرة الآخرة بوصفها جهازا استبداديا لابتزاز براءة الكينونة في العالم.
نص مقتبس من كتاب: الإيمان الحر أو ما بعد الملة، مباحث في فلسفة الدين، للمفكر التونسي فتحي المسكيني، الطبعة الأولى، 2018، الناشر: مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، ص:09-11.
إرسال تعليق