بقلم: حسن أوريد
في حديث خص به تلفزة فرنسية خلال الثمانينات، أشار الحسن الثاني إلى "فن الحرب" عند شون تسو، وخاصة استراتيجية القادة العسكريين الصينيين في التلويح بالحرب كي لا يضطروا لخوضها فعلا. تبدو المسيرة الخضراء مطابقة تماما لهذا الفن.
شعبي العزيز، غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطال أرضا من أراضيك". بهذه النبرة الحازمة أعطى الحسن الثاني ، من أكادير مساء يوم 5 نونبر 1975، الأمر للمتطوعين للمسيرة الخضراء، المتركزين في طرفاية باختراق مركز الطاح، ليصلوا الرحم مع إخوانهم المعزولين عنهم بفعل التجزئة الاستعمارية، ستكون المسيرة خضراء، أي سليمة، لا يحمل فيها المتطوعون سوى القرآن. يحيون الإسبان الذين سيواجهونهم في الطريق، ويقتسمون معهم قوتهم، فمن يجرؤ على استهداف مشاة مسالمين؟
ورقة الرهان الملكية
في 16 أكتوبر 1975 أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري بخصوص الصحراء، مجيبة عن سؤالين طرحهما المغرب: هل كانت الصحراء أرضا خلاء؟ وماذا كانت الروابط التي تجمعها بالمغرب؟ كان جواب المحكمة أن الصحراء لم تكن أرضا خلاء، وأن القبائل التي تعيش فيها كانت ملتزمة ببيعة سلاطين المغرب. ولم يكن ذلك يعني أن تلك الروابط كانت روابط سيادة، لكن القاضي اللبناني عبود، أحد حكماء المحكمة الخمسة عشر، نبه لكون أحكام الشرع الإسلامي لا تتطابق مع القانون الغربي المستوحى من القانون الروماني المرتكز على "قانون الأرض" كانت هذه هي الأطروحة التي دافع عنها لاحقا المؤرخ عبد الله العروي.
في تلك الأثناء غداة الرأي الاستشاري لمحمكة العدل الدولية، أطلق الحسن الثاني المسيرة الخضراء مستلهما نموذج الهجرة النبوية، ولكن أيضا نموذج المسيرة لكبرى لماوتسي تونغ. في المقابل لم ترد أية إشارة لـ "طريق الوحدة" التي شارك فيها الحسن الثاني نفسه لما كان وليا للعهد سنة 1957. الواقع أن المسيرة استوحت من المهدي بنبركة الفلسفة والمنهجية اللتين اعتمدهما في مبادرته لبناء طريق الوحدة. تشكلت المسيرة من 350 ألف متطوع، ما يعادل عدد الولادات السنوية في تلك الفترة، كان 10 بالمائة منهم نساء، موزعين على مختلف مناطق البلاد. احتلت الدار البيضاء الصدارة في عدد المتطوعين بـ 35 ألفا، تليها قصر السوق "الراشيدية" ووارززات بـ 20 ألف لكل منهما، وهما منطقتان صحراويتان يشتهر سكانهما بقدرتهم على تحمل المشاق.
نظمت المسيرة تنظيما محكما وفر للمتطوعين كافة الحاجيات الأساسية، وحتى "أعواد الثقاب والشمع"، كما قال الحسن الثاني، قاصدا، على استحياء، السجائر بالنسبة للمدخنين.
استقبل الحسن الثاني، بينما كان في إقليم سطات لتدشين سد المسيرة، كورت فالدهايم الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة. في اليوم الموالي بث النبأ على أمواج الغذاعة. رسالة الحسن الثاني لفالدهايم أن "المسيرة الخضراء لن تنسلخ عن مجراها". في 20 أكتوبر 1975 انتقل أحمد عصمان، الوزير الأول حينها، إلى قصر السوق لعطاء انطلاقة أول قافلة للمتطوعين، تتجه نحو موقع التجمع في طرفاية، تلتها قافلة وارززات. أياما قليلة بعدها أعطى ولي العهد، الملك الحالي محمد السادس، انطلاقة قافلة المتطوعين في مدينة الجديدة، بواسطة خطاب تلاه بالمناسبة، وكان مرفوقا بالحاج باحنيني وزير الدولة في الثقافة أنئذ. غمر المغرب حماس بالغ. كانت مواكب الشاحنات والحافلات والقاطرات تملأ الأرجاء، ومعها الأغاني والشعارات الوطنية. حماس يذكر بأجواء الاستقلال.
اللعبة الدبلوماسية وتحضيرات المسيرة
كان موضوع استكمال الوحدة الترابية يحظى بإجماع الطبقة السياسية، لكن الحسن الثاني طبع المسألة بأسلوبه الخاص، وكان يتحرك على ثلاث واجهات. الواجهة الدبلوماسية أولا، إزاء جيراننا. في أكادير استقبل الحسن الثاني سنة 1973 الرئيس الجزائري هواري بومدين، والموريطاني مختار ولد دادة، لتحسيسهما بمطالب المغرب في استرجاع صحرائه. كانت هناك عقبتان في تلك الفترة، موريطانيا تطالب بضم الصحراء، وإسبانيا تستعد لخلق دويلة تابعة لها. كان الحسن الثاني يعتقد أنه قدم ما يكفي من التنازلات التي من شأنها حمل جيرانه على التعاون، فقد تنازل عن تندوف، واعترف سنة 1969 باستقلال موريطانيا بيد أن هذا اللقاء لم يكن مثمرا، فوجد الحسن الثاني نفسه مضطرا لإرضاء موريطانيا، كما يوضح ولد دادة في مذكراته: "la Mauritanie contre vent et marées".
هذا الإرضاء الذي اعتبره البعض بمثابة تقسيم ذي نفحة استعمارية، كان في الواقع تعبيرا عن رؤية استراتيجية للحسن الثاني بخصوص جارته الجنوبية. فهم ولد دادة هذا العرض وقبله، فكان ذلك إيذانا بعلاقة متميزة، بل استراتيجية مع موريطانيا.
في المقابل، لم تكن لعبة الجزائريين واضحة، فكانت تتأرجح بين موقفين. الموقف المعلن بأن الجزائر لم تكن لها أية أطماع في الصحراء، كما عبر عن ذلك الرئيس بومدين في القمة العربية بالرباط سنة 1974، وأنها سوف تبارك أي اتفاق بين المغرب وموريطانيا ثم لاحقا ظهر موقفها الداعي لاحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها....
في خلفية هذا الموقف، كما أوضح ذلك امحمد بوستة وزير الخارجية الأسبق،في حواره مع "زمان"، أن الجزائريين كانوا يعتقدون أن نظام الحسن الثاني ضعيف. وأن جيشه مقطوع الرأس، وأن الجبهة الوطنية مهزوزة، وبما أن الإسبان كانوا حلفاءهم لم يكونوا يظنون أن المغرب سيظل صامدا في مغامرة من حجم استرجاع الصحراء. هكذا، لم تخرج الجزائر من موقفها الغامض إلا بعدما نجحت المسيرة الخضراء، متعللة بأنها لن تقبل تغيير المعطيات الجيوستراتيجية الموروثة عن مرحلة تصفية الاستعمار في المنطقة. على المستوى العسكري، وبالرغم أن الحسن الثاني عبر مرارا عن نواياه السليمة ورفضه الدخول في أي حرب ضد إسبانيا، إلا أن الجيش المغربي كان مستعدا لأي احتمال. تولى مهمة التحضير للمسيرة، التي ظلت سرية، وتأمين مسارات المتطوعين، غير بعيد عن التخوم.
أما على المستوى الداخلي، فبدأ الحسن الثاني بإخبار وإشراك القادة السياسيين, استقبل عبد الرحيم بوعبيد قبل أن يؤسس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، للقطع مع الاتحاد الوطني والمتاعب التي كان يجرها معه وتغذي التوجس المتبادل بين القصر واليسار. كان بوعبيد رفقة امحمد بوستة في هذا الاستقبال الذي أخبرهما فيه الملك بعزمه تنظيم المسيرة الخضراء، طالبا منهما أداء القسم بعدم إفشاء السر.
عبر بوعبيد عن فكرتين أساسيتين لم يكن من الملك إلا أن يوافقه عليهما: تجنب أي مواجهة عسكرية مع إسبانيا، وإقامة علاقات جديدة مع المعارضة التي كان أغلب قادتها منفيين في الخارج. كان قضية الصحراء مناسبة للمصالحة وربما لعقد "توافق مقدس". كانت المسيرة الخضراء هدية ثمينة من السماء للبلاد، كما قال امحمد بوستة لاحقا.
كان الحسن الثاني يراهن على بلاغة المغربي في التعبير عن حماسه الوطني، كما عبر عن ذلك. ألم يكن مئات الآلاف من المدنيين معرضين لشتى الأخطار؟ حتى أن الحسن الثاني كان مستعدا، في حالة فشل المسيرة، لأن يتخلى عن العرش كانا رهانا كبيرا جدا، ربحه الحسن الثاني، منذ تلك اللحظة، أصبح يرى مشرق الشمس بنظرة مغايرة، كما قال لاحقا. لقد أصبح الحسن الثاني يتمتع بمصدر آخر للشرعية، جعله يصبح "موحد البلاد ومبدع المسيرة".
ما بعد المسيرة
يوم الخميس 6 نونبر 1975، اخترقت المسيرة، تحت وقع الزغاريد، مركز الطاح الحدودي. تقدم أحد المتطوعين لرفع العلم المغربي فوق منصة المركز، ليظل مرفرفا بقوة الرياح الرملية.
بعد هذه المرحلة الأولى، عسكر المتطوعون في نقطة تقع على بعد 10 كيلومترات وسط ما كان يعرف بالصحراء الإسبانية. هنالك أدوا صلاة الجمعة في اليوم الموالي. ثم تراجعوا في الغد بأمر من الحسن الثاني، مؤطرين بثلة من رجال السلطة. فقد حققت المسيرة أهدافها، كما قال الملك. إسبانيا قبلت التفاوض مع المغرب وموريطانيا، في ما يعرف باتفاقية مدريد يوم 26 نونبر 1975، والتي اعترفت بحق للبلدين في المنطقة.
أما مع الجزائريين فتطور التوتر بسرعة. وزير الخارجية الجزائريي ائنذ عبد العزيز بوتفليقة والذي استقبل من طرف الحسن الثاني قبل صدور قرار محكمة العدل الدولية، أدلى بتصريح هادئا نسبيا. نفس الشيء بالنسبة لباحنيني، الذي كان مقربا من الحسن الثاني، وطار نحو الجزائر حيث استقبله بومدين ليدور الحديث حول الجو السائد في المغرب أكثر منه حول الصحراء.
لم يغضب بومدين من استرجاع المغرب للصحراء أكثر مما غضب من نجاح المسيرة الخضراء، رأى فيها "مظاهرة فيودالية" لـ "مدربلين" "دون شغل" تشكل بالنسبة إليه تهديدا بالحرب، مستعملا ألفاط أكثر قدحية في حق النساء. واعتبر أنها موجهة ضده شخصيا هو الذي يرى نفسه بطل "مغرب الشعوب" في كتابه " le Polisario l'âme d'un peuple " يشرح أحمد بابا ميسكة أن الشعور السائد في الجزائر بعد نجاح المسيرة الخضراء، كون البلد محاصرا، بل مهددا. من جهته، يكشف الشاذلي بنجديد في مذكراته، وكان حينها قائدا للمنطقة العسكرية رقم 1 في وهران، أن أوضح لبومدين خلال اجتماع لقيادة أركان الحرب أن الجيش الجزائري غير مستعد للحرب، فرد الأخير بغضب عارم "ما عنديش رجال" ثم توجه بومدين إلى بوتفليقة ليأمره بـ "تحضير الكتائب". كانت جبهة البوليزاريو أداة بومدين. في مذكراته، يكشف المحجوب السالك، أحد مؤسسي الجبهة، نقلا عن زوجة بومدين، أن الأخير كان أحيانا يرقص فرحا عندما تربح البوليزاريو معركة ضد القوات المغربية.
أصبح المغرب، في الخطاب الرسمي الجزائري، امتدادا لفرنسا الاستعمارية. أثناء اجتماع لأطر جبهة التحرير الجزائرية سنة 1976، شن بومدين هجوما عنيفا ضد ما أسماه الأطماع الإمبريالية للمغرب. هذا الهجوم رد عليه الحسن الثاني، بما لا يخلو من سخرية، بأنها المرة الأولى التي تهدد فيها ملكية جمهورية طلائعية وثورية. حتى أن بعض هيئات التحرير في الصحف الجزائرية كانت تربط شعار "من طنجة إلى لكويرة"، بشعار من "من دانكرك إلى تمانغاست"، الذي كان يرفعه المعمرون الفرنسيون أثناء احتلال الجزائر.
كان الحسن الثاني حريصا على أن تظل شعلة المسيرة الخضراء متقدة. وضع ما سماه "قسم المسيرة" بخط يده، وفي نونبر 1978 منح ولي العهد وشقيقه الأمير مولاي رشيد وسام المسيرة، لتحسيس الأجيال الجديدة بأهمية الحدث.
مجلة زمان، العدد 25 نونبر 2015.
إرسال تعليق