U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

محمد المزوغي يكتب: نيتشه اللعين...فيلولوجيا المستقبل ومستقبل الفلسفة





 بقلم: محمد المزوغي 


كم ردد دارسوا الفلسفة عبارات نيتشه عن ظهر قلب، وكم افتتن به الناس وكم شهرة تجاوزت نطاق اختصاصيي الفلسفة لكي تدخل حتى في تكوين ثقافة رجل الشارع.


كلام نيتشه الشعروي وحكمويته ورموزه وأمثاله الجذابة جعلت منه مَعلما (1) تتناقله الأفواه ورمزا لكل من أراد التفلسف خارج المعايير السائدة وقدوة لكل من رغب في التفكير بعيدا عن قوالب الأحكام الجاهزة. وما زاد في شهرته وعلو صيته ظهور كتابات تناولت حياته وأعماله لرجال ذوي براعة كبرى في الفسفة مثل ياسبرس وهايدغر في ألمانيا وفوكو ودولوز في فرنسا.


لكن، كما هو معلوم، نشوة الجديد، مع مرور الزمن، قد تتلاشى، والانبهار الأولي وفورة الحماسة يتركان مكانهما للتمعن والتريث في الحكم، وفي بعض (2) الأحيان، بعد التمحيص والتدقيق، فإن الإعجاب قد يبوء إلى القرف الفكري من أولئك الرجال الذين كانوا في فترة من حياتنا الفكرية سلطة لا تمس ومثالا يحتذى به.


فريدريك نيتشه لم يكن فيلسوفا بالاحتراف، ولم يتردد أبدا على كلية الفلسفة في حياته الدراسية. والكل يعلم أنه كان، أولا وقبل كل شيء، فيلولوجيا متخصصا في الدراسات الكلاسيكية.


الفيلولوجيا هي علم يعتمد التدقيق في النصوص والتحقيق فيها، والمقارنة بين المصطلحات وتاريخ تطورها والتغيرات التي طرأت عليها عبر العصور. وكأي علم من العلوم الإنسانية فالفيلولوجيا لها مناهج محددة ومبادئ عامة معترف بها ومجمع عليها من طرف الدارسين المختصين. الفيلولوجي المختص لا يدعي لنفسه تجاوز حدوده ولا الدخول في نزاع مع العلوم الأخرى: من يكتب في الفيلولوجيا عليه أن يتمسك بقواعد ذاك العلم وبمناهج البحث التي أرسيت منذ عهود، وأن يستثمر ما آلت إليه البحوث السابقة والمعاصرة.


لكن نيتشه في عمله على التراجيديا تجاوز حدود المجال الفيلولوجي واجتاح مجال التنظير البحت، ودخل في مماحكات جدالية ذات أبعاد فلسفية خطيرة. وقد اعتبر البعض من الدارسين أن هذا الاجتياح في غير محله، لأن صاحبه ليست لديه الكفاءة العلمية اللازمة التي تخول له هذه الرخصة. إذ يبدو أن عدم  تمكن نيتشه من الفلسفة يظهر بوضوح من خلال كتاباته التي تشكو النقص في التوثيق، وغياب الاستشهاد بالمراجع، والتسرع في الأحكام، والنثر المشبع خطابة وشعرية.


ولكن الأكثر خطورة هو أن نيتشه أخل حتى بالعلم الذي اختص فيه أي الفيلولوجيا: كتاب "مولد التراجيديا من روح الموسيقى" بدا لزملائه المختصين بأن كتاب فيلولوجي حالم، ومتوهم. لقد خرق بذاك العمل، وهو رجل متخصص ويدرس تلك المادة في مؤسسة جامعية عريقة، كل المعايير والمناهج التي انبت عليها الفيلولوجيا.


شن حربا شعواء ضد أعلام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وبالأخص منهم سقراط واتهمه بقتل التراجيديا والكاتب المسرحي يوربيدس الذي استمد، حسب (3) زعمه، تعاليمه من سقراط وأدخل العقل والمنطق في أعماله المسرحية. وهي حملة بدأها قبل صدور عمله هذا، في مجموعة من محاضرات ألقاها في فترة لا تبعد كثيرا عن فترة صدور كتابه "مولد التراجيديا".


هذا علاوة على أقوال مربكة، وأفكار ناشزة وتهم خطيرة، ركبت على كاهل رجال من العالم اليوناني وعلى فيلولوجيين معاصرين له وسابقين عليه. وهي أقوال تحمل غايات ثانوية بعيدة عن مطلب البحث العلمي وخارجة عن الهم الفيلولوجي البحت. والأدهى من ذلك أنها ناقصة من حيث التوثيق وغير مدعمة بشواهد تاريخية دقيقة كما هو معملول به في أي مبحث علمي يستحق هذه التسمية (4).

(1)- ص:19

(2)- ص:20

(3)- ص:21

(4)- ص:22


من كتاب: نيتشه هايدغر فوكو: تفكيك ونقد، محمد المزوغي، أستاذ الفلسفة بالمعهد البابوي- روما، دار نيبور العراق، الطبعة الأولى، 2014.




 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة