U3F1ZWV6ZTQwMTExODUzOTU3MDM5X0ZyZWUyNTMwNjAyNTk4MjY3NQ==

إلى أستاذي المعجزة الذي كان سببا في تفوقي

 





بقلم: مصطفى بوكرن


أعرف أنك لن تنادي علي إلى منزلك، وتخرج هاتفك النقال، وتطلب من ابنك، أن يصورني معك، وتقف أمام الكاميرا، وتقول:

هذه التلميذة حصلت على نقطة متميزة في مادتي، والحمد لله كنت أنا السبب في تفوقه.


أعرف أنك لن تقوم بذلك، لأن هذا التصرف ليس من شيم الأساتذة الكبار. هذا تصرف من يريد رفع عدد المشاهدات واللايكات، ويريد الترويج لمركز الدعم الذي يستغل فيه، لاستقطاب المزيد من الزبناء.



أعرف أنك لن تستطيع أن تتحدث عن نفسك. وإذا لم يتحدث عنك تلاميذك، فلن يتحدث عنك أحد.


أستاذي العزيز:



أعلم أنك لن تتوقع مثل هذا التصرف من تلميذة تدرس عندك، لأن غالبية التلاميذ في المدرسة العمومية، أغلبهم تنقطع العلاقة بينهم وبين الأستاذة بعد إنجاز فرض المراقبة المستمرة الأخير.


أردت أن أفاجئك بهذه الرسالة، وأقدم في حقك شهادة اعتراف وامتنان.


لو قلت فيك ما قلت لن أوفيك حقك، لأن ما رأيته بأم عيني، يستحق كتابا كاملا.


لن أجاملك أستاذي، أنت بحق أستاذ معجزة.


لأنك في حصتك الأولى استقبلت في القسم 46 تلميذا وتلميذة. كنت هادئا ومبتسما ونشيطا...، لم يفزعك هذا العدد، الذي يضم تلاميذ يعيشون المرحلة الأخيرة في مسيرتهم بالثانوي التأهيلي. تلاميذ طوال القامة، بأصوات غليظة، لكن تصرفاتهم، تحمل بقايا الطفولة. منهم من بدأ في الحصة الأولى بالنحنحة، كأنه محرك يريد الانطلاق، ومنهم من تحول إلى حيوان أليف، وبدأ يقلد صوته، في محاولة إبداعية فاشلة، هدفها الاستفزاز فقط. لكن من كان يساعدك على الطمأنينة والثبات غالبية التلميذات، اللواتي نضجن بسرعة إلا تلميذة حلقت شعر رأسها، وأرادت أن تتحول إلى ذكر رغما عنه. وبين الفينة والأخرى، تطلق قهقهة مزلزلة، وفجأة، تقوم، فترى أمامك علال القلدة.



أمام هؤلاء التلاميذ، والله لو كنت أستاذة، سأستسلم في المواجهة الأولى، أرى عيونا تتغامز بينها، وأسنانا تظهر وتختفي، فأشك في نفسي، وأعيش وسواسا قهريا، ماذا رأى التلاميذ في ثيابي؟ هل وزرتي متخسة؟ هل حذائي قديم؟ هل وجهي غير متناسق؟ هذه الحركات منهم، تجعلني في وضعية حرجة، فتنهدم كل أفكاري.



أمام هؤلاء، تقاوم، وتصبر، لتجعلني أنا وأربع تلميذات نفهم الدرس. الباقي لا يفهم شيئا، ومن هذا الباقي فئة فشلوا دراسيا، واختبأوا في القسم.



بصدق، أنت معجزة يا أستاذي، نحن التلميذات الخمس، كن مثل وردات نبتن في مزبلة، فكنت يا أستاذي تسقينا وترعانا، لكي لا نموت، وتقاوم بشراسة زحف المزبلة.



أن تجعل هؤلاء التلاميذ في حصتك ينضبطون لكن في حصص باقي الأساتذة يثيرون الفوضى، أنت معجزة. علمتني بهذا التصرف، درسا لن أنساه في حياتي. مهما بلغ شغبنا، فإن فينا بذرة خير، تحتاج لرجل صبور حليم ذكي، يسقيها لتخرج ما ينفع الناس. كنت تتعامل معهم برقي إنساني عجيب، نظرة إليهم نظرة أبوية، فأحببتهم، فقابلوك بطوفان الحب.


كنت تتعامل معهم برقي إنساني عجيب، نظرة إليهم نظرة أبوية، فأحببتهم، فقابلوك بطوفان الحب.


إنك فعلت كل ذلك، من أجلنا نحن الخمسة، لتدرسنا، وتشرح لنا، وتتواصل معنا.


أعجز عن التعبير، حين أراك أول أستاذ يأتي إلى الثانوية، ويدخل إلى القسم، ويرتب مكتبه، وينطلق في الكتابة على السبورة قبل دخول التلاميذ. كنت أنظر إليك مثل أم، تنتظر أبناءها على أحر من الجمر، تحضر لهم كل ما يسعدهم. كنا نرى في وجهك الطمأنينة والراحة والهدوء، وهذه الحالة النفسية كانت تؤثر فينا.



أعجز عن التعبير، حين كنت أُكثِر من الأسئلة، عند نهاية الدرس، وقد يدق الجرس، لكنك تظل شغوفا بتدريسنا، وتبقى معنا إلى أن نشعر بأننا تأخرنا عن منازلنا، ولازال هذا السؤال يرن في أذني: هل من سؤال؟ كنت تشعرنا بالخجل من أنفسنا. وكنا نتساءل: من أين أتى هذا الإنسان؟ كيف تلقى تربيته؟



أنت بحق معجزة يا أستاذي، إنك تملك ألف مبرر لكي تكون كسولا في تدريسنا، لكنك لا تلتفت إلى مبررات الواقع وتصر على القيام بواجبك. بل أحيانا تبهرنا، بعدم خوضك للإضراب في المؤسسة، وتكون أنت الوحيد الذي تستغل بتفان عجيب.



أن لا تغيب ولو لمرة واحدة طيلة الموسم الدراسي، بل أن نرى أحيانا على وجهك علامات المرض، وتحضر إلى القسم وتدرسنا بحب وشغف، أنت معجزة بحق.



كم مرة دخلنا إلى القسم ووجدنا السبورة قد سقطت على الأرض، فتحولت إلى نجار لتعيدها إلى مكانها. كم مرة ندخل إلى القسم فنجده مثل مزبلة كبيرة، فتطلب منا، أن نجمع الأزبال، وتكون أنت أول من يقوم بذلك. لن أنسى، يوم طلبت منا، القيام بحملة النظافة في القسم، وسكبنا الماء، وأخذت المكنسة، وبدأت تصول وتجول، كأننا أبناؤك في منزلك. لن أنسى يوم جئت بصفحة خشب رقيقة، وجعلتها مكان زجاجة نافذة متكسرة. هناك ألف سبب يجعلك تتكاسل عن وظيفتك، لكن كنت تقوم بعملك كالعاشق الولهان، لا يبالي بالنتائج.


هناك ألف سبب يجعلك تتكاسل عن وظيفتك، لكن كنت تقوم بعملك كالعاشق الولهان، لا يبالي بالنتائج.


ما كان يدهشني، أنك لم تطلب منا درهما واحدا، لنسخ الفروض، وكنت تنسخها من مالك، لأن ثانويتنا لا تتوفق على آلة النسخ. لم نر منك شكوى، لم نسمعك تلعن الظلام، كنت مثالا في الكفاح والعمل.


أنت معجزة بحق أستاذي الكريم، قد تمر السنوات وننسى ما درستنا، لكن لن ننسى هذه القيم العظيمة، التي طبقتها في سلوكك: الحب، التضحية، البذل، الجدية، التشجيع...


شكرا لك أستاذي، أمام كل هذه التحديات، جعلتني أحصل على النقطة الأولى في الامتحان الوطني الثانية باكلوريا.


أنت معجزة، لأنك تثبت أننا نحن الذين نقهر الظروف، وليست الظروف من تقهرنا.


هذا أعظم درس تعلمته منك يا أستاذي العظيم..

وهذا الدرس لا يباع ولا يشترى..

إنه درس يقدمه بالمجان أساتذة قابضين على الجمر في التعليم العمومي...

شكرا لك أستاذي العظيم...

تفوقت في النقطة وتعلمت الأخلاق...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة